مواضيع اليوم

مِنْ غير طَيَّار

شيرين سباهي الطائي

2010-02-02 17:07:22

0

وصلَ العالم الغربي إلى قناعةٍ متينة بأنّ عليه التفكير بجدّية ومسئوليّة في ابتكار ألف طريقة وطريقةٍ يضمَنُ بها سلامةَ الجنود والمحاربين في جيوشِه الغازية والمحتلّة،وتحمّلتْ الكفاءات العلميّة والعقول الاستراتيجيّة المهنيّة في وزارات الدفاع والحربية لدى ذلك العالم عبئاً كبيراً في البحث والدراسة وتشجيع الأفكار الجديدة والرؤى الخلاقة وانشغلَت المختبرات بتفنيدها وتقييمها ..

هذا الالتواء على الحروب العاديّة والكلاسيكيّة المعروفة منذ زمن ـ بأنْ يلتقي جيشٌ وآخر ويتصارعونَ ويتقاتلون ـ كانَ سببُه ما أيقنَتْ به كلّ الكُتلِ التي أخذَتْ على عاتقها محاربة المستضعفين في الأرض وهو أنّ الكفّة غيرُ متوازنة عتاداً وعدّة وعدداً ولكنّ الفئة الأضعف تملك نقطةً تسحقُ كلّ ما حِيكَ لها من شرّ بأيدي عدوّها وهي عدم الخوف على شيءٍ أو مهابة أيّ تصفية وإنهاء حياة ..

بالأمس القريب عُقِدَ في الخليج العربي معرضٌ دوري للطائرات الحربيّة المقاتلة والهجوميّة وكانَ من أكثرِ هذه العروض متابعةً من قبل وسائل الإعلام والمهتمّين هو الزّخم الكبير الذي رافق زيادة الشرائح المعروضة من "الطائرات من غير طيار" تلك التي ما إنْ تذكَر حتى يتذكّر كل عربي مسلم غزو العراق والاعتداء على غزة في قاسم مشترك يجمعُ بين أمّ وابنتها في الجريمة من غير بصمات ..

من هذا المنطلقُ أفهمُ بأنّ الرسالةَ هي السيرُ في طريقِ إحداث أكبر الآثار ضرراً والقيام بأعظم العمليات تدميراً مع الحرص على أن لا يكونَ للقائم بها دلائل عملٍ بعد نفاذ مهمّته ولا يكونُ للمسئوليّة القانونيّة كبيرُ ملاحقةٍ بعد الفراغ من انتداب الهجوم ورحلة الاعتداء ولا يكون كذلك للمقترف خسائر مادّية أو بشريّة إلا مالاً أُخِذَ من الضحيّة قسراً وأعيدَ إليها جمراً ولظى ..

وكما هو المثلُ العربي القديم "رَمْيَةٌ مِنْ غيرِ رامٍ" جاءِتْ فكرة "طائرة من غير طيّار" قبلَ عقدٍ ويزيدُ من الزمن لتضيفَ لمفهومِ الحصول على أفضل النتائج بأقلّ الخسائر منعرَجاً جديداً يزيدُ الظالمينَ ظلماً ويُعطي للدّول العظمى أحقّيةً البراءة من كلّ ذنبٍ حالاً واستقبالاً،والعصر الحديث مليء بقصص وحكايات مُحكمة التنسيق والبناء لعمليات بدأت ونُفّذَتْ وانتهت وهي من صُنْعِ القويّ بدايةً وانتهاءً دونَ أن يستطيعَ أحدٌ رغم وضوحُ المسألة القبضَ على دليلٍ أو طيّار ..

ولا أشكّ في ارتباط الصناعات الحربية لدى أيّ مجتمعٍ تحكمُه سياسةُ السيطرة على العالم بالثقافة النفسيّة المرجعيّة لكل فرد هو من مكوّنات ذلك المجتمع،فلمّا كانَ الغربُ المادّي يؤمنُ بيقينٍ بأنّ التبرير المسبقُ أجدى في نجاح الضربات الاستباقية من التحالف مع قوى داخلية أو خارجية أو تجنيد ضعاف نفوس فرَّغَ نفسهُ للحيلِ والتحايل حتّى على العلم والتكنولوجيا فنجَحَ وأبدَعَ وسيطر ..

القضية تدورُ حولَ اختيار الطريق الأسلم في الوصول لأهداف بعيدة وتخيّر الوسيلة الآمنة في انصياع الشعوب لما يقودُهم إليه الخوفُ من "الطائرة من غير طيار" فهي قادرةٌ على متابعة الحركات والسّكَنات لمساحة كبيرة من الأرض ومن يمشي عليها ومُلهمَةٌ لتصطادَ أيّ رأسٍ تُرفَعُ في أجواءٍ تفرضُ على الهاماتِ حظْرَ التّجوال،وهي أيضاً مصنّعة لتفعَلَ ما تفعلُه ولا بشرَ فيها فإن سقَطَتْ أو أُسقِطَتْ سيقضي الجنس العربي نصفَ قرنٍ لتحليل مادّتها في وقتٍ تقصِفُهم فيه طيارات بطيارين ..

لم يُصرّ المجتمع الصّناعي الغربي على التسويق إعلامياً لمثل هذه الطائرة إلا ليُثبَتَ لمن يعيش في الشرق الأوسط بأنّ المراقبة عن بُعد أكبرُ سلاحاً يمتلكُه الجانب الأقوى وأنّ إيلامَ الأجسادِ بدون بقاءِ آثارٍ للضرب أو التعذيب هي المرحلة القادمة من طريقة التعامل مع مشكلات الشرق الأوسط المستعصية،وبذلك لا يبقى للمساكين سوى أن يخافوا من كلّ أيدٍ تُمدّ لهم لأنّه من الممكن أن تكونَ يدٌ من غير ذراع ..

في توقّعي بأنّ الرغبة التي يُبديها الغربُ تجاهَ عرْض السّلع العسكريّة في خليجنا العربي وشرقِنا الصغير بالذات تعودُ لأهدافٍ علميّة بحتة بجانب الأهداف السياسيّة المُعْوَجّة،والحديدُ والموادّ الصلبة التي تُصنع منها مثل هذه الأسلحة الطائرة تحتاجُ لمِرانٍ وتجربةٍ وتعويدٍ على مناخاتٍ قاريّة صحراوية هي ميدانُ استخدامها على الأمد البعيد،فمِنَ المناسب إذاً أن تقفَ "الطائرةُ من غير طيّار" مزهوّة الأداء والشكل والعنفوان في معارض أكبر المدن ارتياداً في الخليج العربي ..

الصّغارُ من أبنائنا خاصّة الذكورُ يحبّذون من الألعاب تلك السيّارات أو الطائرات التي يتحكّمونَ فيها عن بُعد بجهاز قريبٍ من تحرّكات لُعبتِهم المحبوبة ويستمتعونَ وهم يُفرغونَ فيها حُبّهم الفطريّ للتملّك والسيطرة دونَ عناءٍ جسدي يُذكر،وبالتّالي فلا مجالَ لأن تُثيرَ "الطائرة من غير طيار" دهشةَ الحذر لديهم حينَ يشبّوا ويكبروا فلقد تربّوا على أن القدرةَ والعلمَ آتيانِ من بلاد العم سام ..

إنّ "الطائرة من غير طيّار" امتدادٌ لسلسلة سالبة الارتداد موجبَة الآثار يتعرّضُ لنارها عالمنا العربي طيلة قرونٍ مضت ومعَ ذلك نظلّ ننفقُ من أموالنا الكثير في سبيل تمويل مشاريعٍ تستهدف اقتصادَنا "من غير إجبار" وتحرقُ ثقافتنا "مِنْ غير إنكار" وتتصادمُ مع ديننا "مِن غير إشهار" وتستبيحُ أراضينا "مِن غير إنذار" وتُعاقبُ من تشاءُ "مِن غير إشعار" وتعودُ لتطلبَ منّا التسامح والتّعايش "مِن غير اعتذار" وتملأُ سماءَنا "بالطائرات من غيرِ طيّار" وعَجَبي ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات