ناعور .... في ظلال واديك البهي
أنحدرت الى الوادي ونثار من الضباب المسائي يعلو قمم الجبال يمسها مسا حفيفا ، وكانت ريح المساء تهب من جميع الجهات ، وصوت الماء المتدفق في الوادي يتردد صداه على المدى البعيد هنا وهناك . وعلى سفوح الوادي وعلى حقويه منطقةٌ من شقائق النعمان والأقحوان، وعلى رأسه إكليلٌ من النسرين والوزال، وقد لفَّ ذراعيه بالورد والياسمين والريحان، وساقيه بالصفصاف والدفلى والسرو.
وكان جبينُه سماواتٍ صافية زرقًا، وفي عينيه شموسٌ وكواكب وأقمار، وفي فيه بلابل وحساسين وهمهماتُ مياه كثيرة، وعلى صدره مروج، وفي راحتيه جواهر لا تزال مغلَّفة بالأسرار وعجائب ما برحت في الأكمام، وقد تدلَّت من أطراف بَنانه عقودٌ من الآمال الخضر تدغدغها وشوشاتُ نسمات بليلات.
ثم ما لبثت أن صارت الشمس و كأنَّ على وجهها نقابًا من غبار، و واشتد الهواء كأنَّ برأسه دوارًا وفي رئتيه احتقانًا، والوادي كأنَّ به نزيفًا مستعصيًا، والسماء كأنَّها الرِّق ما خُطَّ عليه شيء ما .
وما زلت أغض الخطى الى أن وصلت الى عين ماء رقراق تنبع من صخرة مارقة . وما إن جلست إليها حتى أنزلت الدنَّ عن ظهري، فشربت ما شاء لي أن أشرب ، ومددت يدي الى عنقود من العنب كان يتدلى من دالية حفت بالعين من جانبها الشمالي وكأنها تسترها عن أعين الناس – وما كان أطيب ما أكلت وما شربت! فتمنيت في نَفَسي ما تمنيت .
ظلت حبتين في العنقود لا غير، قلت :
سأشعِلْهما عند الحاجة، ففي نورهما النورُ كلُّه اذا ما خيم الظلام .
ثمَّ أمسكت بالدنَّ وأفرغته على الأرض وقلت :
أسكري أيتها الأرض .
ولما أن وصلت إلى زاوية الشيخ يوسف في قعر الوادي ... فتحت يدي عن حبتَي العنب تلك ألفيتهما عينين بشريتين مغمضتين. فألقيتهما في عرض السيل فزداد هديره واشتد عويله وعلا صراخه . ... ثم فررت الى صاحبي الشيخ فوجدته واقفا يصلي، وأمامه موقد النار فيه بعض حطيبات تتطيار منهن ألسنة لهب تعلو وتخفت تتمايل يمينا ويسارا، وعلى الموقد أبريق شاي داكن اللون من كثرة ما لسعته نار الموقد فتناولت الأبريق وصببت منه صبتين في كأس شفيف نحيف ورشفت منه رشفت أيقضتني .... قليلا من سكرتي تلك ..
ثم نظرت الى الشيخ فإذا به غارق في نجواه بصمت ، فعدت الى كأس الشاي .. وإذا بصوت الشيخ يعلو قليلا .. قليلا حتى وصل الى مسمعي لحن عذب رشيق :
ليلٌ أنيس ، وسماءٌ غضبَى، والوادي غارق في وجومه.
وفي رأسي ثورة للفكر لا تلبث أن تهزأ بسجف هذا السكون الذي لا أطيقه ،
وفي القلب حفيفُ أشواق وارفة، نديَّة نقية صافية ،
وفي العين رسومُ أشباح تتساوم علي وتتصافق تتعانق وتتشابك .
وفي الأذن جلجلة من صلوات وعربدات، وزفرات وقهقهات،
ودمدمات براكين، وهدير رعود آتية من بعيد .
وعلى الشفاه دبيبُ حروف ومقاطع وكلمات تنتظم ثم تنتثر تسابيحَ خافتةً حَيِيَّة لك أيها الليل الأنيس .......
هنا توقف الشيخ يوسف عن الصلاته الكونيه قليلا .. ثم تنهد تنهيدة حسبت أنها تنهيدة موته ثم قال بصوته الأجش :
يا ناشر الليل ، يا مُضْرِمَ النهار .....
طال ليلٌ نشرتَه فوق وادي الغارقفي سكونه . طال وادلهمَّ وتغضَّن وترهَّل، ولكنه ما شاخ بعدُ ، ولا ابيضَّ فوداه...
ثم نظر الى فلاح يحمل على دابته كيسا من القمح تنؤ بثقله وهو ينهرها بشدة ..
ويل لكم أيها الكادحون بالباطل في واديّ ، الجارّون ويلات نفوسكم وأطماع مناجلكم الى فض بكارة أرضه لتزرعوا ظلم قلوبكم وطمع ذواتكم وبغض أرواحكم فما تحصدون غير ما زرعتم .
ثم نظر اليّ نظرة حسيرة .....
وقال:
إنهم يكدحون ويدأبون، إلاَّ أنَّهم حيث يبدأون ينتهون.
يزرعون ويحصدون، وفي الأهراء يخزنون، ولكنهم أبدًا جياع.
من حشاشة الأرض يأكلون، ومن مآقي المُزْن يشربون، ولكنهم في غُصَّة دائمة .
يتزاوجون ويتناسلون، وأبدًا عن سَنَدٍ يبحثون.
يتنازعون على أردان الليل وأذياله، فيمزِّقون لحومَهم بأظفارهم، ويسحنون عظامَهم بأضراسهم، وبغير نُتَفٍ من جلابيب ليلهم لا يظفرون.
من أين لهذا الوادي هذا القرمز في وجنتيه ؟
أهو الدم المسفوح من نحره ؟ أم شهوة الدم المشبوبة في قلبه ؟
حتى مَ تحترق أيها الوادي بشهوة ، لا يطفئها دمٌ يتفجر من أوداجك، ودمع ينهلُّ من أحداقك ...؟
متى يتهلهل ليلٌ كثيف نشرتَه فوق أرض حسيرة ساكنة ؟
فيرفع إليك كلُّ ابن أنثى قلبَه الملفوح هباء ينثره في مآقيك السفاح.
الى ما تروم ، وماذا تبتغي مني ؟
إلى مَ، إلى مَ هذا الليل طال واستطال ؟
يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضرِمَ النهار من محاجر الليل؟
هم الذين لفظتَهم حروفًا حيَّة في اسمك الحيِّ الذي لا يُلفَظ، ما يفتأون يَصِلُون الحروفَ بالحروف، والمقاطعَ بالمقاطع، ويزوِّجون الكلماتِ من الكلمات، ويؤلِّفون منها الأحاديثَ والأساطيرَ والأسفار. فلا تكلُّ لهم شفاه، ولا تحرُنُ لهم أقلام، ولا تتخدَّر منهم أنامل. وكلماتهم أكثر ما تكون دخانًا لأبصارهم، وفخاخًا لأقدامهم، وسمومًا لدمائهم، ومناخزَ تقضُّ عليهم مضاجعَهم وتعبث بأحلامهم ، والبريء منها ما كان كاليعسوب، لا عسل في فمه ولا إبرة في دُبُره.
أما الكلمة التي تضمِّد جرحًا، وتفكُّ قيدًا، وتمزِّق غشاوة، والكلمة التي تجمع ولا تفرِّق، وتَجبر ولا تكسر، وتفتح ولا تغلق؛ والكلمة التي تشفع ولا تصفع، وتصفح ولا تنبح، وتُعين ولا تدين – فما أندرها! وأندر منها كلمة في يائها ألِف وفي ألِفها ياء – طليقة من أحابيل البدايات والنهايات، حيث بَنوك يتخبطون، وعنك، يا ألفًا هي الياء وياءً هي الألف، يصدفون.
حروف ومقاطع وكلمات بعد حروف ومقاطع وكلمات – وكلُّها سواد في سواد، وظلمات طيَّ ظلمات.
يا قلبًا يضيف ولا يُضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار.
ما للضيوف المتألِّبين حول موائدك يتدافعون ويتلاطمون ويتناهشون؟
وموائدك فسيحةُ الأرجاء، مثقلةٌ بأطيب العطور، زيَّنتْها الأرضُ بأبهج الألوان والأشكال.
ما للبياض في عيونهم يصطبغ بحمرة الشفق، وللدماء في عروقهم تنحمُّ، وللعضلات في سواعدهم تتكمَّش؟
إلى مَ هذا الليل، يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا يُنار؟
ليلٌ بهيم، وسماء غضبَى، وأرضٌ في وجوم.
وفي الرأس بريقُ فكر واحد وهَّاج،
وفي القلب بشارةُ فجر يولد،
وفي العين خيالاتٌ مُجَلْبَبَة بالنور،
وفي الأذن أجواقٌ من عوالم لا تُبصَر ترنِّم صامتةً ترنيمةَ الانعتاق،
وعلى الشفاه تسابيحُ عاليةٌ .
يا ناشر الليل من كبد النهار، ومُضْرِمَ النهار من محاجر الليل،
يا قلبًا يضيف ولا يضاف، ويا روحًا ينير ولا ينار.
وقد أستبد بي الشوق الى أن أسأل هذا الشيخ المتوحد مع واديه وكونه، وأنا أضع كأس الشاي المعطر بريحان الوادي جانبا بعد أن رشفة منه رشفات كأنها رحيق الأرض وشهدها ...
قال لي قاطعا ابتهالاته وقد قرأ سؤالي قبل أن أرسله حروفا يتردد صداها في جنبات الوادي :
الأكوان في سيرها الحثيث من الانغلاق إلى الانطلاق مدفوعة بقوة الحياة الكامنة في كل ذرة من ذراتها يا بني .
وقوة الحياة هذه، وإن تنوعت مظاهرها المحسوسة إلى ما لا نهاية له، هي في كلِّ شيء وفي كلِّ مكان وزمان. نظامها واحد، وطريقها واحد، وهدفها واحد، وهي التي في اندفاعها إلى الانطلاق من السدود والحدود والقيود تُغيِّر ولا تتغيَّر، وتُجدد ولا تتجدد، وتجعل للأشياء بداية ونهاية ولا بداية لها ولا نهاية. وما دامت دون مستوى الوعي فهي الغريزة. ومتى بلغت الوعي فهي الفكر والخيال والإرادة. أما متى تجاوزت الوعي فهي ........ ثم سكت
وأنا العارف بنطقه وسكوته .... أعجبني ذلك
قال : أما قلت لك البارحة أياك من أن تعجب من شيء
لأنك أنت هو العجب ذاته .
قلت : إنما أردت التعبير عن ذلك بلغة النظر
قال: أما علمتك من قبل لغة الصمت ، ‘إني أفهم صمتك
صمت روحك وصمت فكرك .
قلت: ولكنها يا شيخ هي حدود الإرادة القصوى التي يبلغ بها التعبير مداه ......
قال : أحسنت ولكن التعبير يحجب المعنى ....
قلت : أحيانا لا يمكن أن نعتبر أن حدود الإرادة هي الفعل في الزمان .....
قال : اذا انت ترى ان الإنسان، ، ما يزال على الحدود ما بين الغريزة وبين الفكر والخيال والإرادة. فبعضه حيوان وبعضه إنسان. فهو حيوان على قدر ما يحيا بغريزته. وهو إنسان على قدر ما يحيا بفكره وخياله وإرادته. وسيبقى بعضه حيوانًا وبعضه إنسانًا إلى أن ينفذ بفكره وخياله إلى نظام الحياة الشامل وغايتها الموحدة، وإلى أن تكون له الإرادة الواعية الفاهمة، يسير بها مع النظام لا ضده، وإلى الغاية لا إلى غيرها. ويسير بخطى لا تردد فيها ولا إلتواء. وإذ ذاك فهو الإنسان... الإنسان، وفي مستطاعه أن يخلق من نفسه لنفسه ذلك العالم الذي ما برح يحلم به منذ أن عرف العذاب والشقاء والموت وقلق السؤال .
قلت: ولكن الفكر فينا ما يزال نسمةً لا إعصارًا، والخيال نقابًا لا براقًا، والإرادة خيزرانة مرضوضة لا سنديانة عتيَّة، فنحن لا نملك القدرة على تجديد أنفسنا وتغيير العوالم من حولنا حسبما نرتئي ونرغب. بل لا مناص لنا من مطاوعة المشيئة الكونية الشاملة التي ندعوها القدر.
قال يا بني :
حيث الفكر والخيال والإرادة ...هنالك المقدرة على الخلق التي تعاند القدر .
وأضاف وما الفكر والخيال والإرادة غير سلاح الحياة المنغلقة في كفاحها ضد الانغلاق، وفي اندفاعها نحو الانطلاق. وهذا الكفاح هو السبب الأولي لكل ما نحسه من تغيُّر مستمر في حياة البشرية التي ليست سوى جانب محدود من الكون الذي لا يحدُّ. والبشرية لن تعرف الاستقرار الكامل حتى تعرف الحرية الكاملة، وحتى تنطلق من كل حدٍّ وقيد.
قلت : ما الذي يعنيه ذلك ؟
قال : يعني أننا سائرون إلى الحرية. ما في ذلك شكٌّ. ولكننا نسير بخطى وئيدة إلى حد أن من يراقب حركاتنا عن كثب يكاد يحسبنا ندور على أنفسنا، ويكاد يجزم أننا ما نبرح مكاننا.
قلت : وماذا عن هذا التقدم العلمي الذي نراه ونحياه أليس قفزة في سرعة الضوء الى الأمام ؟
قال: حسبتك تفهم ما أقول .... إن العجب العجاب أن تنجب البشرية أفرادًا استطاعوا الانفلات من قيودها وراحوا يدلونها على الطريق القويم .
قلت : ألست من أولئك الذين أنفلتوا من اسار البشرية هذه الى الانعتاق نحو التحرر الكامل ؟
قال : أنا تحررت على مستويات معينة وهي أعلى درجة من درجات الوجود إنه التحرر العقلي الذي هو بطبيعته لا مادي ، وهذه اللامادية مظهرها عدم قابلية العقل للارتباط المباشر مع نظام الأشاء كما تبدو . لأنني عالم بالظواهر والغايات وهذا ما أسميه بالإرادة المنفتحة على المالانهاية ، وهنا تتحقق الحرية في حدودها القصوى، وتراني هنا قادر على الفعل واللافعل .
وإني لتعروني قشعريرة إذا ما حاولت أن أصور أوجاع المخاض تلك .......
ثم صمت الشيخ .... بعد أن راحت السماء تهل بدموعها الثقال الزواكي بعض أنفاسها ....
ولنا عودة محمودة أليك ... يا وادي ناعور
التعليقات (0)