مواضيع اليوم

ميادين التحرير. اسقاط أنظمة ورقابة شعبية

د.هايل نصر

2011-03-03 10:29:20

0

كان الشعب في اثينا الاغريقية يجتمع في ساحة عامة بشكل جمعية عامة يتخذ القرارات ويناقشها ويعين القضاة وكبار الموظفين. وكان التصويت علنيا وبرفع اليد, نظام عُرف بالديمقراطية المباشرة. لم يعد بالإمكان, بطبيعة الحال, تطبيق مثل هذا النموذج للازدياد الكبير لعدد السكان في الدول, واستحالة عقد جمعيات وطنية لمجموعهم في اماكن معينة. واتخاذ هم للقرارات أو مناقشتها, وكذلك لتطور الدولة ومفهومها ومهامها ...
ميدان التحرير في القاهرة والميادين والساحات التي اجتمعت فيها الملايين من الشعب المصري استطاعت بإرادتها الحرة إسقاط حسني مبارك, وحققت نصرا سلميا فريدا من نوعه في التاريخ, ما زالت أماكن تجتمع فيها هذه الملايين أسبوعيا لتسقط بقايا أعوان مبارك. والى ان يصبح عهده عهدا بائدا بالفعل, تعاهد أبناء الشعب, من الشباب بشكل خاص, على الاجتماع الأسبوعي لتحقيق كل المطالب التي لا يتحقق بناء نظام سياسي جديد الا بتحقيقها.
التعبير عن الإرادة الشعبية الصريحة ,الحقيقية, في الميادين والساحات العامة ليس فقط , كما يفهم منه, مجرد ضغط على القوى ذات الصلة, بهذا القدر أو ذاك, مع نظام حسني مبارك, ولا مجرد تصدي لكل المحاولات للالتفاف على مطالب الثوار من قبل القوى السياسية المتمثلة في أحزاب ذات إيديولوجيات ورؤى سياسية عفا عليها الزمن وتجاوز أفكارها وعقول وإمكانيات رموزها, وإنما كذلك للتأكد من أن لبنات البناء الصحيح لدولة القانون توضع في أماكنها الصحيحة وبالشكل السليم. وان المؤسسات يجب ان تبنى على اسس الانتخاب بعد وضع دستور جديد ينظم هذا البناء ويحميه. وان أسلوب الحضور الشعبي المليوني في الميادين والساحات العامة سيستمر, ويقوم بالرقابة المباشرة والاحتجاج المباشر عند الضرورة. فالشعب بنفسه هو من يعبر عن نفسه في تجمعاته هذه وعن ارادته الحرة. تفويض هذه الإرادة لمجلس الشعب او الشورى عن طريق الانتحاب لا يعني انسحاب الشعب نهائيا من السياسة والرقابة وتركها لممثلين عنه يتحولون, كما ثبت بالتجربة المريرة , إلى ثروت الشريف وأمثاله من رؤساء برلمانات زائفة خالدين فيها, يتحدثون زيفا باسم الشعب ويعتبرون أنفسهم ارادة هذا الشعب الى ابد الابدين.
هذه الرقابة الدورية المنتظمة المعبر عنها في الميادين والساحات العامة تقترب, في بعض وجوهها, من مفهوم النظام الديمقراطي المباشر. واذا ما تم ترسيخها فستصبح اكتشفا وإبداعا عربيا حقيقيا وتطويرا متقدما على كل النماذج الديمقراطية الغربية. (كتبنا قبل سنوات مقالا بعنوان ساخر: "إضافات عربية على الديمقراطية" اشرنا فيه إلى هرطقات القذافي وغيره من الحكام العرب في هذا المجال) نموذج مبتكر من معاناة طويلة ومريرة في عهود الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي أهدرت القيم الإنسانية وانتهكت حياة الإنسان في العالم العربي وحقوقه, بالتواطؤ مع السياسات الانتهازية غير الأخلاقية وغير الإنسانية للأنظمة السياسية الغربية التي ساندت تلك الأنظمة. والتي بدأت مع بداية سقوط الطغاة وانظمتهم الشمولية, تبحث عن طرق لركوب الصحوة العربية معترفة بخطأ ممارساتها السابقة في دعم الطغاة العرب وانظمتهم الفاسدة, وتقدم في ذلك أعذارا أقبح من الخطايا المرتكبة خطايا لا يمكن ان تغتفر.
الخروج الدوري للشعب إلى ميدان التحرير والساحات العامة في طول البلاد وعرضها وفي كل مرة يحس فيها وجود, او إمكانيات وجود, تجاوزات على إرادته وتحريفها, يخلق عرفا في الممارسة الديمقراطية سيدخل القانون الدستوري الكلاسيكي وفقهه.
التجمعات السلمية في ميدان التحرير والساحات العامة والاعتصام فيها عند الضرورة, تختلف عن تنظيم التظاهرات التي تسيرها الاحزاب السياسية والنقابات المهنية في الديمقراطيات الغربية للاحتجاج على قرارات أو مواقف سياسية أو لمطالب نقابية, تظاهرات قليلا ما ينجح ضغطها في تحقيق أهدافها. المثال الحديث على ذلك المظاهرات المليونية التي عمت كل المدن الفرنسية للاعتراض على مشروع قانون التقاعد الذي اقترحته الحكومة, ومع ذلك لم تعدل الحكومة مشروع قرارها واستطاعت ان تخرجه كقانون صوت عليه البرلمان المفترض انه يمثل الارادة الشعبية ويعبر عنها, وبالتالي عليه النزول على مقتضياتها, كما يقتضي مبدأ التمثيل. فقد خذل ممثلو الشعب الشعب وانتصروا للحزبية الضيقة. علما بان الأحزاب السياسية بمجموعها لا تمثل في احسن الحالات نسبة لا تتعدى10 % من الشعب.
يمكن للتجمعات والاعتصام والاحتجاج المنظم في ميدان التحرير والساحات العامة , في ايام العطل, على الطريقة المصرية, ان عرفت الاستمرارية, ان تصبح رقابة شعبية مباشرة على أعمال السلطات السياسية وعلى انتخاب المؤسسات ديمقراطيا وبنزاهة , وفي الوقت نفسه يمكنها ان تكون رقابة على المؤسسات ذاتها حين تتجاوز اختصاصاتها المحددة في الدستور والقوانين المرعية.
الرقابة عن طريق التجمعات في الميادين والساحات العامة دوريا والاعتصام بها, ان اريد لها ان تكون اكثر فعالية في الحياة السياسية, لا يجب ان تقتصر فقط على اسماع السلطات السياسية مطالب الشعب, وانما كذلك ان تشعرها بانها تتحمل المسؤولية كاملة, بما فيها المسؤولية الجزائية, عن اخطائها او تجاوزها لصلاحياتها ,أو تقصيرها في واجابتها, أو تقديمها لمصالحها الشخصية على المصلحة العامة.
هذه الرقابة, كما نتمنى ان تكون, تقلص للحد الادنى الفساد وتكشف الفاسدين, وتجعل من مبدأ الشفافية ليس مبدأ اخلاقيا فقط وانما كذلك قواعد واجراءات قانونية لا يمكن الاحتيال عليها بالتدليس وبالاحتيال والمناورات السياسية للسياسيين محترفي فنون الخداع.
الرقابة عن طريق التجمع الشعبي في الميادين والساحات العامة والاعتصام فيها, ان اقتضى الامر, يمكنها ان تعيد الشعب بقوة للسياسة, وتجعل من المواطنية حقا معترفا به لكل المواطنين, وواجب في المشاركة الفعالة في بناء دولة القانون والمؤسسات , وفي فرض حقوق الانسان, وتضييق هامش المناورات السياسية للالتفاف على الإرادة الشعبية والتنكر للمصالح العامة لفائدة المصالح الخاصة لأصحاب السلطة.
ازمة الديمقراطيات الغربية حاليا هو ابتعاد الشعب عن السياسة, وغياب المواطنين عن المشاركة في الشؤون العامة, وترك ذلك للمثلين المنتخبين لكل المؤسسات والهيئات المحلي منها والوطني, اي على مستوى الوطن بأكمله. وهذا ما تبينه النسب المتدنية جدا للمشاركة في الانتخابات بحيث لا يمكن معها الادعاء الصادق بان المنتخبين يمثلون ارادة الناخبين. ويصبح المجال مفتوحا لادعاءات الاحزاب السياسة بانها تمثل الإرادة الشعبية وتحمل مطالبها, مع انها, في غالبيتها, لا تنال ثقة الغالبية العظمى من الشعب.
الرقابة الشعبية بالتجمع والاعتصام في الميادين والساحات العامة اذا ما تأصلت, فستُفقد الاحزاب والقوى السياسية العربية مصداقية ما تدعيه من "نضال" من اجل بناء الدولة الحديثة. وهي في الواقع طيلة تاريخها, بشتى افكارها ومعتقداتها, لم تستطع تغيير الانظمة الشمولية, او تحد من الفساد والتخلف الاقتصادي والاجتماعي. حاولت هذه الاحزاب والقوى اللحاق, لاهثة, بالثورات الشعبية التي تجاوزتها, ليس لترفدها (بمحزونها النضالي الذي يعادل صفرا, خاصة انها قد اصبحت هي نفسها مع الزمن جزءا من الانظمة الاستبدادية , تحمل عقليتها واساليبها, دون ان تملك أفكارا وبرامج حقيقية) وانما لتحاول بانتهازية ركوب موجة التغيير. كما يمكن للرقابة الشعبية, ان استمرت, أن تطال أيضا هذه الاحزاب وتكشف امراضها المزمنة وفسادها وتبطل ادعاءاتها وتبين ضآلة أدورها.
الرقابة الشعبية عن طريق التجمع في الميادين والساحات العامة والاعتصام بها عند الضرورة, ان تجذرت, ردع لفرعنة اي فرعون او لمن يفكر بالفرعنة. وانهاء لعقلية التمسك بالسلطة مدى الحياة وتوريثها على النحو الذي كنا نراه في توجهات بن علي ومبارك والقذافي وسيف اسلامه و علي صالح اليمني. وغيرهم وغيرهم ممن تحركت شعوبهم او هي في طريق الحراك للإطاحة بهم وبورثتهم المنتظرين.
حين تعلن الجماهير الشعبية مطالبها مكتوبة او شفهية طبقا للدستور والقوانين المرعية وتحدد مددا معينة لدراستها ووضعها موضع التنفيذ, تكون بذلك قد تصدت للروتين وسرّعت عملية اتخاذ القرارات وعملية تنفيذها. وهي بهذا لا تقوم بدور السلطات التي تمارس الحكم ولا تتدخل في أعمالها اليومية. وبالتالي لا تخلق الاضطراب والفوضى في العمل.
قد يعتقد البعض ان الخضوع لإرادة الجماهير المحتشدة في الميادين والساحات العامة والتهديد بالاعتصام يربك اعمال الدولة مما ينتج عنه قرارات غير مدروسة تعوزها التقنية والواقعية. كان تفقد, على سبيل المثال, القوانين المقترح وضعها او تعديلها امكانية دراستها دراسة كافية وافية من قبل المشرعيىن والمتخصصين, وان تسريع الاجراءات يمكن ان يجعلها غير ملاءمة او متناقضة مع غيرها لتداخل مراكز القرار وتشعب المواضيع وتشابكها . فالعمل تحت الضغوط الشعبية وارضائها, وتجنب الصدام معها, لا يتيح للسياسيين, على سبيل المثال, التفكير بدراسة قراراتهم في المجال الداخلي أو في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
قد يكون هذا صحيحا اذا كان المطلوب احلال الجماهير محل المؤسسات ومحل المتخصصين, والتدخل اليومي في اعمالهم. ولكن الواقع ان الدور الاساسي المقترح للجماهير المحتشدة في الميادين والساحات العامة ليس الا دور مطالبة و رقابة. ينتج عنه بالدرجة الاولى اعادة الشعب الى السياسة. وبالتالي اعادة السيادة للشعب.
اذا استطاعت الثورة المصرية ترسيخ واقع التجمعات الشعبية المليونية في الميادين والساحات العامة, والاعتصام فيها حينما تقتضي الضرورة ذلك, وممارسة هذا بشكل دوري وحضاري, سيكون في ذلك, حسبما نرى, تعديل اساسي في مفاهيم القانون الدستوري, واضافة عملية على الاليات الديمقراطية يخرج هذه الاخيرة من الشكلية التي بدأت تقع فيها الى الواقعية والفاعلية. كما انه تعديل يقترب بها من مفهوم الديمقراطية المباشرة التي اعتمدها اليونان وحالت مقتضيات اجرائية وعملية مثل التطور السكاني ومفهوم الدولة الحديثة والانظمة السياسة وتسيير الامور الاقتصادية والاجتماعية والادارية ... دون امكانية تطبيقها بالطريقة التي كان يطبقها الإغريق في اثينا.
وعليه يصبح دور تلك الميادين والساحات العامة ليس فقط اسقاط الأنظمة السياسية الفاسدة, وانما أيضا فرض رقابة دائمة على اعمال السلطات السياسية في نظام سياسي جديد عليه الاعتراف والقبول بهذه الرقابة كآلية جديدة مستحدثة وفعالة في النظام الديمقراطي.
لماذا لا يكون للشعوب العربية شرف ابتكار دور الميادين والساحات العامة في نزع شرعية الطغاة, ان كان لهم شرعية أساسا, واقامة الشرعية الشعبية سلميا؟ و جعل هذه الميادين والساحات العامة جمعيات وطنية تتداعى اليها ملايين المواطنين, ومراكز رقابة شعبية في الدولة الديمقراطية المرتقب بناؤها على انقاض الاستبداد والفساد؟ .
د. هايل نصر

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات