قبل أربعين عاما تقريبا من هذه الليلة 14/آذار/2010 لبس أبو محمد عدة المحارب ، وامتطى صهوة الليل والريح، متقلدا سيف العز والعزيمة .. ثم شرّق ، وغرّب ، واشتمل ، واقتبل ، حتى ناء الليل به ، وناءت الريح منه .. قطع مسافات لا تقل عن البون الشاااااااسع الذي يفصل الأذن عن العين .. ولو كان يدورـ كالقمر ـ في مدار الأرض ، لكانت دوراته لا تعد ولا تحصى ..
اليوم يا صديقي ، ترفع لكَ الشمس قبّعتها ، وتقفُ باستعداد واحترام .. فقد بقيتَ في البؤبؤ منها ، فلم تغمض الشمس عينَها عليك ، ولم يمسسْك منها اللهيب ..
مشيتَ يا صديقي ، على حدّ السيف تارة ، وبين أفنان المنى ومنعرجات القلوب تارة أخرى ، وتلفعْتَ بالمساءات ، وتصادقْتَ مع قطرات الندى ، وحبات البَرَد ، وأزاهير الحقول ، وعانقتكَ خرزاتٌ من مسبحة أمّك التي غزَلتْ ونسجتْ لكَ درعكَ الواقي وسترة النجاة ، من شعر جدائل نجمة الصبح ..
ها هي نقطة المنعطف يا صديقي ..فهل هي بداية المدى أم نهايته ؟؟
أهي بداية الرحلة الجديدة مع أقانيم الفكر ورؤاه ؟؟ أم هي نوع من الوجْد ، يحملك على بساط الريح ، لتعانق الأرض من فوق ، حتى تمتزجا في كينونتك الشفافة , وتمد لك الأرضُ كفيها كي تملأهما من الحناء والزعفران المجبوليْن بطهر دم الشهيد ...
أتذْكر محمود درويش : ( إن التشابه للرمال ، وأنتَ للأزرق ) ؟؟ ..
نعم ، هو قدَر الرجال الأعزة الذين أسرجوا صهوات الليل والريح والمدى ، وامتطوها سنين وسنين ، وحين اقتضت الرجولة ( أن يمدوا جسومهم جسرا ) ما توانوا، ولا هجعوا ، ولا تراجعوا ، ولا استكانوا ..
صباح الخير يا صديقي يا أبا محمد ..
سأتذكر معك بعض المفصليات ، فهل ترى هذا الوقت مناسبا ؟؟
لا بأس ، إنها بعض المحطات ، وقد يسمح الشيب والغربة بإكمالها ..
4
آخر لقاء لنا كان في 11/02/ 2010 ليلا ، نزلنا من السيارة ، برودة الطقس عززت الفتور الظاهري لمشهد الوداع ، التقينا خلفها ، كلانا مرتبك ، وكلانا لا يحب الوداع ولا لحظاته المؤثرة .. تبادلنا كلمات قليلة ، ثم ،
وككل مرة نتودع فيها ، تصافحْنا بسرعةٍ وبلا عناق ، وانفلت كفانا كصديقين لدودين تخاصما للتو ..
وافترقنا ، كل إلى سيارته ، وكأننا نهرب من شيء ما ..
1
كنا في مطلع عام 1970 وكان الشتاء قاسيا جدا ، وبيتنا في منطقة جبلية من حلب ، مكشوفة ومنعزلة ، وكنت طالبا في المرحلة الثانوية ، التقيت فيها الأخ الهادئ والوديع محمد مصطفى خليل ، الذي عبر لي عن رغبته بزيارتي في البيت ، وسيرافقه جاره وصديقه ، فرحبت بالفكرة طبعا ، وحين غبت عن المدرسة بسبب عمل جراحي بسيط أجري لي ، جاءا معا لعيادتي ، في يوم زمهريري مثلج وعاصف ..
كنت ممددا بفراش ملاصق للمدفأة الملتهبة بلا جدوى ، بدا لي الشاب نحيفا أسمر البشرة ، قليل الكلام ، أو ربما كان ذلك بسبب ظروف الزيارة الأولى ، التي أخذت طابع زيارة مريض ، ولم أكن في حال تسمح لي بتجاذب أطراف الحديث على نحو موسع ..
لكني وقتها عرفت منه أنه سيلتحق قريبا بالكلية الحربية ، وسيترك دراسته في دار المعلمين .. وبعد أن عوفيت ، ذهبت أنا والأخ محمد لزيارتهم في البيت بحي العقبة بحلب ، وكان استقبالهم لي مميزا ، فهناك صلات قربى بين أمه وأبي ، وكان والده ـ رحمه الله ـ موجودا ، فأفاض بطيب العلاقة بينه وبين أبي ، وبأننا أهل وجيران ...
وبعد فترة وجيزة ، علمت من محمد بالتحاق صديقنا بالكلية الحربية ..
3
قبل ثمانية وعشرين عاما تقريبا ، توقف بسيارته أمام بيتنا في حلب يودعني عائدا ـ على مضض ـ إلى دمشق ، وكان مثقلا بهمّ العودة ، ومتعبا من أمور شتى تتصل بالعمل ، رمقني كمن لا يريد فراقا ، لكن ليس هناك بد مما ليس منه بد ..
قلت له متعجلا الخلاص من اللحظة القاسية :
(وين ما تنقلنا
(بهالوطن نحنا منتنقل ..
{هذا مقطع من مسرحية (عودة فخرالدين) للأخوين رحباني وفيروز}
2
كنا في أواخر عام 1979، وكان الشتاء قاسيا جدا أيضا .........
( والبقية تأتي إن شاء الله .. )
( ترتيب أرقام الفقرات مقصود ) ..
وشكرااااا
14/آذار/2010
التعليقات (0)