قال لي أبي : كنتُ أعمل في إدارة للإشراف على نظافة الحرم المكي الشريف أيامَ كانت تلك المسئوليّة مُناطَة "بوزارة الحج والأوقاف" قبل أن تستقل في "الرئاسة العامة لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف" وفي يوم التاسع من ذي الحجة والحرمُ المكي يخلو من الحجيج الذين يقضون يومهم في صعيد عرفات كنتُ مرابطاً في عملي تحسّباً لأي طارئ في ذلك الزمن الهادئ ..
جاءني أحدُ الموظفين الذين يعملون معي ليُخبرني بأنّ طائفاً بالكعبة غلبتْهُ نفْسُه ومرضُه وتقيَّئ في صحن المطاف وأنّه لم يجد من عُمال النظافة أحداً بسبب الحج فقد غادروا جميعهم إلى عرفات ولم يبقَ إلا مجموعةٌ من السعوديّين الكبار في السن ممّن لا يقرءون ولا يكتبون ويسكنون بطحاء مكّة وضواحي منطقة منى ..
فأمرته أن يذهبَ إليهم ويأمرهم بأن يقوموا بواجبهم وينظّفوا تلك المنطقة،فقال لي باستغراب كيفَ آمرهم وهم لن يقوموا بهذا الشيء نهائياً مهما فعلت،فغضبتُ للغاية وقلت له كيف لا يمتثلون لأمرك وهم يعملون بمسمى "عمال نظافة في الحرم" فقال لي هكذا هم وإن شئتَ فاذهب إليهم أنت ..
أسرعتُ قائماً وانطلقتُ حتى أتيتُ باب الملك عبد العزيز وهم يتجمعون عنده في غرفة مخصّصة لهم فقاموا جميعاً وسلّموا علي وأبدوا ترحيباً واحتراماً حارّاً،فقلتُ لهم بأنّ بعض أجزاء الحرم تحتاجُ للتنظيف فهبّوا جميعاً لأدواتهم "وسُطولهم ومكانسهم" ورافقوني على عجَل،فتعجّبتُ من اتهام الرجل لهم بعدم السمع والطاعة وهم حتى هذه اللحظة يُظهرون حماساً لم أجده في غيرهم أبداً ..
انطلقَ وفدُ التنظيف هذا وأنا أقوده وهم يسألونني في كلّ لحظة أينَ المكان يا عم أحمد؟ وأنا أتقدّمُ بهم الهوينى،حتى وصلنا إلى بداية صحن المطاف قبل مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام وقفَ الجميعُ وقفةَ إبِلٍ جَفَلتْ وكأنّ قارعةً من السماء أصابتهم أو صاعقةً سقطَتْ أمامهم فأخافتهم،فأمرتهم أن تقدّموا ولكنّهم أبوا ووجوهُهُم تحملُ ملامحَ غيرَ تلك التي بدءوني بها أوّل مقدمي إليهم ..
أشرتُ إليهم موضّحاً الجزء الذي يحتاج للتنظيف وكانَ قريباً جداً من جدار الكعبة يكادُ يُلاصقها فازدادَ خوفهم ووَجَلهم ورفضُهم الانصياع،فاقتربتُ من كبيرهم الذي يتحدّثُ باسمهم وسألته ما الأمر؟ فقال لي لو أمرتنا يا عم أحمد أن ننظّف الحرم بالكامل وجميع ساحاته ومرفقاته ودهاليزه وفرشه فنحنُ حاضرون وجاهزون ولكنّ بيتَ الله ليسَ لنا قُدرةٌ عليه أبداً ..
وأردفَ أحدهم بلهجتِه الخاصّة وقال "بيتَ الله مَا نُّوشَهْ" بمعنى لا نلمسُه، "بيتَ الله مَا نِقْدَرْلَهْ" بمعنى لا نملكُ حقّه ولا القدرة عليه،ورغم محاولاتي ونُصحي وإرشادي لهم بأنّ هذا من حقوق الله عليهم وأنّ في تنظيف بيت الله والعناية به أجرٌ عظيم إلا أنّ حديثي كانَ يصطدمُ بصخرة من القناعات كرّسِتْها السنون والأيام لدى هؤلاء القوم العفويّين في تصرّفاتهم غير القادرين على تغيير ما وجدوا عليه آباءَهم ..
فعرَفتُ بأنّ صاحبي صادقٌ في خبرِه المبدئي لي،وعلمتُ فيما بعد بأنّهم يفعلونَ ذلك احتراماً للكعبة المشرّفة ويجلدونَ ذواتهم على إثر ذلك بأنّهم ليسوا بأهل لملامسة البيت الحرام ولا جدران الكعبة المشرّفة يقيناً بأنّ من العباد من هو أصلحُ منهم وأتقى منهم ويستطيع مباشرة العمل دونَ أن يزيدوا آثامهم بإثمٍ ببيت الله،وسمعتُ ممّن يعرفهم بأنّهم لا يحجّون رغم تواجدهم في منطقة الحج سكَناً وعملاً بنفس الدّافع والنيّة معتبرين بأنّهم ليسوا أهلاً للحجّ ولا أداء ما يوجبه الله على الناس الأخيار ..
وهذه الفلسفة السوداويّة الخاطئة الأمّية في ضِعافٍ مساكينَ يعملون في الحرم تُعيدُ للأذهان ما كانَ قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من فعل قريشٍ تجاه الكعبة احتراماً وإجلالاً في ممارسات تَحَرَّتْ الخوف والمحافظة حتى تجاوزت الحدّ وغرقتْ في الغريب من طواف العُراة ونحو ذلك،ولكنّي عذَرتُهم ولُمْتُ المجتمع الذي لم يلتفتْ لهذه الشريحة ويعلّمهم أمور دينهم ..
فاعلم يا بُني : بأنّ من التوقير ما يوقعُ في المهالك،ومن التعظيم ما يخرجُ عن نطاق الاحترام،ومن المبالغة في الحرص ما يُعطّل المصادر ويغلق الأبواب،واعلم أنّ بابَ التعظيم والإجلال والإكبار والتوقير والاحترام هو العلم والتعليم وليس ما يُملي عليكَ الشيطان وتُغريكَ به النّفس،والله تعالى يقول "وطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالقَائِمينَ والرُّكَّعِ السُّجُود" والحمد لله أن غابَت هذه الظاهرة من الوجود الآن ..
التعليقات (0)