مواضيع اليوم

ناعور .. وموزارت

فارس ماجدي

2010-01-21 13:49:54

0

 

 

آه ناعور ما أعجز لساني وقلمي وبياني ، بل ما أعجز أي لسان وقلم ، عن وصف مفاتنك ومفاصل أجزاءك ،وأنس أشياءك، وعبير أهواءك، ونسائم أفياءك، ودفء ضلالك ما أجمل صخورك المباركة التي تنتصب كانتصاب الجن فوق هضابك المارقة ، وما أطهر ترابك الذي ابيض فوداه، وحمّر خجلا من روعة بهاه، ما أعذب سواقيك التي تغذو كروم العنب والتين والزيتون من مآقيها السواجم ، من اين تدلفين ايتها السواقي ؟ من قلب الأرض أم من قلب السماء ؟ ناعور.. ناعور.. آن لي أن أتحسس سحرك من بعيد كما آن لي أن استعين على ذلك بأفعل التفضيل وصيغ المبالغة، وأن استدعي الكلمات وأحشوها بالمعاني وأقمطها بالشوق وألبسها سرابيل المحبة .
لا... ما أحببت ناعور لأنها مسقط رأسي ورؤوس أجدادي . بل لأني ، وقد طوّفت في هذا العالم ، واسحت ذاتي في بلاد بعيدة وقريبة ، ما عرفت بقعة توافرت في تكوينها وفي مركزها من الأرض مظاهر الحسن والروعة والجمال والجلال والأنس مثلها .....

في ناعور كل شيء ينتمي الى كل شيء ويرتبط كل شيء بكل شيء . الجماد بالنبات والنبات بالحيوان والحيوان بالإنسان والإنسان بالسماء والسماء بالأرض . وكل ذلك بعبير زهرة، أو رفة جنيح لفراشة تتراقص على كتف الوادي وترتل ترنيمة الوجود .

وإنها لمتعة أن تدرج من واديها السكينة فتصّاعد حتى تجلس على قمم جبالها الوضيئة
ثم تنثر نسائمها مطرا زكيا فتهدر شلالاتها أزهارا وأنوارا واغاريد اطيار ووشوشات رقيقة .
وهذه ناعور التي تغفو على كتف واديها في دعة وسكون أبدي، تحضنها هضبتان عن اليمين والشمال، والمنازل الطينية تتناثر في وحشة وتمرد هنا وهناك على حفافيها وبين منكبيها.
وفي قلبها الملتهب بنار الوجد والحب والكره والبغض يتجاور مسجدان قديمان علت مئذنتيهما الى عنان السماء، وشاع في فضائهما الإيمان والزهد والخوف والرهبة، وهناك على الجانب الآخر كنيسة رومية تأخذ بلب الناظر اليها من بعيد أما اذا دلفت الى داخلها وسرحت طرفك في ظلال رسومها وفي فسيفساء سقفها وانحناءات أقواسها وروعة نواقيسها وأزكمت أنفك برائحة الند والبخور ورأيت الغيد الحسان وهن في تأوه الحيران يرفعن صلواتهن في أنين وحنين، يبكين تارة، ويبسمن أخرى، بوجدهن المشبوب وقلوبهن التي علاها الوجل، فإنك ستجد ذاتك، وقد صفت وروحك وقد رقت ،وحايتك وقد هانت، ونفسك وقد سمت، هنا الفرح بالحياة وهناك السكينة والدعة.
أناس ناعور بين طالب دنيا وطالب آخرة ، وكل فرد تتجاوب نفسه بين هذين الحبلين المشدودين على هاوية نفوسهم المعذبة . ناعور فيها نقلة بين البدو والحضر ، بين الخشونة الزاهدة الصلبة القاسية وبين الإيمان المترف الناعم الهائم في أوداء القداسة الشهوانية، ولهذا جاءت مزيجا بين الطرفين المتباعدين ومساق الحياة فيها ، كانت روحها مسرحا لهذه المأساة ، هذا الأزدواج المتوتر العنيف في طبيعتها ، وبهذا الأستقطاب طبعت نفوس ساكنيها ، ففي كل روح تسكن طبيعتان متعارضتان ، احداهما تتلمس غذائها من قوت الحواس والأخرى تستشرف قوت القلوب ، ولن تستطيع احداهما القضاء على الأخرى بل سيظل التعارض قويا عنيفا ، وفي عنفه يقوم ذلك التوتر الحاد الذي يجعل من حياتهم مصدرا للتشويق لا يقل أهمية عن نفوسهم الملتهبة تلك.
وأنا ابن هذه القرية غارق في الجانب الأقصى أشيع سؤر التوتر الحي المتوثب في عيناها الواسعتان اللتان تمدان الظل الى حفافي الوجود .
ها أنا ذا استمتع بتلك القطعة السمفونية الرائعة لموزارت ....على الجانب الغربي للطور المطل على الوادي، هذا الطور الذي يبدو على هيئة شيخ وقور ابيّض فوداه من فرط همومه . كان يسري وئيدا صوت ذلك اللحن البديع يهمس في اذني قائلا :

مَن مثلي ؟ أي سلطان كسلطاني و أي ملك كملكي ؟ ما من بقعة في الأرض إلا لي فيها أعلام تخفق و جيوش تزحف . ما من جمجمة إلا لي في تجاويفها ألف وكر و ألف وجار . ما من قلب إلا لي من دمائه أمرأ الشراب ومن لحمه أطيب الغذاء . لي في كلّ فم لسان ، و في كلّ عين إنسان ، و في كلّ قصعة ملعقة ، و على كلّ كأس شفة ، و في كلّ ثوب إبرة و خيط .
في كلّ بيت لي بيوت . في كلّ معبد لي معابد . في كلّ معهد لي معاهد. كلّ فراش فراشي .كل لحاف لحافي .كل وسادة وسادتي .
الرياح مطاياي ، والنسائم رسلي ، والكواكب قناديلي ،والبحار مضخاتي ، واليابسة حقلي. الخوف محراثي ، و الرجاء نيري ، والجوع منخري ، و الناس ثيراني، و الموت بيدري ....
الليل ليلي و النهار نهاري .كل الزمان زماني . كلّ المكان مكاني . في البداية أنا .وفي النهاية أنا .أنا الأزل وأنأ الأبد.
.
وبقي موزارت يسكب في قلبي رحيق العظمة في أكواب الفجر و اكرعها الكوب تلو الكوب حتى كدت اسكر و اذهل عن نفسي.لكن دفقة قويّة من النور جعلتني انتفض و اصحو من سكرتي .وإذ بالشمس تطل من وراء الأفق البعيد...........

كنت أحب موزارت وأخشاه في ذات الوقت ... كان يعلمني كيف أصمت .. ومع الصمت تتسرب موسيقاه الى أعمق أعماق ذاتي، فتذروني هباء يتطاير في كل مكان ...
وهو الذي علمني أن هناك تواطؤ خفي بين الموسيقىوالطبيعة .الموسيقى دائماُ تُحاول أن تستنطق صمت الطبيعة وأن تُفتّق من بين أنامله ندىلحن عذب فتصيره كلمة .والكلمة بدورها تُحاول عبثاً أن تُحاكي مدى الموسيقى الذي ينفتح على ما بعد مجهول الأفق وأسرار المسافات.وكأنما هناك شُعلة سرّية ، توقِد مَن الموسيقى والطبيعة .

كلا من الطبيعة .الموسيقى تُحاول أن تقول أن الكلمات لا تستطيع مجاراتها في اختراق عتمةالمجهول والفصح عما تحبل به الأرض من أسئلة مستعصِية على الصياغة.
الموسيقى تُحاول إقناع الكلمات همساً أن تستسلم لخواء حروفها و أن تعترف بمراوغتِها.
اللغة في مجملها وعلى اختلاف أشكالها وصيغها ، ليست إلا محاولة لتكثيف انفعالات معينةواختزانها في بوتقة ذاكرة زمنية قابلة للاجترار وبالتالي للخلود.اللغة محاولة لترسيخ أعمار الحناجر المشروخة بجفاف أوتارها، والدماء المحتقنة بغضبها.اللغة محاولة لاختلاق مبررات للوجود. وزرع رئةٍ للمنطق.اللغة مشيٌ على جسد المستحيل لِفقئ بذور النشوة في مغاوِر الحروف اللزجة.اللغة تجسيدٌ قاطع لشهوة
ولكي نصل إلىلحظة التفتّق الأول للكلمات ، بغض النظر عن محتواها أو قدرتها على القول أواختراق حدود المعنى الظاهر، يجب أن نتجّرع الصمت، وأن نعتاد على سَبر أغواره.فالصمت هو المحفّز الأساسي لارتكاب حماقة الكلام أو الكلمات ........
يقول موزارات :
إنكم لا تستطيعون أن تترنموا حتى تشربوا من نهر الصمت، يُلقي الصمت بظله على الكلام فيحيله الى لحن ....
فالصمت مرتبطٌ بالتأمل , والتأمل مرتبطٌب بالحكمة، والحكمة تولَد من الجنون والجنون إما صمتٌ صاخبٌ بالعجز، أوهو صخبٌ كلمة هاربة من لحنها.

عندما أفقت من سباتي وفركت عيني وألتفتت حوالي فإذا الشمس في قبة الفلك، و إذا الأرض تغمرها سكينة :كأنها سكينة اللحود. فلا نملة تدبّ ، و لا نحلة تطنّ, ولا عصفور يغني ، ولا ثور يخور، ولا قطة تموء،و لا عامل يعمل ،و لا دولاب يدور ، و لا ِرجل تسعى به قدم.
لا من يأكل و لا من يشرب ، و لا من يغني و لا من يهلل حتى الضفادع في أعماق الوادي أخرست لا وشوشة و لا حراك . و ليس سوى الشلال يهدر ، والسيل يكر ، و النسمات تتهادى في السهول و الأودية و على رؤوس الجبال . فذعرت من هول ما رأيت .
و يحي أنا الشقي ماذا فعلت بنفسي وبوادّي الجميل ؟ ألا ليتني ما طلبت الراحة و لا لذت بالصمت ولا استمعت الى موزارت .... وبينما أنا على حالي هذه إذ بموزارت ينفخ


نفخة لا غير . و إذا بالأرض تموج بالحركة و تعجّ بالأصوات . و إذا الدواليب تدور ، والاطيارتغني ، و الأعراس تواكب المآتم ، واللحود تسابق المهود ، و الزفرات تعانق القهقهات ، والبسمات تسبح في بحور الدموع ، و الناس و البهائم في سكرة من الأخذ و الرد و السكون و الدوران.
إذ ذاك تبسطت أساريري و رقصت اناي
حقاً إنها لضريرة تلك النغمة التائهة في الفضاء .
و انحدرت من القمة و طفت في الوادي من مشرقه الى مغربه ، وعرجت على كل أنحاءه . فما كنت اسمع غير موزارت وهو يلعن الكلام و يمجد الصمت ...فرحت أشرب من هذا اللحن حتى ثملت...

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !