كثيرا ما أبديْتُ إعجابي بمجموعة من الصور ، التقطها الأخ المبدع محمد مصطفى نشاب ، من مئذنة الجامع الكبير في الساحة .. فبدت نبل كما نحبها ونتمناها .. جمالا ، وأناقة ، وانسيابية مع المدى المفتوح الذي عبّر ، في لحظةٍ ما ، عن الانفتاح الحقيقي لقلوبِ وعقول أهالي المدينة العزيزة ..
ومع ذلك ، كانت تلك الصور خالية من أي أثر لحياة الناس ، وهي ـ على روعتها ، وتمازج ألوانها ، وفنية زوايا التقاطها ـ توصَف في دروس الرسم المدرسية ، بأنها : طبيعة ساكنة ، لا شيء فيها يتحرك ، لولا مياه النافورة المتدفقة في بعضها ..
من هنا تولدتْ الفكرة ..
لماذا لا أحاول أن ألتقط صورا من نفس المكان ، للساحة والشوارع المؤدية إليها ، في وقت الذروة ، ترصد صورة الحياة ، والناس ، خلال حركتهما اليومية ، الرمضانية الاستثنائية ؟؟!!
بالطبع ، لم أقصد أن أقلـّد صور الأخ محمد .. فهي عصيَّة على ذلك ..
لكن ، أردت أن تسرق عدستانا ( أنا والكاميرا ) بُرَهًا خاصة من الزمان والمكان .. وتنفتحان على المدى الدائري ، الذي يمكن رؤيته جيدا من شرفة المئذنة ، وعلى ارتفاع لا يحده حد .. بحيث تكون البؤرة الجنوبية ـ عند أقدام أولئك السابقين ـ البداية والنهاية .. فهي مركز حياة الانتظار الأبدي لنا جميعا ..
ثم ، إن أي لحظة زمنية تمر وتعبر ، دون أن تقتنصها ، تماما في زمانها ومكانها ، تصبح ماضيا شأنه شأن ملايين السنين التي سبقته ، ويستحيل بعدها استعادتها بالصورة ، أو بأي شيء آخر ..
كل ما في الأمر : أن شهر رمضان هذا العام ، كان بنكهة العشق الوردي ، بعد طول غياب .. وكنت مأخوذا بأجوائه التي لم يتسنَّ لي ـ خلال السنوات السابقة ـ معايشتها عن قرب ، والاستمتاع بتلك النكهة الفريدة المميزة ..
ومن ناحية ثانية ـ وهي الأكثر إغراء ، ربما ـ ستكون فرصة نادرة بالنسبة لي ، أن " أتطاول " على التل المَهيب ، فأفكَّ العقدة التي ما تزال تمنعني من الصعود إلى سطحه ، ولأراه من فوق ، واستكشف ذراه كلها دفعة واحدة ، وهذا لا يتحقق إلا من طائرة أو منطاد ، أو .. من مكان مرتفع كهذا ..
كان الوقت بُعيد صلاة الظهر ، وقد بدأت الساحة والطرق المحيطة ، تستعدُّ لاستقبال المتسوقين ، والسيارات العابرة ، أوقفت سيارتي قرب باب الجامع ، ودخلت باحته ..
التقطتُ بعض الصور ، وتلفتُ ، فلم أعثر على بابٍ يفضي إلى أعالي المئذنة .. دخلت المصلى ، ولم أكد ألتقط أي صورة حين فاجأني شاب ، يطلب مني بحزم ، عدمَ التصوير " لأنه ممنوع إلا بإذن من إمام المسجد " ..
انبلستُ للحظات .. وصدمني هذا الأمر القطعي المفاجئ .. لكني استعدت زمام المبادرة ، وشرحت له كيف أنه لم يمنعني أحد من التصوير في كل الأماكن المقدسة التي زرتها ، من مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى مساجد ومزارات وكنائس في أماكن كثيرة ..
فقال بإصرار : هنا ممنوع التصوير ..
دار بي المكان ، وأنا أتساءل في نفسي : أيكون ثمة من رآني أدخل المسجد ، فأرسله ورائي ، لاختلاق موقف يشبه ما نراه من مقالب في " الكاميرا الخفية " ؟؟
سألته : ألم تعرفني ؟؟
قال جادّا ، هادئا ، ومبتسما : لا ..
تنفست الصعداء ، وقلت في نفسي : الآن ، وبعد أن يعرفني ، سيتراجع حتما ..
قلت له : أنا فلان ابن فلان ..
تلقـَّى الاسمَ ، وصمَتَ مُطرِقا ، كأن المفاجأة عقدَتْ لسانه ، وهو الذي لم يكنْ يتوقع أني من المنطقة كلها ، ثم قال : أهلا بك يا ابن خالتي .. مرحبا بك .. أرجو أن تعذر جهلي بمعرفتك ..
قلت له : لكني لم أعرفـْك ؟؟
قال : أنا ابن إمام الجامع .. وأظنك تعرف صلة قرابته بوالدك ..
ثم أبدى مزيدًا من الأسف والاعتذار ، حتى رجوْته أن يكف عن ذلك ..
شكرته ، وعبّرت له عن رغبتي بالصعود إلى المئذنة ، لالتقاط بعض الصور ، للساحة ، ومحيطها ، في هذا المهرجان الرمضاني ..
فقال ملتفتا ومشيرا إلى باب وراءه : هذا هو الباب ، لكنه مقفول ، والمفتاح ضائع ، سأتحرى عنه اليوم .. لعلي أعثر عليه ..
سألته : متى يمكن أن تجده ، لأعود ؟؟
قال : بعد العصر إن شاء الله ..
المهم .. لم ينفعني كل الأسف والاعتذار اللذين أبداهما ابن خالتي العزيز ، ولم يُعثـَرْ على المفتاح ، ولا حتى على مفتاح باب سطح المحلات التابعة للجامع .. ( وكان يمكن أن يفيَ بنصف الغرَض المُبتغى ) ..
ومع تعذر الصعود إلى المئذنة ، انقطع الشك المُخادع ، باليقين القلبي المطمئن الوديع .. ووقع ما حاولت مرارًا أن أتحاشاه ، أو أتجنبَه ، بإرادتي حينا ، ورغمًا عني أحيانا أخرى ..
لم يبقَ مَناصٌ .. انسَدَّت المنافذ ، وباتت المواجهة حتمية ..
فلطالما تهيَّبْتُ هذا اللقاء ، وأنا أحملُ هاجسَهُ المضنيَ ، على مساحة الزمن الممتدِّ في أفياء الروح الولهى ، وفي كهوف الذاكرةِ الموجوعةِ بكل آثامي ، وحرائقي ، وخيباتي الدفينة ، وغاباتي الوهمية ..
والمسافة بين المئذنة والتل ، كالمسافة بين الحاجبين المنفصلين .. تدور العينان تحتهما في المِحجَرَيْن برهة ، فيتلاشى البُعد ، ويذوب في البؤبؤ مع بقايا الدمع .. وتكبيرات العيد ..
في شمس الظهيرة ، عبرتُ الزقاق الغربي الضيق الذي يُفضي إلى سفح التل ، مستعينا بالصبر والصيام ، على مواجهةٍ مؤجلةٍ منذ نصف قرن ..
لم أدر السرَّ الذي جعلني ـ للوهلة الأولى ـ أتخيَّل نفسي ماشيا على سطح القمر ، حيث التضاريس المتنوعة ، وحيث لا ماء ولا خضرة ولا حياة ..
فكل شيء على سطحه يابس ، أو خراب .. لولا فتـَيَان هاربان من رمضان ، باغتـَهما ظهوري ، فدسّ كل منهما سيكارته ، وهرولا نازليْن ..
حتى العلب المعدنية الفارغة ، كانت كئيبة وكالحة الألوان ..
ومع ارتفاع المكان ، أحسستُ أني اقتربت من الشمس أكثر ، فازداد لهيبها فوق رأسي ، وصار ريقي أعجز من أن يبللَ حلقي وشفتيَّ ، وبدأت الأشواك الكثيفة تعلق في ثيابي ، فتعرقل تجوالي في محيطه ، وتخدش قدميّ عبر الصندل ، بينما تفِرُّ السَّحالي والحشراتُ المتنوعة بين الحين والآخر ، إذ تحسُّ بمَنْ يقضُّ عليها هدوءَها وبَياتها ..
فكل ما فوق التل ، يبعث على الإحباط والخيبة ، بالرغم إطلالته الفوقية المتعالية ، التي تشعِرُكَ أنكَ جزءٌ منها ..
ومن هناك ، بدا جليًّا ، كيف ترتمي البيوت عند أقدام التل ، لائذة به ، كأنها تتسابق إلى أحضانه ، خوفا من الأزل المجهول .. بينما لم يتأخر التل ، وما حوله ، عن التمسّح بأطراف المئذنة المهيبة ، أسوة ببيوت تنداح حولها كسوار أثري ، تمتد حتى تواجه صَدَّها واقفا لها بالمرصاد ، عند القريعة ، وفي ضهرة النحلة ..
ورغم ذلك ، فقد تجَمَّعَ في صدري بركان من الإحباط والخيبة والانزعاج واللوم ، ما كنت قادرا على تحمله ، لولا فضائل شهر رمضان المبارك ..
وكان سبب كل ذلك ، العراقيل التي حالت دون صعود المئذنة ..
وأما اللوم .. فهو بيت القصيد في كل هذه " المعميكة " ..
إن مَنْ صَمَدَ ، وصَبَرَ ، وقاوَمَ نصفَ قرن من الرغبة والتطلع والاندفاع ، سقط عند أول امتحان للمواجهة ، وبات فريسة بركان ثائر ، يمد لكَ لسانه هازئا مما أنت فيه :
" أهذا هو التلُّ الذي تهَيَّبْتَ صُعُودَهُ منذ أن وَعيت " ؟؟!!
مشيتُ حوله محاذِرا انزلاق التراب إلى الهاوية ، التقطتُ صورًا كثيرة أحسستُ أنها بلا لون ولا رائحة ولا طعم ، وتملـَّكني يقينٌ بأنها لن تشفيَ غليلي .. وأنها لن تكون بالجودة التي أبتغيها .. ولا بالفنية التي أؤمِّلها ..
كنت ألتقطها بلا شهية ، ولا شوق ..
اللهم ، إني كنت أصوِّر ، وكفى .. حتى فرغت بطارية الكاميرا ، فاستكملت التصوير بكاميرا الهاتف المحمول ..
ليكن .. ضحكتُ ، ساخرًا من حالي :
" ما عاد البَللُ يؤثر في الغريق " ..
كانت عدسة عيني صادقة معي تماما ، فاستهجَنتْ مني حماسيَ الزائدَ لالتقاط الصور .. وهذا ما تأكـَّد لي حين استعرضتها على شاشة الكومبيوتر ..
فأضيفَ الندمُ للحالات التي سَبقتْ ، وبدأتُ أشعر بهَوْل ما فعلتُ ، وبحجم الكارثة التي وَقـَرَتْ في أعماقي ..
كنت أجرجر خطاي نازلا عن السفح ، أمسح العرق النازف بما تبقى من مناديل ورقية ، وأتساءل في نفسي ، وأجيبها ، حتى صَدَقتْ فيني كلماتُ الأغنية المصرية الشهيرة القديمة :
قرب الشوق يوصل لي بعد الفرقة يا روحي
تعرف اللي حصل لي ؟؟ أمشي أكلـِّم روحي ..
................
................
أين وقعتُ في الخطأ ؟؟
لا أدري ..
إن كنت وقعت ، فلماذا وقعت ؟؟
لا أدري ..
هل للجَوِّ العَكِر الذي سبق ، تأثير فيما وقع ؟؟
لا أدري ..
هل كان تأثير الصوم عاملا في فشل كل شيء ؟؟
لا أدري ..
أكان يجب أن أتراجع عن الصعود إلى التل ، وأن أتغلب على هذا الاندفاع ، كما حصل لي في تراجعي عن حضور مسرحيةٍ للسيدة فيروز ؟؟
لا أدري ..
لو حضرتُ مسرحية السيدة فيروز آنذاك ، هل كنت سأصابُ بمثل ما أصِبتُ به الآن ؟؟
لا أدري ..
أحاول جاهدًا ، ألا تطول مقالاتي ، لكنها لا تلبث أن تصير ككرة الثلج .. لماذا ؟؟
لا أدري أيضا ..
تتفاعلُ الكلماتُ السابقة ، وتتصارع في رأسي ، منذ مروري الأخير جانب التل ..
كانت الساعة التاسعة صباحا ، من ثاني أيام عيد الفطر ..
أرخى اليومُ الأول منه على الناس أثقالا ، فرَضتـْها الطقوسُ والمراسمُ الاحتفالية الاجتماعية ، مضافة إلى الأثقال والمتاعب والهموم والضغوط النفسية والمادية ، التي تترافق مع الأيام الأخيرة من شهر الصوم المبارك ..
فكانت الشوارعُ التي مررتُ فيها ، والأزقة والساحة الرئيسية خالية من أي حركة .. حتى أدهشني ذلك ، فدرتُ حول النافورة مرتين ، أتأكد من الفراغ الذي تجسَّدَ لي بهذه الوحشة للمرة الأولى ..
إنه ، وحتى في الساعات المتأخرة من الليل ، لا تنام ولا تهدأ الشوارعُ إلى هذه الدرجة من السكون المطبق ..
وكأن التجول ممنوع فيها .. أو أن أهلها غادروها جميعا ، أو هم نائمون جميعا .. أو ........
وعندما وصلتُ عند صالة الأفراح الشرقية ، وقبل أن أنأى عن الفضاء الذي أعشق ، ترجلتُ من السيارة ، والتفت غربا .. ألقيت نظرة الوداع ، باتجاه آخر ما يحبُّ بصري وقلبي أن يرياه ، ويحملاه معهما ..
وقبل أن تتحول اللحظة إلى مشهد درامي موجع ، كنتُ أقطع المكانَ هاربًا باتجاه الشرق ..
إن كثيرا من قراء هذا المقال ، سيعتقدون أني مبالغ جدا في التوصيف والتأثير والنتائج ، والمنعكسات ..
لكن الحقيقة ، هي تماما ، تماما كما نقلتها لكم ..
وثمة خيبتان أخريان ، من نوع آخر ، سبق أن وقعتُ فيهما :
الأولى : في حلب ، في نهاية عام 1979 ..
والثانية : في المسطومة ( إدلب ) ، ودمشق في عام 1987 أو 1988 ..
هل ستنتظرون مني روايتهما مستقبلا ؟؟
لالالالالالالالالالالالالالالا أدري ..
الثلاثاء ـ 23/11/2010
التعليقات (0)