مواضيع اليوم

نبش في ذاكرة الصبا

فاطمة الزهراء

2009-02-23 10:38:31

0

الشمس سلطت أشعتها على "أنغور"، استفقنا من نومنا لنجد جدتي المجتهدة قد أعدت لنا الفطيرة اللذيذة و قهوة سوداء معشبة...تناولنا فطورنا ثم هرولنا أنا وأختي لمرافقة جدتي إلى ملوية، ركبنا على الحمارة بفرح كبير لا تضاهيها فرحة من يركبون أفخم السيارات، وسر سعادتنا يكمن في أننا ذاهبات إلى ملوية..ستقوم جدتي هناك بالتصبين و ملء أباريق الماء من "العنصر" ، أما نحن سنلعب ،سنمرح، سنرمي بالخبز لتتجمع الأسماك، و سنبحث عن صديقتنا الوفية صاحبة القبة الخضراء "السيدة سلحفاة" ...الحر اخذ في الارتفاع بينما الحمارة تمشي ببطء، فالملابس المتسخة من جهة، والأباريق من جهة أخرى وسعادتنا فوق ظهرها، أظنها تشبه تماما  مايسمى بالمواطن في دول العالم الثالث، فمن جهة عليه أن يتحمل ثقل الضرائب التي يتوجب عليه أن يملأ بها جيب دولته المتسولة والممتصة لدماء رعاياها ، و من جهة أخرى قيود وكتم للأنفاس مما يولد لديه عقدا و أمراضا مزمنة يرتفع ثمن معالجتها أن لم يصبح مستحيلا في ظل جموح العولمة ومعها  مسلسلات الخوصصة التي لا تنتهي . وزيادة على كل هذا عليه أن يحمل فوق ظهره تكاليف أقزام سمان ليجلسهم في قبة البرلمان. لكن أما كان جديرا بحمير القرية أن يرفعوا من حدة أشكالهم النضالية،كأن يقوموا مثلا بمسيرة نهيقية حاشدة، أو أن يخوضوا اضرابا عاما عن الطعام، من المؤكد أنه كان سيستجاب لمطالبهم فأنى لأهل القرية بتحمل كل ذلك النهيق مرة واحدة ، ثم إنهم لا يمكنهم الاستغناء عن الحمير لما يقدمه من خدمات جليلة في سبيل مواصلة العيش بأسلوب بدائي. لعمري ما أدركت وأنا في تلك السن أن حمارة جدتي مناضلة تنتمي إلى اتحاد الحمير القروي و إلا فلم كانت تبرك لنا في كل مرة ينفذ صبرها؟...الحمارة تواصل سيرها ترفع رجلين وتضع أخريين بمشقة بالغة، الحجارة والعقبات ممتدة على طول الطريق في هذا العالم المنعزل الذي يسميه سادتنا السياسيون بالعالم القروي ، ينتابني الاشمئزاز عندما أتذكر تلك الأفواه المفتوحة عن آخره للنطق بكلمة "عالم قروي" مرفقة بمشاكله البئيسة، عادة قبيحة يمارسها القادة الحزبويون مع كل مناسبة انتخابية...الآن بدأنا نرتجف من على فوق الحمارة ، لقد اقتربنا من ذلك الممر الضيق جدا، إنها  حافة الخطر..هو ذلك الممر الذي كان يرعبنا،إن اجتزناه نكون قد ضمنا النجاة والوصول إلى هدفنا، وهنا تطلب منا الجدة كعادتها ألا ننظر أسفلا ونصوب نظرنا نحو الأفق المرغوب فيه حتى نحافظ على توازننا وهدوئنا ، أما جدتي المكافحة فتمشي بوثوقية كبيرة ، إنها القرية بذاتها ولا شيء يهددها ،كانت هي من توجه الحمارة وتقوم بإنهاضها عندما تبرك لنا. بعد اجتياز العقبة ارتسمت على شفاهنا بسمة طفولية لأننا دخلنا "أخليج" ...السنابل ، الفول، الفاصوليا ...كل شيء مخضر هنا ، أما الأقحوان وشقائق النعمان فيضفي على المكان جمالية مبهرة..نزلنا من على الحمارة وأكملنا الأمتار القليلة على أرجلنا إلى أن وصلنا  نهرنا الأخضر الهادئ ، جدتي أخذت الأباريق لتملئها من "العنصر" ، أما نحن فبعد أن ملأنا حصتنا بدأنا في ممارسة طقوسنا الطفولية ، خففنا ملابسنا وقفزنا في النهر ، ماء النهر كان باردا ومنعشا ، بدأنا  في التمثيل الذي كنا نجيده، فأنا امثل دور الملكة الناهية الآمرة وأجلس وسط الماء باستعلاء ،و أختي تلعب دور الخادمة الطيبة المطيعة لملكتها ، فتقوم بملء قدح بالماء وفرغه فوق رأسي و تحك أطراف جسمي ..و بعدها نخرج إلى الرمل ونصنع منها قصورا ثم تأتيني بالصدفات على أساس أنها مجوهراتي و ممتلكاتي ، كم كنت استمتع بممارسة الاستعباد والأمر و الصراخ  عند الغضب ، لم أكن أدرك آنذاك أنني كنت أحب الانتماء إلى طبقة البورجوازية المستبدة، و أني كنت أمارس طقوسا تهين كرامة البشرية، وأحمد الله أني لم أكن أفهم شيئا من هذا و إلا كنت قد حرمت نفسي من أشياء كثيرة ممتعة أيام الطفولة ، ...نكمل التمثيلية ثم نعود للنهر من جديد ، نرمي ببعض الخبز لنستمتع بالتفرج على الأسماك وهي تتجمع حوله، ثم نرمي بقطعة طماطم حتى نلتقي بصديقتنا السلحفاة، ننتظر لبضع دقائق ثم تأتينا الدلوعة متثاقلة بطلعتها البهية، ربما كانت تشبه عروس الزمن الغابر عندما كانت تتثاقل على الرجل، لو كانت من سلحفاة القرن و الواحد والعشرين  لوجدناها مجملة بكل أشكال المساحيق و حاضرة قبل الموعد. الجدة لازالت منهمكة في التصبين ، نعود نحن لمساعدتها في فرك الملابس، خاصة سراويل الجينز المتعبة، لم يتبادر إلى ذهني آنذاك أن استفسر لما كل هذا الوسخ في الملابس الرجولية ؟ و لم على المرأة أن تتحمل دائما فركها ؟ فيما لا يكلف هو نفسه في الحفاظ على طهارته لأن هناك مخلوقا ضعيفا اسمه المرأة عليها أن تتحمل أوزاره بدون مناقشة. و لماذا تضيع المرأة كل هذا الوقت في إزالة الأوساخ بإتقان رغم انه لن يرضى بمجهودها وسيبحث عن نقطة وسخ واحدة ليعلق عليها ساخرا عما إذا كانت فعلا قد صبنته بحق!! ثم سيمضي مستهترا ويصر على تدنيس ثيابه خلسة شر دناسة حتى يضمن ألما أكثر في فرك سرواله من طرف الزوجة المغلوبة على أمرها...لم تكن براءتي آنذاك ليتبادر إلى ذهنها مثل هذه الأسئلة، وهذا من نعم الله علينا في أيام الصبا المفعمة بالبراءة وحب المشاكسة وتقليد أخطاء الكبار عن حسن نية.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !