مواضيع اليوم

نبتون يحتفي بالطبيعة دراسة في ديوان الطريق الحجري لرشدي العامل

عمار العراقي

2009-06-07 17:17:55

0

( نبتون يحتفي بالطبيعة )
دراسة في ديوان (الطريق الحجري) للشاعر رشدي العامل

تعود هذه الدراسة إلى السنة التي صدر فيها ديوان رشــدي العامل الأخير( الطريق الحجري) وهي سنة 1991، غير أنها بقيت ساكنة في حواشي الديوان تنتظر أن انفض عنها الغبار، وقد كنت لا أجد فيها سوى ملاحظات قارئ عابر كتبها بخيال مترف.
وقد جاء يوم قمت فيه بتجميعها على ورقة مستقلة فوجدت أنها تحتوي على مادة جيدة ، وملاحظات لا يمكن أن تكون عابرة و لربما تفتح طريقاً لمعرفة اكبر بعالم هذا الشاعر.
ديوان( الطريق الحجري) أو ديوان ما بعد الغياب كما يحلو للبعض ان يسميه صدر بعد رحيل الشاعر حاملا معه رحلة عناء طويلة مع المرض استحضر فيه الشاعر كل أدواته ليواجه إحساسه بالأفول.ولم يغير أسلوبه المعروف ولا ترك مفرداته الأثيرة إليه ،بل أصبح أكثر التصاقا بها ، متوسما فيها أن تعبر به إلى المرفأ الذي طالما حلم به .فكانت مفرداته أكثر وضوحا وانشدادا إلى بعضها تسير معه حيثما سار وتتجمع مشكلة بؤرا متسلسلة وتنعزل حتى تصل إلى أدق التفرعات فلم يكن هو في هذا سيد مفرداته ،بل كانت هي دليله إلى ابتداع الفكرة وأداته لانتقاء الصورة،حتى أصبح شعره عبارة عن لوازم تتردد في اغلب القصائد إن لم تجد إحداها تجد نظيرتها ، فأنت عندما تتصفح الديوان تفاجأ بهذا الكم الهائل من المفردات التي تتكرر وبإصرار تكاد لا تخلو منه قصيدة.
وقد رأيت أن افتتح دراستي هذه بالمرور على مفردات الشاعر تلك وإرجاعها إلى بؤرها الأصلية لنرى كيف غاص الشاعر في أدق تفاصيلها، فلم ينسَ شاردة ولا واردة الا أتى بها.
ولو أردنا أن نكون أكثر دقة فإن تلك البؤر لا تعدو عن كونها بؤرة واحدة يمكن ان نسميها (الطبيعة) وهذه المفردات يمكن أن تتفرع إلى ثلاثة تجمعات أدق تفصيلا هي:
1/مفردات البحر 2/ مفردات نباتية 3/مفردات الطبيعة
أولا: مفردات البحر:
تشكل هذه البؤرة اكبر تجمع للمفردات ازدحم بها الديوان وقد جعلها الشاعر طيعة بيده ، يصل بها إلى صوره وأفكاره وقد جاءت المفردة الأصلية بأشكال عديدة (بحر ، بحـــار،البحر)ومتعلقاتها كذلك في صور متعددة ،مفردة وجمعاً،والملاحظ انها تتسلسل وتتدرج بالنسبة لقربها وارتباطها بالبؤرة الأم وكما يلي:
المركب والسفينة ومتعلقاتهما (شراع،صارية، ربان، ملاح، بحّــار)
الجزيرة / المرفأ /الميناء /الفنار
المحّــار / اللؤلؤ /الصدفات / الأصداف
الأمواج / الأنواء / النــــوء
وقد تعددت طرق التعبير في هذه البؤرة لدى الشاعر ولكنها لا تتعدى ثلاث طرق كانت هي الأبرز في إيراد مفردات البحر.
1.مجيء المفردة وتنويعاتها مرة واحدة في القصيدة أو المقطع، وهو كثير
2.حشد عدد كبير من المفردات المتوفرة في قاموسه البحري في مقطع واحد فلو قرأنا المقطع الأخير لقصيدة( الشاعر راحلاً) لوجدنا إن المقطع يشكل مثالا نموذجياً لهذه البؤرة والتي تجمعت مفرداتها فيه بشكل واضح للعيان.
ص 44/أقول لكم غادروني/غادروا مرفأ/كان في الفجر صبحاً/وفي الليل أشرعة من نهار/لم يعد في مواجهة البحر حتى الفنار/هاجرت منه كل الصواري/وكل المراكب والأشرعة
3. وقد لا يكتفي الشاعر بحشد المفردات في المقطع الواحد فيقوم بحشدها في السطر أو الجملة الواحدة كما هو في السطر الأخير من المقطع السابق وكذلك في ص /263 حيث يقول: والريح على أشرعة المركب في البحر تدوي
وفي ص/ 98 حيث يقول:نحن شراعا مركب مبحرٍ
وقد استخدم الشاعر تلك المفردات بحرفية رائعة وطوعها لأفكاره وألبسها قوالب رؤاه مؤسساً لعلاقته بالبحر منذ بدايتها وهو يتطلع إلى البحر ويرغب في الذهاب إليه.
ص 62/وخذيني للبحر/أشم طراوة رمل الجزر المنسية/اقتات الملح/وارضع ثديَ الماء
ويبدو إن هذه العلاقة قد أخذت تتوطد شيئاً فشيئاً وكأن البحر قد لاحظ مدى شوق الشاعر إليه ورغبته في الدنو منه، فأخذ البحر يدنو منه والأشرعة تغريه والأنواء تدعوه....
ص 96 البحر يدنينا لأسراره/ص 99أشرعة في البحر تدنينا/ص 164 تحلم بالقصائِد/ والبحر يدنو منك/ص 184 تراك تفاءلت / حين وجدت طريقك للبحر يدنو
ص278 ماذا ترقب عند ضفاف الجزر الخضراء/ يغاويك الوهم / وتغمرك الشمس وتدعوك الأنواء
وإذ يخوض الشاعر غمار البحر ويستجيب لإغراءاته نراه يصبح بحاراً محترفاً يزور بحار الدنيا ويرحل في كل مدنها منفقاً عمره فيه.
ص76 أرحل في كل زوايا مدن الأرض/ وأبحر في كل بحار الدنيا/ كل سنين العمر
وهو يجد في الجزر مهرباً وملجأ ً ،والبحر يحاصره ويحيط به حتى في أحلامه .
ص43 سأمت الوجوه خذوني / إلى جزر لا تتلصص فيها العيون على بعضها كما يرى في الشراع أملاً يلوح ثم يغيب.
ص255 يا جبيناً مَرَّ في واحتنا / لاح في الأفق شراعاً وانطوى
حتى إن إحساس الشاعر الخفي بالبحر ومائه يظهر من خلال شفاه الحبيبة فيقول في ص 238(( أجس الملـــح على شفتيها))
و يتذوق حلاوة رحلته تلك متوغلا في دقائق صور البحر الرائعة ومنها:
ص139 ويرقص الشراع في البحر/على مركبنا الراحل/ص96 ويلثم الموج صوارينا/ص29ضحكنا كانت البحار/ما بيننا والجزر البعيدة/ص194 ينقلني كما يشاء مركب الرياح
حتى أنه ينسى في غمار رحلته تلك حقله ذلك الحقل الذي طالما حلم ببيادره عندما كان البحر يحاصره ويغريه.
ص104 أيها الربان هل أنساك /همس الريح في ملعبها حقلك
ويتجرع مرارة التجربة فقد أتعبه البحر وأمواجه وعذبته المراكب المغادرة والمرافئ الساكنة، وهو يرى الأشرعة البيضاء تبكي عند الرحيل، والبحر يتخلى عنه حتى الفنار، ويسمع عن جاريةٍ و شاعرٍ ماتا من البكاء على أرصفة الميناء.
ص59 أتعبتني البحار وأمواجها /ص104 عذبتك المراكب تنأى/عذبتك المرافئ/في الظل ساكنة/ص263 ثم تنأى أيها الربان/ والأشرعة البيضاء تبكي
ص44 لم يعد في مواجهة البحر حتى الفنار/هاجرت منه كل الصواري/وكل المراكب والأشرعة
ص127 في آخر الليل / سمعنا آخر الأنباء / جارية وشاعر بكاء/ماتا من الحزن على ارصفة الميناء
وكما إن هناك سفينة حب وشوق فهناك سفينة أحزان وسفينة قرصان والجزر الخضراء تقابلها الجزر القصية والجزر المنسية.
ص16/ سفينة شوق مغامر/ ونافذة مسكرة/ تعري جبين السنابل/ سفينة حب مسافر
ص85 / لربما أهرب في عينيك/ من سفينة القرصان/ص102 لمحته لربما سفينة الأحزان /ترسو به في هذه الليلة من نيسان/ص85 وربما يتركني الشك / ويرسو القلب في جزيرة الإيمان
وتنتهي رحلة الشاعر تلك بعد أن يحس بأن شراعه متعب(مرتجف العينين)يغفو ويهوي فوق الرمل وقد تمزق.
ص89 / أنا مبحر خلف شراع متعبٍ أبحرُ/ص264 وشراعي آه يا مرتجف العينين/ فوق الرمل يهوي/ص56 ها نحن شراع غفى/ وكف بحار قضى واستراح
ص195 فكيف يقوى جسدي النحيل/ يلحق بالبحر وقد تمزق الشراع/ وغاب عن مركبي َ الدليل
ويحاول أن يعيد الكرّة ويرود جزيرته فلا تنجح التجربة.
ص216 أرود الجزيرة….. أعود وتنأى الجزيرة
ويخلص إلى أن دنوه وقربه من البحر لم يكن إلا محض افتراء.
ص185 نأيت وتبقى القرابة بينك والبحر/ محض افتراء/ فلا أنت تدنو/ولا البحر يدنو إليك
فالبحر عند رشدي العامل تجربة تغريه بأن يدنو منها ، وتلوح له من بعيد وتفتح ذراعيها لمقدمه ،حتى إذا ذاق حلاوتها سقط في فخ التجربة ، وتجرع مرارتها فنأى عنها ونأت عنه.
ثانيا ً:مفردات نباتية:
إن المفردة الرئيسية التي تتفرع منها مفردات هذه البؤرة هي الحقل أو ما يقابله..البستان…أو الحديقة،وهذه المفردات الأم تحمل في أحشائها كل ما يخطر بالبال من نبات وزرع تتدرج من الأعلى إلى الأدنى وبالعكس فالبستان فيه(نخلٌ وأشجار وأعشاب وشتلات وزهور) والنخل له(أعذاق وطلع وكرب وسعف )والأشجار لها (ثمر وأوراق وجذور وأغصان)وهي على أنواع (رمان و نارنج و عنب و تفاح و ليمون وبرتقال ) والزهور لها( براعم و تويجات ) وهي على أنواع (ياسمين وجلنار ونسرين وقداح وزنبق ونرجس وسوسن ) وهذه المفردات والاشتقاقات كلها جاءت في الديوان بصيغ المفرد والجمع ومرادفاتها التي لم ترد سابقاً، وقد جرى الشاعر على طريقته السابقة مع مفردات البحر فقد تجيء المفردة يتيمة في القصيدة وهي كثيرة ، أو قد تحتشد في مقطعٍ واحد.
ص152/ في وجهها يبتسم القداح/ ويضحك الاقــــاح/ وترتوي ساقية/ من مطر الصباح
ص270/ لا يعرف سر الأرض/غير المطر الناعم/يروي الحقل والبستان/يسقـي الزنبق الأبيض/والسوسن والنرجس/يدنو من تويجات الثمر/ويصوغ الورد بستانا
والطريقة الثالثة من طرق التعبير عن هذه البؤرة هي مجيء السطر الواحد حافلا بمفرداتها.ص84((و النخل والتفاح والليمون والرمان))
وقد بدا الشاعر كثير الولع بالمفردات النباتية حتى إن عناوين قصائده لم تخل منها فأنت تجد قصائد تحت العناوين((أشجار النارنج، حقل الأحزان، في غابات الصمت، أغصان)).
ولو تتبعنا مفردات هذه البؤرة( الحقل /البستان/ الحديقة)لوجدنا أن لكل منها علاقة بتجربة معينة تختلف من مفردة إلى أخرى،وهذه العلاقة جديرة بأن نقف عندها قليلا لنرى الفرق في نوعها مع كل مفردة وكيف استغلها الشاعر مسرحا لأحداثه بالاستعانة بالمفردات الفرعية الأخرى معطيا للقيمة المكانية أهمية كبرى في تكثيف الحدث وإبراز دلالاته.
فالحديقة لها حضور وصفي يلبسها وظيفة حسية ترتبط بالنشاط العاطفي لشخصيات القصيدة، فكما للذكرى حدائق فللنسيان حدائق وللأسماء أيضا،وما يغرس في الحديقة ليس وردا أو زهرا، بل بهجة أو فرحا أو قد تكون محلا يخفي فيه الشاعر ظل صديقته الراحلة(ص152) ، وبالرجوع إلى المقدمة التي كتبها الناقد حاتم الصكر للديوان نرى ما للحديقة من معنىً في حياة الشاعر.
ص85/يا رجلا تأكله الأحزان /ويغرس البهجة/ في حديقة النسيان
ص138/متى أراك مرة أخرى/شاحبة في الضوء/مثل القمر الشاحب/في حديقة الذكرى
ص102/وربما في عتمات الحان/يخطو إلى حدائق النسيان
أما البستان فيتجلى في توظيفه لغايات جمالية تستعير ألوانه ومساحاته في طرح العلاقة بين المكان والتجربة الحسية التي حدثت فيه فألوانه تغازل النفس و تغري بفتح شباك الأمل.
ص132/وجهك شباك على بستان/ص134/كيف تعطي الشمس للأزهار دفء الضوء؟/ والأنهار للبستان ماء/ص176/هل يأتي صبح لا يرقب فيه الفلاح/عيون البستان
وهكذا في الصفحات217/251/234/238/239/264 وغيرها يأتي البستان جزءاً رئيسياً و متصدراً لمعالم اللوحات التي يرسمها الشاعر في قصائده.
و تأتي مفردة (الحقل) لتجسد رؤى المكان بصورة جلية حيث يظهر الحقل مسرحاً لنشاطات بشرية وغير بشرية كما هو الحال مع البستان.
ص114/من يبقى في الحقل إذا رحل الناطور؟...ص72/ودماء القتيل جدول بين حقل وحقل يسيل....ص170/والقلوب التي أكلت لحمها/زرعت بين حقل وحقل.....ص213/والحقل في بهجته والنهار/يأتي إلى عينيك.
وتمثل قصيدة (تذكارات) ص152 مثالا نموذجيا لمفردات هذه البؤرة وكذلك قصيدة (اللوحة الأخيرة) ص243 والتي وصف فيها لوحات الفنان خالد الجادر حتى لكأنك تنظر إليها من خلال كلماته ، وهي تزدهي بمفرداته النباتية، وقد رسمها على سعف النخيل صانعاً من الجذور السمراء فرشاة ومن طلع النخيل زيتا.
ثالثاً: مفردات الطبيعة:
وتأتي هذه البؤرة لتضم كماً هائلا من مفردات الطبيعة، لكن الشاعر أورد فيها خصمين أزليين ،هما الصحراء وما إلى ذلك من مفرداتها والماء بأكثر صورتيه تعبيراً وهما( المطر والنهر) فأنت تجد الصحراء ماثلة أمامك برمالها وحصاها ورباها وأشواكها وشمسها وظلها وواحاتها والنهر بطينه وضفتيه وجرفه و جداوله و نواعيره،وهي توحي بخزين الشاعر من البيئة المحيطة به والتي استعارها لتشكيل أفكاره وأعطاها شحنة كبيرة من خلال إلصاقها بالمعاني المحسوسة التي يريد إن يوصلها إلى القارئ. فقد وجد الشاعر في سعة الصحراء وصفائها ملاذا يهرب إليه، حتى لقد أحرقته شمس الصحارى(ص203).
ص119/فهربت إلى الصحراء....ص158/بعيدا كالظل أتيت إلى الصحراء/أنت الواحة والماء
ومن أوجه تلك الاستعارات هو استعارة الرمز المادي للبيئة الصحراوية(الرمل)بتأثيره المباشر ،والرموز الحسية (البرد) ونقيضه (لذع الصحراء) أو الحر وهي تعكس التأثير الغير مباشر لمكونات تلك البيئة .
ص80/من برد الصحراء/إذا هبط الليل/أتيت مع الانداء
من رمل الصحراء/قلبي يحمل تفاحة حب حمراء
في لذع الصحراء/يتنفس وجهي في الأوجه /أبحث عن قطرة ماء
ولكن هذا الملاذ قد يخيب ظنه لأن الصحراء في شعر العامل هي الغربة والتي طالما تردد في ماذا سيحمل من زاد فيها أيحمل أحزانه أم أشعاره وكلاهما واحد.
ص160/هل أحمل إحزاني زادا في صحراء الغربة/أم أحمل أشعاري
ص223/ومن يرحل في قيظ الصحراء/لا يجد الماء
ولا أظننا نبتعد كثيرا ونحن نتحدث عن الصحراء ، إذا عرجنا على الظمأ، والوحدة اللتين عاشهما الشاعر والتصقتا به أيما التصاق فكان تعبيره عنهما ذا دلالات واقعية ورمزية أحيانا، حتى انه قد يستغل قصيدة بكاملها ليصور الإحساس بالوحدة كما في قصيدة(صورة)ص107، ويستفيد الشاعر من كل مفردة لها دلالة أو إيحاء لهذين المعنيين، فأنت تراه عندما يتحدث عن الوحدة يذكر الأسوار والجدار والأسلاك والحائط والغربة......
ص21 /وكنت وحدي داخل الأسوار ص13/وأظل وحدي أحرس الإعشاب تذبل.
ص24/وأعود وحدي/والرمال على خيامي البيض تسفو..ص102/منكفأ أمامه الكأس /على النصف وحيداً متعباً آسيان..ص66/عدت إليك وحيدا /يا وطني عدت وحيدا..ص112/وفي مملكتي ما كان سوى قلبي..ص163/يا ولدي كل الأعوام/ تمضي وأنا وحدي/ أرقب خطوك..ص149/كنت وحيدا انتظر/أن يأتي وجهك.
كما انك تحس بالظمأ عبر مفردات مثل(الصيف/الكأس/لذع الصحراء/أرضع/الاثداء/ اليابس).هذا الظمأ الذي أشار إليه الشاعر بلند الحيدري في رسالته إليه في14/3/1965عندما قال :(وذات يوم صحوت على نفسك وأنت تضحك ساخرا من كل شيء وكانت ضحكتك كأساً وامرأة وخيالات ........ولكونك تقول شعرا يحق لك أن تكسر حياة الآخرين كما لو أنها دمىً صغيرة تافهة، وتريد من قنينة عرقٍ ان لا تنتهي)
ص12/ظمأت كؤوس الخمر وانطفأ الذبال..ص22/ذاب ثلج الشتاء وأقبل الصيف/فجفت عروق الينابيع..ص57/والصيف القادم لن يحضنه المطر..ص58/وجاء ربيع لم يبك به الغيم..ص96/مرّ زمان ما بكت غيمة/فوق روابينا...ص38جفاف في ملامحه وصيف..ص 96 الظمأ الطفل بأعراقنا /ص80/في لذع الصحراء/ أبحث عن قطرة ماء..ص116/في شفتيه اليابستين/تغرد لوعة..ص119/وأيقظني طفل يسأل/أين الأثداء؟..ص119/أين الواحة ؟/قالوا رحلت...ص207عامان جف الثدي بينهما...ص206طفل يناغي ملعب الكلمات/يرضع إذ يغيب الثدي إصبعه...ص150ثغري تيبس كيف السبيل.
وقد أدخل الشاعر مفردات هذه البؤرة في حواريات جميلة كان أبرزها (حوارية الشمس مع الظل) دعونا نقرأ الأبيات التالية من قصيدة (الوجه واللوحة)ص138/الضوء في العينين/ والشمس في الصورة/والظل بين الوجه واللوحة أسطورة..ص139/الوجه في العينين/وأنت في الصورة...ص140/الليل في العينين/ والضوء في الماء.
وكغيره من المفردات يستعير الشاعر ما يرى هو للظل من صفات لخدمة معانيه فالظل وحيد، وخفيف، وقريب أحيانا وشديد الالتصاق كصديق. وبعيد أحيانا أخرى.
ص143/ها إنني تعبت من ظلي /يلحق لي/يسير في دربي أنى أسير
ص144/متى أراني شبحا واحدا /يسير في الدرب بلا ظلّ
وقد يكون الظل انعكاسا لصورة الحبيبة أو ذاتها في النفس..ص180/الضوء في عينيك مستيقظ /والظل في الماء..ص159/في جسدي يتوكأ ظلك...
وأمام الصحراء وجفافها لا يمكن أن نتوقع من الشاعر إلا أن يأتي بالأمطار في صورة المنقذ ،لكنه يمسك بها من أجمل صفاتها، ويجعلها رمزا للبوح فهو يجعل الأمطار في العينين مقابلة للسر والعين عنده تبوح بسرها فهي كريمة في البوح مثل الأمطار.ص148/في عينيك أمطار/وفي صدرك سر/ ص222/لاشيء بدنياك سوى الصمت /وما في عينيك سوى الأمطار..ص21/قلت لها عيناك والأمطار /أول ما تبوحه القصيدة .
وإذا كانت المفردة(أمطار ) بصيغة الجمع تعني البوح فهي بصيغة المفرد لا تعني ذلك أبدا، بل نراها تظهر كحلم دائم لا يبرح مخيلته ذلك لأنه يحمله في قلبه وعندما يغلبه الشوق إليه يقعد لمغازلته ويذكر صفاته ويتوسل به أن لا يعبر قراه، وعندما ينزل المطر نراه يراقبه ويتأمله فجراً وهو يلثم الأرض الجرداء فترتوي منه السواقي.
ص270/أيهذا المطر الناعم/لايعرف سرّ الأرض غير المطر الناعم/يروي الحقل والبستان/يسقي الزنبق الأبيض/ايهذا المطر/اننا ننتظر..ص273/أيُّهذا المطر/لا تعبر قرانا.
ويأتي ( النهر )توأم المطر والصورة الثانية للماء بذكرياته التي اختزنها الشاعر في مخيلته ،وليس النهر هنا سوى الفرات بزبده وطينه وما تلك الذكريات إلا شحة مائه وذبول شجره، حتى إن صفة السمرة قد لاصقته لكثرة طينه ، أما الارتواء منه فهو لمّا يزل أمنية في قلوب عاشقيه،فهو النهر الذي لم يهجر مجراه
ص54/هل تذكرين الموج في الفرات والخلجان..ص 259/ها ذبلنا/ وأذبل نهر الفرات الشجيرات...ص276/هل يأتي يوم ينهل فيه العاشق/من نهر الحب و لا يغرف من نهر الحرمان...ص251/لا يهجر النهر مجراه أنى يسير.
وعلى عكس الأنهار التي تشعرك ببرودة مائها ، فنهر شاعرنا يغلي دماً،ويجري تملؤه النار،ولم يكن بغليانه هذا إلا رمزاً للشجون.
ص6/والنهر يغلي دماً..ص68/والنهر الأسمر يجري تملؤه النار..ص225/إنما هذه الشجون/نهر جمر جرى ودم.
وأخيراً فلقد أغرم شاعرنا بمفردات الطبيعة واحتفى بها في قصائده وألبسها صفات بشرية فما أكثر ما نجد الطبيعة وهي تبكي وتضحك وتتنفس ، وتتحدث وتلقي التحيات.
ص13/فالبحر يرحل..ص/16تبكي رياح البحار..ص20/يلثم ضوء الشمس جبين الورد..ص241/يلثم الندى النسرين..ص22/وهز السعف أنامله..ص22/وضحكت أشجار النارنج..ص31/والنهر يكركر..ص64/والغابة تدفن أحزاني..ص84/والأنجم الحيرى تنام..ص86/والليل يروي الحلم..ص88/والمطر يضحك..ص96/وما بكت غيمة..ص18/الضوء مستيقظ..ص144/والشجر الملتف صبحني بخير/ قال اجلس..ص262/والورد ينعس..ص276/والبستان له عيون ..ص36/والليل له معصم.
هذا ولم ينسَ الشاعر أن يورد في قصائده رمزا ًمهماً لتنوع الطبيعة، وتلونها فقد ازدانت قصائده بفصول السنة ومواسمها فالربيع هو الموسم وهو الشباب الذي يتحسّر عليه.ص238/ ماذا اصنع مرّ ربيع العمر..ص276/هل يأتي فصل ربيع/لا يتنفس فيه الورد..ص93/أنت فجري وموسمي وربيعي. أما خريف العمر فهو خريف الحقل(ص238) والشتاء يذكره بالمحطات في آخر الليل.ص106/ والمحطات في آخر الليل/باردة والشتاء/يسوّرها والشجيرات /عارية في الفناء.
والصيف لا يأتي إلا بالظمأ وبالنجوم التي تذرع سماءَه الصافية..
ص136/هل تخطرين الليلة في السماء/نجمة صيف تذرع الفضاء..ص56/ماذا تنتظر؟ /هذا الصيف القائظ/والصيف القادم/ لن يحضنه المطر.
الأساليب الفنية:
هناك بعض القضايا الفنية في ديوان( الطريق الحجري ) تستحق أن نقف عندها، وهي ليست بالجديدة في الشعر العراقي المعاصر، بل أرى فيها عند شاعرنا تدفقا عفوياً للأفكار والصور والعواطف بعيداً عن التكلف والصنعة، منها:
1.استعمال المفردات: ظهرت لدى الشاعر مفردات معينة كان لها حضورا بارزا ودلالات خاصة عبر بها عن معانٍ لازمت في اللاوعي عنده تلك المفردات.
الشباك:
ويرمز الشباك عنده إلى المنفذ الذي يطل منه على عوالم رؤاه التي قد تأتي أولا تأتي، وإلى فسحة الأمل التي تراود خيال شخوصه. وواقعياً هو شاشته التي يرى من خلالها دنياه فإذا ذكر الشباك فهذا يعني انه مفتوح وإذا قال النافذة فهو يعني أنها مغلقة.
ص11/لعل شبّاكاً على الدنيا يطل../ص132/وجهك شباك على البستان..ص145/صبية تفتح شبّاكاً على بستان ..ص16/وجرحٌ صغيرٌ ينزُّ وحلمٌ وشاعر/ونافذة مسَكَّرة ..ص17/سفينة شوق مغامر/ونافذة مسكرة/تفتح أستارها
الفانوس:
وهو دائماً على الشرفات أما ساهراً(ص249) وضوءه يشير اليه(ص251)أو مطفأ(ص14).
الكـــأس:
وهي أكثر المفردات إلحاحا من مرادفاتها /القدح( ص38) /والراح (ص19) ويضاف إليها الخمرة (ص149و218)والنبيذ الذي الصقهُ بذكرياته فهو نبيذ الأمس (ص13) أو نبيذ النسيان(ص64) فكأسه الظامئ (ص12)صديقه يبحر معه(ص36)ويغيب فيه(ص37) ويترعهُ باللظى(ص52)ويتناوله مغمض العينين كي يوقظ ذاكرته(ص142) وعندما ينضب راحه تستفيق جراحه .
الأسمـــر:
لقد مرّ بنا أن النهر الذي عشقه الشاعر (ص68و155) وتغنى فيه كان قد أعطاه صفة (السمرة) وهي قد تعني في ما تعنيه كثرة طينه .غير أن النهر لم ينفرد بهذه الصفة فقائمة السمر لا تنتهي عند الشاعر، فالمطر أسمر(ص117) والكرب أسمر(ص244)والجذور سمراء(ص246) والأقمطة سمراء(ص120 ) والخبز أسمر(ص113) وعلى ذكر الخبز فهناك خبز يومي(ص135)وخبز الأرض(ص11) وخبز الضغينة(ص187) وكسرة خبز(ص112و116) ، ولا عجب أن تجد هذه المفردات قد أخذت حيزاً من شعر العامل فالخبز والسمرة متجذران في أعماق شعب الرافدين .يقول الشاعر في ص113:قلت لها:/نقتسم الزيتون وطعم الخبز الأسمر/ يا سيدتي نحن الفقراء/لا نملك غير الخبز وغير الملح/ وغير الحب.
2.الحكاية والحوار:
إن جعل الحكاية مادة للقصيدة ليس جديداً في الشعر ولكن ما يميز شاعرنا هو البراعة في تقديم حدث مكثف مع الإبقاء على أدوات التعبير القصصي حاضرة.فقد جاءت قصيدة (صورة )ص 108 نموذجاً لعذابات الوحدة وهي تتحدث عن امرأة وحيدة تستيقظ فجراً ولا يأتيها النوم فتتجول في البيت ثم تغادره فترى الأطفال وهم ذاهبين إلى المدرسة فتعود محاولة النوم ولمّـا لم تستطع ...أغلقت الشباك وتمطت تحت الغطاء والدمعة في عينيها،وفيها أراد الشاعر أن يوصل إلينا توق هذه المرأة إلى الطفل وما يعنيه من الحياة الأسرية ، والألم الذي تكابده بهذا الخصوص.وقد توفر في هذه الحكاية البناء المنطقي للحدث وعناصر الفعل الدرامي(الزمان والمكان) وكذلك التمهيد والسرد والذروة.وفي ص/129 نقرأ قصيدة(لوحات من القرن الحادي والعشرين) في المقطعين الرابع والخامس يحدثنا عن شاعر يعتلي المنصة ويلقي قصيدته ويصفق له الحضور،ثم يقوده البواب للدرب ويلقيه على(رصيفه) وفيها يقدم لنا عالمين مختلفين فالقاعة التي دخلها الشاعر مفروشة بالوبر والسجاد وفيها الأضواء والأوراد،بينما العالم الذي جاء منه الشاعر وعاد إليه هو الرصيف.ولم تكن قصيدة( رمال المرفأ)ص/10 في بدايتها إلا حوارية ،وفي قصيدة (اليباب) ص/112 يتحدث عن امرأة تطرق بابه لعلها تجد عنده الثروة والغنى لكنها لم تجد سوى كسرة خبز وحبات زيتون فضحكت منه وانصرفت،وهنا يتغلب المعنى الرمزي على واقعية الحدث .
3.البناء الصوتي والتكرار:
لقد حفل الديوان بهذا الأسلوب المعروف في بناء القصيدة، وقد بدا التكرار ضرورياً في بعض المواضع بينما لم يخدم القصيدة في مواضع أخرى سوى دوره في تأكيد المعنى، أوتدعيم وزن القصيدة الأساسي بموسيقى داخلية .
ص72/زارني الموت/ما ألعن الموت/ما أبعد الموت /ما أقرب الموت/ما أجمل الموت
ص120/هذا وطني/في الليل أراه/ وفي الصبح أراه/وفي السجن أراه/وفي الموت أراه/وفي الأكفان البيضاء...ص158/وحيداً كالظل/خفيفاً كالظل/قريباً كالظل/بعيداً كالظل/أتيت إلى الصحراء.
ومن الأساليب الأخرى الظهور المتكرر لحرفٍ واحد أو أحرف متجانسة أو متقاربة المخرج وتشكيلها لمجاميع صوتية تثير الانتباه عند إلقاء القصيدة فمثلا عند قراءة المقطع التالي من قصيدة (السد) ص/221...
من أي بحر يغرف الساحل...(ح)/أصدافه والمحار...(هـ.ح)/من أي جفن يخلق الجلّنار ألوانه..(ج .خ. هـ)/ والحقل بهجته والنهار..(ح.ج.هـ)/يأتي إلى عينيك (ع.ي)/ما أبعد هذا الجدار...(ع.هـ.ج)/دعي عيون الفجر من غير نار...(ع .ج .ي)/دعي عيون العصافير على البيدر....(ع . ي) /والظلمة خلف الستار..( خ ).
ولك أن تلاحظ الحروف المتقاربة (هـ.ع.ح ). ويبلغ الأمر غايته قبل نهاية المقطع بظهور احتفالية لحرف العين والياء حين يقول(( دعي عيون العصافير على البيدر))، وهناك أمثلة أخرى لهذه الظاهرة كما في ص/167 لحرفي السين والصاد ومثله في ص/ 62لحرف الراء ،وص/39 لحرف الدال والراء من قبله ، ويبدو أن الشاعر إذا دخل في حرف سيطر هذا الحرف عليه،ولا يتركه إلا ليدخل في حرف آخر، ومما يرسخ هذه الظاهرة استخدام الأساليب اللغوية المعروفة كالجناس كما في ص/ 148 (ولا تبكي على ما مرّ /إن الدمع مرّ)..وفي ص/130 (يتخيل أن الشِعر هو الشَعر الأشقر) .
4.المفردة الشعبية والأمثال:
ومن الأساليب الفنية الملفتة للنظر هو إدخال المفردة الدارجة في سياق النص، حسب ما يراه الشاعر من صدقها في توصيل أفكاره ومن أمثلة ذلك ما جاء في قصيدة( رمال المرفأ) ص/10/أحمامة النسيان جاءت بالرسائل/ لم تلق أصحابي فعادت / أم أتانا طارش في الليل/من طرف العيال...وفي ص/212 من شاف وجه امرأة يضحك وفي ص/228جاورني وجهك في الغربة /شفت عيونك تسأل.
وقد يلمح الشاعر الى الحكاية الشعبية والأمثال الشائعة كما في ص/130 عندما يشير إلى المثل الشعبي((ناكر الزاد والملح)فيقول:كان إذا تمشى بين شارع الرشيد/ والمحلة المعلومة /يعرفه الصغار من جبهته المثلومة/كان صغيرا يطلب الفلسين/ ثم غدا ـ سبحان ربي ـ /صار ذا بطنين/لا يعرف الخبز ولا الملح/ ولا يذكره الرغيف.. وفي ص/277 أيضاً في قوله:هل ينكر ملح الخبز /وطعم الماء/ ولذع الحب.....الإنسان ؟أو قوله قي ص/239:أعرف أن الدم لا يغدو ماءً/ في جسد الإنسان..وكذلك في ص/39:اليوم لي(وغداً عليّ) /وبعده فليدن حتفُ.
صورة الشاعر في القصيدة:
لا يفوّت الشعراء فرصة تأتيهم إلا وذكروا الشاعر وحاله ومعاناته وهمومه، وقد صوّره العامل في عزلة عن العالم لا يدنو من الناس، وهو الذي كان يحلم أن الدنيا وطنه.
ص/276هل يأتي زمن يدنو فيه الشاعر/ من دنيا الناس...ص/198والوجه الآخر داخل أوردة القلب/ يغني للفقراء/ يحلم لو أن الدنيا وطن الشعراء.
والشاعر في (الطريق الحجري) مخمور يلوب بين الحلم والصحو ولا تدنو القصائد(ص135)،بكـّـاء يشارك الأشجار والأزهار بكاءَها(ص272)، ملقىً على الرصيف(ص129)، أو ميت من الحزن على أرصفة الميناء(ص127).




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !