ناحـيت
قصة ـ بقلم : فرمان بونجق .
المدينة ثوب ارتديته ذات ربيع ، هواء تنفسته ، مزيج من لون ضباب مرتفعات الجولان ، وملامح الشقراء (ناحيت) المختبئة في بياضه ، يتسلل ويجتاحني كل صباح ، ورائحة الياسمين والجوري تقتلع نفسها من بين الركام ، تلتحم بسنواتي العشرين التي لم تكتمل بعد ، تتحايل على عنفوان فتوّتي ، فأستسلم وأنا في غاية السعادة .
صوت أبوعلي ظاظا الذي يفاجئني بالكرديّة : إلى أين في هذا الصباح الباكر ؟. ثم يردف : أخذت عقلك هذه الإسرائيلية ، ويهز برأسه مستسلماً لعنادي الذي يعرفه جيداً . وفي محاذاة مبنى السراي أصطدم بأبي عدنان الشركسي ، صاحب المطعم اليتيم في مدينة القنيطرة ، يدندن وهو يرش الماء على إسفلت الشارع ، ككل يوم : صباح الخير عمي أبو عدنان ... صباح الخير حبيبي .
أبو عدنان وأبو علي ظاظا وأم إسماعيل التي لا أراها إلاّ نادراً ، هؤلاء لم يغادروا القنيطرة ، لا قبل الاحتلال ، ولا أثناء الاحتلال ، ولا بعد الاحتلال ، وحدهم يبشرون بأن المدينة باقية ، أتفرس ملامحهم بعمق فأستشعر وكأنهم القنيطرة الحقيقية ، أقرأ في وجوههم تفاصيل حياة الكثيرين ممن رحلوا قبيل لحظة المداهمة ، لحظة الارتطام بالحقيقة المميتة ، كل الذين أخذهم الاحتلال عنوةً في رحلة اللجوء إلى أحياء ركن الدين والقدم وجرمانا والست زينب وغيرها .
أتوسد ذكريات يوم أمس طيلة الليلة الفائتة ، لأنني لا أملك سواها ، أو لأنني لا أرغب في امتلاك سواها ، فقط العربية المكسّرة لناحيت صبيحة لقائنا الأول ، كانت تطغى أحياناً على غيرها : أنا ناخيت من إيسرائيل ، إتنين وإيشرين سنه ، مافي زواج . وتسألني بجرأة : أنت ياعربي في زواج ؟. فأبتسم وأقول في سري : آه ٍلو تعرفين يا ناحيت .
في الطريق المؤدية إلى نقطة الارتباط ، والتي تفصل بين الجانبين ، ثمة أسلاك شائكة كثيرة ، وحقل من الألغام ، وأسلاك شائكة أخرى في الجانب الآخر من الحقل ، ولكنها لم تكن حائلاً ذات يوم من أن أقذف لها وردتها الجورية كل صباح ، وغالباً ما كنت أقطفها وأنا في الطريق إلى لقاء ناحيت ، أومئ لها من بعيد ، فتخرج من محرسها وكأنها بانتظاري ، وما أن أبلغ أطراف الأسلاك ، أجدها تقف في مواجهتي ، أبادرها : صباح الخير . تقبّل أطراف أناملها وتلوح بها : شالوم . فأقذف بالوردة الجورية ، تلتقطها ، تشم عبيرها بعمق ، تحدّق باتجاهي ثم تبتسم .
قال أبو علي ممازحاً ذات صباح وهو يراني أقطف وردةً : لم تترك لنا شيئاً ، هل يستحق الأمر كل هذا العناء ؟. يضحك أبو علي ، ثم يردف : كان الله في عونك يا بني .
في كل مرة أسلك تلك الطريق ، تتسارع خطايَّ ، أحاول أن أهدئ من تلاحقها ، ولكنها تتمرد عليَّ ، أفقد السيطرة ، قوة ما تجرجرني ، بل تدفعني في ذلك الاتجاه ، وما أن تقع عينايَ على محرس ناحيت يرتعش قلبي ، وفي اللحظة التي أقف في مواجهتها ، أحدّق في عينيها الزرقاوين الضاحكتين ، أتلمس ملامحها عبر المسافة الممتدة بيننا ، تأسرني شفتاها ، ثم تخطفني صورتها ، فلا أجد سبيلاً إلاّ الضياع ، وفجأةً .. أنتبه أنها تحدثني . أستيقظ وأتساءل في سري : هل يحدث هذا معك أيضاً يا ناحيت ؟.
