مواضيع اليوم

مَطَبّاتٌ ضَوْئيّة

شيرين سباهي الطائي

2009-11-12 20:54:46

0

كُنا نسير في طريق سريع بين المدينة المنورة ومحافظة بدر قاصدين هذه الساحة التاريخيّة التي حدثت فيها أول منازلةٍ فاصلةٍ بين الإسلام والشرك وانتصرَ فيها بضعة نفرٍ على ألف أو يزيدون من صناديد قريش الذين خرجوا من ديارهم رياءً وكفراً،ولمّا زُرْنا أولئك الشهداء الذين سطّروا بشجاعتهم بسالة الاعتقاد وقوة الإيمان وصدق القصد انحرَفْنا سائرين إلى ينبع مستدلّين بلوحاتٍ إرشاديّة في ليلٍ مُظلم لا يفصُدُ سوادَه إلا أضواء سيارتي أو انعكاس أشعتها على فسفور الأرض في الخطّ الرئيسي ..

أشارَتْ إليّ وهي تجلسُ بجانبي أنّ انتبه فأمامك "مطبّاتٌ ضوئيّة" ورغم دقّة التعبير الذي اختارته في توضيح المقصود من تنبيهها لي إلا أنّ هذا المصطلح عن الفسفور الصّناعي المستعرض في الطريق عند المنعطفات أو التقاطعات لم أكُنْ قد سمعْتُه من قبل،وربّما قلتُ لنفسي لو سألني أحدٌ وأنا ابن الأربعين سنة عن اسم يُطلَق على هذا الشيء لما استطعتُ مثلها اختراع مصطلح عفوي سريع كالذي تفوَّهَتْ به ..

تذكّرتُ في ذات الوقت أغلب المسمّيات التي ارتبطت بالضوء كصفة مضافة لنفس الاسم وتدَاعت إلى سلّة المعلومات في عقلي "السنة الضوئيّة،والاختزال الضوئي،والقراءة الضوئيّة،وسرعة الضّوء" فعَذَرْتُ مُحدّثتي أنِ التقَطَت هذا الاسم لما تراهُ من عقبات أمامنا في الطّريق ذكّرتْها "بالمطبّات" المنتشرة في طرقنا العربية داخل المدن وفي الأحياء وعندَ مدارس البنات وقبل نُقاط التفتيش وقربَ الدوائر الحكوميّة،ولكنّ تلك "المطبّات" وما تسبّبه من خَضٍّ ورَجٍّ إذا لم تنتبه لها قبل وقتٍ كافٍ من سرعتك الجنونيّة ليسَت مثلَ هذه الأجرام الهُلاميّة التي تُبهرَكَ صورةً وتتلاشي صغاراً وأنتَ تتخطّاها مُسرعاً ..

وما يدعو للتوقّف عندَ "مطَبّ ضوئي" كهذا هو مهارة بعض الأشخاص في إطلاق مسمّيات من بناتِ أفكارهم على الأشياء التي لا يعلمون لها أسماءً في معلوماتهم الموروثة ومعَ ذلك هم قادرون على تسمية الأمور بما تدلّ عليه وما تُنبئ به حسبَ فهمهم وإدراكهم،وفي الجانب الآخر عجزُ كثيرٍ ومنهم "أنا" عن الإدلاء بأي تصريح عن وجهة نظرٍ تجاه شيءٍ لم يعهدوه من قبل وأبعدُ من ذلك أن يستطيعوا ابتداع مصطلحٍ جديدٍ لما يروه أو يشاهدوه لأول مرة ..

والسبب الرئيس وراء إحجامِ الفئة الثانية عن المبادرة نحو التّسمية هو في الغالب الخوف من إثارة سُخرية الآخرين وأن يُصبَحَ ما قالوه مثاراً للتندّر والفُكاهة في المجالس العامة والخاصّة،فهم بذلك يرغبون أن ينتظروا ليسمعوا من أول قادمٍ ما يقوله عن هذا الشيء ليقلّدوه في ذلك ويسلموا من اللوم أو الضّحك والاستهزاء،ولكنّ هذا النّهج أوقع كثيراً من السائحين من بلادنا العربية في دول أوربّية في مواقف مُحرجة أكثرَ من القدر الذي تخوّفوا منه أن يبادروا هم بتوقّع أسماءٍ من عندهم للأشياء ..

فدائماً ما يُضحي الغريبُ فريسةَ التقليد الأعمى للناس دونَ أن يدركَ ماهيّة مقصودهم من هذه المصطلحات كما يحدثُ في الترجمة الحرفية الفورية عندَ غير المحترفين ثقافياً،وأحدُهم سمِعَ الناس عندما تجلسُ على طاولة في مقهى تطلبُ "الكابتشينو" وهو في ذلك الزمن لم يكن يعرف ما هذا الشيء الذي يجمع في اسمه بين حروف "الكاف والشين والباء" فاختلطَ الأمر عليه بينَه وبينَ مسمى آخر لا علاقة له بالمشروبات الساخنة ولا الباردة،فبمجرّد أن جلسَ مع زملائه أحبَّ أن يُريهم مهارته في التقاط تقاليد "المقاهي" وأطلقَ صوتَه للنّادل بأن يأتيه بواحد "كاتشب" مما أُثار ضحك الحاضرين والسامعين والمرافقين ..

وعودة "للمطبّات الضوئيّة" فأنا هنا أسجّل إعجاباً كبيراً بهذا الاسم الجديد الذي أطلقته زوجتي على هذه الأضواء التي رأتها تعترض الطريق فهي بحقّ "ضوئيّة" لما تبعثه من نورٍ استثار حديثها وهي أيضاً بذات الوقت "مطبّات" لأنّ الغرض منها تنبيه السائقين بطريقة ألطَفُ قليلاً من "المطبّات" الأسفلتيّة الأخرى،ويبدو أنّ تعوّدها على مطبّاتٍ في مدينتنا وأماكن سكنانا جعلها تُسمّي أيّ شيءٍ يعترض الطريق "بالمطبّ" لكنّها أحسنَت صنعاً أن لوّنَت هذا المصطلح بإضافة كلمة "ضوئيّة" ..

وأصلُ كلمة "مَطَب" مأخوذة من "طَبّ" بمعنى قفزَ أو وقعَ في فخّ أو حفرة ولا أعرفُ هل هي عربيّة الأصل أم من تعريب لغتنا ولكنّ الناسَ أضافت حرف "الميم" إلى حرفي "الطاء والباء" وجعَلتْ من ذلك مصطلحاً على هذه الأمور العائقة بين الاستمرار في نفس السرعة والراغبين في الانطلاق،وفي بلادٍ مثل "سوريّة" الحبيبة يطلقون على "المَطب" كلمة "مَحدَب" تعبيراً عن شكله المُحدّب وهم بذلك يتآلفون مع ديدنِ هذا الشعب العربي في الاعتزاز باللغة العربية الأصيلة مثلما يسمّون "المستشفى"بلفظٍ أكثر فصاحة "مَشفى" ويجمعون "العصيرات" بلفظ أكثر صحّة "عصائر" ولهم في ذلك خصوصيّة جميلة ..

ومن نافلة القول أن أّذكر هنا قصّة رجلٍ فاضلٍ كانَ يعملُ في محلّ لبيع الملابس النسائيّة الجاهزة في التسعينيات الميلاديّة بالمدينة المنورة ـ وهو قادمٌ من بلادٍ بها البوادي أكثر من الحواضر ـ وهناك العديد من الأسماء الخاصة بالملابس التي لا يعرفها ولا يعرف أصلاً هيئتها ولا شكلها إلا حينَ عمل بهذا المحل،وفي مرّة أرادَ صاحبُ المتجر أن يطّلع على قائمة المبيعات التي كانَ هذا الرجل الفاضل يُسجّلها أولاً بأول وجدهُ يكتبُ من ضمن القائمة "حمّالةُ الثدْيين" وأنتم تعرفونَ ماذا يقصد ..

ولو تُرِكَت أذهان الناس تصطفي من الأسماء ما يدلّ على ما تريدُ قوله لوصلَ لأسماع الناس من المصطلحات ما يستغني به العالم العربي عن "مجمع اللغة العربية" بشقّيه القاهري والدّمشقي واجتماعاته التي يعقدها صباح مساء لتعريب أسماء آلات أو أجهزة اخترعها الغرب وأطلقوا عليها أسماء تتفق ولغاتهم ولهجاتهم ومعَ ذلك تظهرُ الأسماء التي يُجمعُ عليها فطالحة اللغة في هذه اللجان خاليةً وفارغة من أية جاذبية تجعل الناس تتلقّاها بالقبول فتبقى في المحاضر قابعةً تنظرُ زماناً تصبحُ فيها من "نُكاتِ" القول ..

و"لا مُشاحّةَ في الاصطلاح" عبارةٌ تبنّاها أهل الفقه وأصوله وأهل المنطق قديماً ونحنُ اليوم نرفضها ونلزم الناس أن تسمّي الأشياء بما يروقُ لنا وليس بما هو معروف أو بما تدلّ عليه أصلاً،وقُتِلَ بذلك الإبداع والتحفيز على المحاولة وأخذ زمام المبادرة في تطوير اللغة وتجديد المعاجم التي أزكمَ غُبارها أنوف الباحثين وأعمى عيونَ المتبصّرين،فالابتكارُ مع المحافظة على الأصل من أجمل التحدّيات ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات