قرر حمدو أن يصطحب معه زوجته كحلا ، في زيارة خارج حدود " الدولة كلها " ، يرافق فيها بعض رجالات الصف الأول من الضيعة ، ليقوم على خدمتهم وتسليتهم ..
وكان لابد من إجراءات كثيرة تسبق يوم السفر ، الذي سيكون نقطة فارقة في حياة حمدو وكحلا ..
فهو لم يفارق الضيعة إلا لضرورات قصوى ، كان أهمها يوم اصطحب كحلا لزيارة حلب تلبية لإلحاحها القاتل ..
أما كحلا ، فكانت تلك " زيارتها الثانية بعد مشوارها السابق إلى حلب ".. كما سبق لها أن خرجت من الضيعة ، إلى سراي اعزاز يوم توجّب عليها تسجيل زواجها من حمدو ..
لكن السفر الآن ، إلى خارج البلاد .. إلى عالم آخر ، لم يكن حمدو نفسه يحلم به .. فكيف الأمر بكحلا ؟؟!!
ثم ، إنه سفر بعيد ، ومضن ، وسيمتد أكثر من شهر ، فلمن ستترك كحلا دجاجاتها " المسكينات " التي لا تملك غيرها من هذه الدنيا الفانية ؟؟
سألتْ حمدو ، فنهرها غاضبا من إشغاله بهذه " الصغائر " ، في وقت يحتاج منه إلى رويَّةٍ وتفكر وتدبير ..
فلجأت لأختها ، وطلبت منها ـ وهي تغصُّ وتشرَق بدمعها ـ أن تهتمَّ بالدجاجات ، وتحميها من " الثعالب والسرقة " ، وأنها لن تنسى لها صنيعها ، وستكافئها عليه بعد عودتها سالمة غانمة من هذا السفر البعيد ..
ولكي يستحصل حمدو وكحلا على جوازي سفر ، اصطحبها إلى حلب ، ليصوِّرها ..
جلست أمام كاميرا المصور ، الذي اتخذ استعداداته لالتقاط الصورة ، وفي اللحظة الفاصلة ، نهق حمار من خلفها ، فأجفلها ، وأجبرها أن تنهض مذعورة ، ركض حمدو لإعادتها ، وتقدّم المصور محاولا بيديه ، تعديل جلستها ورأسها ليواجه العدسة ، فذعرت ثانية قبل أن تهدأ من سابقتها ، وضربت له يديه بقوة وأبعدتهما عن رأسها ، وهي تصرخ به كأنه ارتكب فظيعة ما فوقها فظيعة ، وبدأت السباب والشتائم تتقافز من فمها مع كومة من الرذاذ اللزج ، وهجمت عليه تكاد تفترسه ، لولا أن حال بينهما حمدو ، لكنه ـ وتحت قوة كتلتها الجسدية الضخمة التي هاجمته بها ـ التصق بالجدار خلفه ، فقرقعت عظامه كأنها فخار يتحطم ..
وهنا ، نسيت كحلا المصور الذي فرَّ هاربا مستجيرا ، بجسده النحيل ، ولم يعبأ بسقوط قبعته المميزة ، فصبّت غضبها كله على حمدو ، وهي تصرخ به :
" يا كلب يا ابن الكلب ، أنت متفق معو عليّ ، يا صفتك يا نعتك " يا ... يا ... يا ....
" شلون بمِد إيدو ع راسي وبتجي بتحيميلو بدال ما تاكلو بلا ملح يا واطي يا ندل ؟؟!! لو ما كنت أندل منو ما بتحيميلو " ..
تجمّع بعض المارة ، وانفضوا غير عابئين ، وجلس حمدو على كرسي التصوير واضعا رأسه بين كفيه :
كيف السبيل إلى تهدئتها ؟؟
فلا بد من الصورة للحصول على جواز سفر ..
لم يمر سوى دقائق قليلة ، كانت كحلا قد ألقت بجسدها فوق الأرض ، مستندة إلى الجدار ، متهدجة الأنفاس ، وقد تصببت عرقا ، وتهدّج صوتها حتى صار بالكاد يسمع حمدو سبابها وتمتماتها التي لم تتوقف ..
كان حمدو يزفر أنفاسا متلاحقة متهدجة ، ويحوقل ويستعيذ بالله ، عندما جاء رجل وامرأة يسألان عن المصور ..
نهض حمدو متلفتا وباحثا عنه .. فوجده في الصيدلية القريبة .. اعتذر منه لما تسببت به زوجته المسكينة الجاهلة " اللي ما بتفهم شي " ، وهي لا تقصد إهانته أو الإساءة إليه ، ثم قال له :
" في رجال ومَرَة عميسألوا عنك .. دخيلك خلصنا من هالشغلي ،وبترجاك تحرّك راس المَرَة قدام كحلا ، بلكي بتقتنع بأني غير مذنب على الأقل " ..
عاد المصور مرتعدا ، حذرا ، ومتجاهلا كل ما جرى ..
وحين جلست المرأة على كرسي التصوير ، بالغ المصور قليلا في تحريك رأسها ، وكحلا تنظر ، وتنفخ أنفاسا أهدأ من ذي قبل ..
كان حمدو يراقب ذلك جيدا ، وقد أيقن أن الخطة نجحت ..
استكانت بعدئذ كحلا ، وقبلت أن تجلس أمام الكاميرا من جديد .. لكن المصور آثر السلامة ، وبدأ يحركها بالكلام والإشارة ، من بعيد ، حتى التقط الصورة ، وانتحى جانبا يظهّرها بوعاء مليء بمحلول خاص ..
المهم .. استلم حمدو الصور المائية الباهتة ، وتمتم : " تفو ع الصور وع اللي بقا يعيدا " ..
في الصباح الباكر من يوم السفر ، ساعد حمدو معاون البوسطة في تحميل الأغراض على ظهرها ، وجلست كحلا وحيدة في كرسي مزدوج لا يتسع لغيرها ، وسط مشهد وداعي مؤثر ..
وفي وقت متأخر من الليل ، وصلوا مركز الحدود البرية ، سلم حمدو للمعاون ، الجوازات التي جمعها من المسافرين ، ونزل الركاب يبحثون عن دورة مياه ، وأمكنة يريحّون فيها أبدانهم بالاستلقاء ، بعد يوم طويل من المخاض الذي أنهكهم طيلة أكثر من خمس مئة كيلو متر ، في مثل هذه البوسطة التي تفتقد لكل أسباب الراحة والأمان ..
لكن الجود من الموجود ..
كان ثمة عدد من الغرف المتواضعة شكلا وأثاثا ، دفع المقتدرون أجرا باهظا ليقضوا فيها بقية ليلتهم ، أما حمدو ، فقد اصطحب كحلا خارج سور السلك المعدني المحيط بالغرف ، واستلقى وهو يقول لها : انقبري هون ..
احتجت : " ليش ما منام جوّا ؟؟ مو أحسن من هالنومة المبهدلة " ؟؟
أجابها وهو يزفر : " بعرف جوّا أحسن .. بس جوّا التيل المانع بفلوس وهون ببلاش .. وين الفلوس ؟؟ معك " ؟؟!!
ارتمت مستلقية قربه ، وهي تسب وتلعن " هالعيشة وهالسفرة مع هالأندبوري المفلس " ..
ومع خيوط الصباح الأولى ، كانوا ينادون عليه للمثول أمام موظف الجوازات .. لكز كحلا ، وطلب منها أن تتجهز هي أيضا للمثول معه ، وقال :
" اش ما قالولك قولي : إي .. وإن قالولك اسمك كحلا فحلا نحلا بحلا محلا ، قولي : إي .. لا تقولي هادا ما هو اسمي .. اصحي منيح واعرفي اش تحكي أحسن ما يرجعوك " ..
نهضت كحلا تنفض ثيابها وتسوي غطاء رأسها ، ومشت خلفه ، تتمايل على ساقين منهكتين مثقلتين بما تحملان من كتل لحمية لدنة رجراجة ..
وقفا أمام الموظف أغبريْن متعفرّيْن ، كأنهما خارجان من تحت حطام زلزال مدمر ، نظر إليهما الموظف باشمئزاز ، وسألها وهو يتفرس وجهها وصورتها في الجواز :
أنت نحلا ؟؟
انتفضت كحلا ، وصرخت بوجهه : كحلا .. كحلا .. أنا كحلا .. ضيربك العمى ؟؟ ما بتعرفني ؟؟
أسرع حمدو والحاضرون ، يرجون " جناب الموظف " ألا يرد عليها سوء كلامها :
" مشان ألله يا طويل العمر ، لا تواخزنا ..هَيْ مرَة كبيري وما بتعرف غير هيك ... وهَيْ أول مرّة بتطلع من بيتا .. الله يوفقك امسحا بدقنا ولا تنزعج منا .. مشينا ع خير الله يخليلك ولادك " ..
غضب الموظف ، وأرغى وأزبد ، وأقسم ألا يختم جوازها ، وأن تعود إلى قبرها الذي جاءت منه ..
وحاول الحاضرون ثنيه ، لكن جهودهم وتوسلاتهم ودعاءهم له ، باءت بالفشل ..
انتصف النهار وهم يحاولون معه ومع غيره من زملائه لعلهم يقنعونه .. لكن بلا فائدة ..
فاسمها في الجواز مكتوب " نحلا " وهي تقول : إنها " كحلا " .. ولا سبيل لها إلا العودة ..
جلس حمدو يندب حظه العاثر برفقتها وبعيشته " السودا " معها .. ماذا سيفعل الآن ؟؟
لا يمكن أن يتركها هنا ويتابع مشواره ، ولا أمل بأن تكمل طريقها معهم .. فليس سوى أن يعودا معا ..
بكت كحلا .. وشاحت وناحت ، واستجارت .. لكن " مابتعرف أنو قلوبن حجر " ..
وبعد يومين حين وصلا إلى ساحة تحت الجامع ، التف الناس حولهما يستفسرون عن " المصيبة الكبيرة التي أودت بحياة الجميع ، ولم ينج منها إلا حمدو وكحلا " ..
ولم يهدأ نحيب الناس إلا بعد أن روى لهم حمدو " حكاية كحلا ونحلا " ..
الأحد ـ 20/02/2011
التعليقات (0)