في الأيام الأولى لتعارفنا كنّا نتشاتم ، وكان كلينا يتقلد سلاحه ، أنا كنت أحمل الكلاشنكوف ، وهي كانت تحمل العوزي ، وغالباً ما كنت أعيّرها بذلك العوزي الذي يشبه جذع شجرة ، وهي كانت تفتخر بأنه صنع في إسرائيل . ناحيت لم تكن تعرف من المسؤولين السوريين إلاّ حافظ الأسد ، فتشتمه ، وأنا كنت أعرف من المسؤولين الإسرائيليين موشيه دايان ، فكنت أشتمه ، وكنت متفوقاً عليها في استنباط الشتائم ، سيما أن عين موشيه المعصوبة كانت تعطيني مساحةً واسعةً للمناورة ، وعندما كنت أحاصرها ، كانت تفتخر برئيس الأركان موردخاي غور . ولما اكتشفنا عقم المشاتمة ، وقّعنا هدنة على طريقتنا ، وفيما بعد تحولت كل تلك الشتائم إلى مفردات غزل ، فلم نعد نتشاتم أبداً .
في ذلك الصباح ، لم تكن ناحيت مشرقةً كعادتها ، نظرت في عينيها ، ثمة مسحة من الحزن ، ولم تكن ابتساماتها المتكررة قادرة أن تخفي عني تلك المسحة ، حاولتْ ناحيت مراراً أن تتجاهل استفساراتي ، لم تكن ناحيت التي أعرفها ، كانت فيما مضى ضحوكة ، ضحوكة وهي تتحدث إليَّ ، ضحوكة وهي تشتمني ، ضحوكة وهي تغازلني ، ضحوكة وهي تضاحكني . حاولت استجرارها : ناحيت .. منذ شهور ونحن نمارس طقوسنا ، ولكنني لم أر شيئاً من كنوزك ، هلا تسلّينا قليلاً . تنهدت ، ثم أشارت بكلتا يديها إلى الأسلاك والألغام التي تفصل بيننا . اندفعتُ قائلاً : لا يهم .. أرني ما عندك ولو من بعيد .
أخذتها الدهشة ، توسعت عيناها ، ووضعت كفها على فمها المنفرج . ولكنني كنت قد بدأت ، فلم أمهلها : هيا ناحيت ، لا ضير من ذلك . ترددت قليلاً ، ولكنها مؤخراً مدت أناملها لتفتح أزرار قميصها العسكري ، نزعته بهدوء وهي لا تزال تحدّق في عيني ، وضعته فوق الأسلاك ، ثم وقفت قبالتي ووجهها يشي بالسعادة .
لم أكن أحسب أنها ستفعل ، ولكنها تجرأت وأرتني كنوزها . الحرامية ناحيت ، سرقتْ جوريتين من القنيطرة ، وخبأتهما في صدرها ، لم أكن أحسب أنها تفوقني في انتقاء الورود ، وفجأة صرخت : حرامية يا ناحيت .
عادت الابتسامة المشرقة إلى وجهها ، انفرجت أساريرها ، وتهيأ لي بأن مسحة الحزن قد اختفت عن عينيها ، نظرتْ وشفتاها تنمان عن ابتسامةٍ خبيثة ، فأدركت أن وراء نظرتها تلك ما تريد أن تقوله ، ثم فاجأتني : الآن أرني أنت ماعندك ؟.
عيب يا بنت ، زجرتها وأنا أبتسم . لكنها هزت رأسها نافيةً : أنا موش في عيب ، أنت في عيب !!. يلا .. يلا ..
يومها ضحكنا كثيراً ، وقد اتهمتني بأنني سرقت رشاشها العوزي ، وخبّأته في مكان ما !!. وكان هذا آخر عهدي بها ، فقد ودّعتني بعد موجة الضحك تلك ، وقد تقاطرت من عينيها الدموع ، لأنهم كانوا قد أخبروها بانتقالها إلى مهمة أخرى في مكان آخر ، وأدركتُ آنئذ سبب مسحة الحزن التي ارتسمت على عينيها في ذلك اليوم .
واليوم ، وبعد مرور أربعين عاماً على ذلك اللقاء الأخير ، كم أتمنى أن ألتقي تلك المجندة الإسرائيلية ناحيت ، كي أعيد لها رشاشها العوزي ، والذي لا يزال بحالة جيدة .
التعليقات (0)