الجزء1
عندما تحرك شعب البحرين مطالبا بحقوقه السياسية بدءا من حقوق المواطنة الصحيحة، جوبه برفض من النظام الحاكم؛ وهو نظام ملكي استبدادي يقوم على قواعد السلطة المطلقة (الملطفة) بشكليات لا تغير الجوهر. ولم يكتف الملك في المواجهة بما لديه من قوات مسلحة نظمها تحت تسمية «قوة دفاع البحرين»، بل استعان بقوات خليجية كانت نظمت تحت تسمية «قوات درع الجزيرة»، فاستقدمها إلى ساحات الاحتجاج الشعبي؛ لتتصدى للمدنيين العزل، وخلافا لما تصرفت به أمريكا حيال حالات الاحتجاج أوالحراك الشعبي في دول أخرى كليا مثلا،حيث استصدرت من مجلس الأمن قرارا أجاز التدخل العسكري الأجنبي لحماية المدنيين، فاستعملته أمريكا»ذريعة» لتدخل الناتو؛ ما أدى إلى إسقاط الرئيس الليبي السابق معمر القذافي وقتله، فإنها في الحالة البحرينية لزمت الصمت في البداية ما أوحى بموافقتها على القمع العسكري للاحتجاج السلمي المدني، كما أنها سكتت عن تدخل القوات الخليجية ومعظمها سعودي، لا بل شجعتها!
وفي الأونة الأخيرة سُجِّلت مواقف أمريكية خجولة تحث ملك البحرين على إجراء بعض الإصلاحات التي قد تخفف من الاحتقان الشعبي، مع استمرارها في دعمه رغم واقع الحكم الاستبدادي الذي يمارسه النظام، وقد أثار موقف أمريكا حيال البحرين الأسئلة عن أسباب تمسكها بهذا النظام رغم تعارضه الأكيد مع ما تدعيه أمريكا من حرصها على نشر الديمقراطية وإرساء قواعد حقوق الأنسان.
في هذه الدراسة سنبحث في استراتيجية أمريكا في المنطقة وموقع البحرين فيها، دراسة نقارب من خلالها تحديد سبب اهتمام أمريكا بالشرق الأوسط أولاً، لنقف بعدها على استراتيجية أمريكا المعتمدة الأن في المنطقة، ثم ننتهي إلى تحديد موقع البحرين في هذه الاستراتيجية، مع محاولة لإلقاء الضوء على المقاربة الأفضل لشعب البحرين لتحقيق مطالبه في ظل المعطيات القائمة راهناً.
1. أهمية الشرق الأوسط في العين الأمريكية
منذ أن دخلت مسرح التأثير العالمي المباشر في الحرب العالمية الثانية، طمحت أمريكا في توسيع فضائها الاستراتيجي، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في العام 1945، وأُنشئت منظمة الأمم المتحدة على أنقاض «عصبة الأمم»؛ من أجل منع الحروب وتحقيق الأمن والسلام الدوليين،فإن النظام العالمي الذي أرسيت قواعده آنذاك، جاء بمنظومة لحماية مصالح المنتصرين،وفي طليعتهم أمريكا التي اعتمدت سياسة ومسلكا يتيح لها تحقيق طموحها دون الوقوع في سلبيات الاستعمار القديم.
وانطلاقا من تلك النزعة اهتمت أمريكا بالشرق الأوسط لما يمثله أو يوفره لها من مكاسب دعما لمشروعها الكوني، فالمنطقة تتوسط العالم القديم وفيها الممرات الإجبارية للمواصلات والتنقل بين أنحاء العالم، ثم أنها تختزن في أعماقها مصادر الطاقة (النفط و الغاز) التي لم يتم التوصل حتى الأن إلى البديل الناجع عنها. وقد بات راسخا في الفكر الاستراتيجي العام أن من يمتلك السيطرة على هذه المنطقة يتحكم بسهولة في القرار العالمي.
وتأسيساً على ذلك، وضعت أمريكا المنطقة في أعلى درجات اهتمامها، واعتمدت من الخطط والاستراتيجيات ما يمكّنها من ذلك بشكل آمن وموثوق، ولكنها لم تتجمد عند استراتيجية واحدة للعمل، بل كانت تكيف سلوكها وتراجعه وفقاً للمتغيرات، مع ثبات في الأهداف، وهذا أمر منطقي؛ لأن الاستراتيجية تتغير وفقا لتغير المعطيات والعناصر التي تبنى عليها.
نقول ذلك مع التذكير بأن الاستراتيجية - بشكل عام- تعتمد من أجل تأمين مصالح حيوية تتخذها الجهة المعنية أهدافاً أساسية كبرى لها، وتعمل على تحقيقها انطلاقا من الوسائل والإمكانات المتاحة لها أو التي تستطيع أن تتصرف بها أو توفرها، مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة التي ستعمل فيها بما تقدمه من تسهيلات أو تفرزه من عقبات وعوائق.
وانطلاقا من ذلك، يتم وضع الخطة / الخطط التي تمكنها من تحقيق المصالح / الأهداف باستعمال الوسائل المتاحة في ظرفها وبيئتها، أي باختصار تفهم الاستراتيجية بأنها التخطيط لاستعمال المتاح من الامكانات لتحقيق المرغوب به من المصالح والأهداف مع احترام ما تشكله البيئة القائمة من ظروف.
وعليه، تكون البداية في تلمس استراتيجية ما ماثلة في تحديد المصالح/الأهداف، ثم إحصاء القدرات والإمكانات المتاحة - ذاتية كانت أو مكتسبة - وصولاً إلى تحديد العقبات والصعوبات أو المخاطر التي تمنع أو تعيق تحقيق المطلوب.
وعلى هذا الأساس، ينبغي على الباحث في استراتيجية أمريكا في منطقة الشرق الأوسط أن يقف أولاً عند الاستراتيجية الشاملة لأمريكا بشكل عام، ثم يبحث عن مصالح أمريكا في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، وصولاً إلى تحديد العوائق التي قد تعترض التنفيذ، أي وبدقة أكثر تحديد الخصم أو العدو الذي ستواجهه أمريكا في سعيها لتحقيق ما تريد في المنطقة.
2.المصالح الاستراتيجية الأمريكية
قد لا يكون يسيرا القطع بحصرية المصالح الأمريكية، وخصوصا أن أمريكا تعتمد في تعيينها أساليب متعددة منها الأسلوب المباشر والتحديد الصريح، كما أنها لا تتلكأ عن اعتماد التورية والتعمية على أهدافها وفقا لطبيعة الهدف، لكننا نستطيع أن نحصي من المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ما يلي:
1) المصالح المعينة بشكل مباشر، وهي أربعة كما حددها الرئيس باراك أوباما صراحة:
- ضمان تدفق النفط إلى الغرب.
- ضمان بقاء إسرائيل و أمنها.
- منع امتلاك أحد من دول المنطقة سلاح الدمار الشامل.
- محاربة الإرهاب بالمفهوم الأمريكي.
2) المصالح/ الأهداف المضمرة وتتجسد في:
- منع تشكل جبهات أو قوى أو محاور إقليمية تواجه الولايات المتحدة وتعرقل نشاطها.
- منع قيام الدول الإقليمية القوية المستقلة.
- منع الاستقرار الذي يوفر النهوض والتقدم الوطني أو القومي أو الإقليمي.
- الحد من النهوض الصيني.
- منع توسيع الفضاء الاستراتيجي لكل من الصين و روسيا في منطقة الشرق الأوسط.
3) أما المصالح المقنعة أو المخفية فتتركز بشكل أساسي في منع شعوب المنطقة من امتلاك قرارها وممارسة حق تقرير المصير والسيادة، كما إنها تهدف إلى منعها من استغلال ثرواتها الطبيعية أو التحكم بها، والعمل على إفشاء ثقافة الإلحاق وعدم الثقة بالنفس.
وانطلقت أمريكا لتحقيق هذه الأهداف معتمدة أولا على قدراتها الذاتية المتمثلة في اقتصاد قوي وصل إلى مرتبة الاقتصاد الأقوى في العالم، وقدرات عسكرية هائلة جعلت معظم الباحثيين العسكريين والاستراتيجيين يصنفونها في المرتبة الأولى في العالم، ثم راكمت هذه القدرات على مستويين: الأول مستوى الأحلاف العسكرية، فأنشأت -بشكل قوي ومتماسك - الحلف الأطلسي، وحاولت أكثر من مرة إنشاء أحلاف أخرى كالحلف المركزي أو حلف بغداد في أواخر الخمسينات. وفضلا عن ذلك، فقد اتجهت إلى الاتكاء على المنظمات والهيئات الدولية كالأمم المتحدة، وخصوصا مجلس الأمن الدولي والبنك الدولي ووكالة الطاقة الدولية و سواها.
3. الاستراتيجية الأمريكية القائمة ومستلزماتها
في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية تقلبت أمريكا ومعها الأحلاف التي تسيطر على قرارها في اعتماد استراتيجات عدة، فبدأت في الخمسينات مع»استراتيجية الردع والاحتواء»، وهي ما عملت به طيلة فترة «الحرب الباردة» بينها وبين الاتحاد السوفييتي، وهو ما أدى إلى تفكيك الأخير في العام 1989، وبعدها انقلبت فورا إلى «استراتيجية القوة الصلبة»، وترجمتها حروباً و فتح جبهات قتال في كل من الخليج وأفغانستان والعراق، كما ساهمت حليفتها إسرائيل- وتنفيذا لأوامرها - في جزء منها، فقد شنت حربها على المقاومة في لبنان في العام 2006، وهي الحرب التي خرجت منها بفشل أكد هزيمتها التي كانت تجرعتها في العام 2000 بخروجها من الجنوب اللبناني، فراكمت عليها هزيمة جديدة بدلا من أن تمحو أثار الأولى!. وعطفت هذه الهزيمة على الإخفاق الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان، ما حمل أمريكا إلى التحول إلى «استراتيجية القوة الناعمة»، وهي التي طبقتها بشكل مباشر في إيران، لكن سرعان ما تبين لها أنها «استراتيجية عاجزة» عن تحقيق الأهداف في مواجهة خصم عقائدي كـ «الخصم الإيراني»؛ لأنها تتطلب نَفَساً طويلاً وصبراً، ويخشى معها انفلات أَزِمَّة الأمور من يديها، ونتيجة ذلك استجابت أمريكا لأراء المفكرين الاستراتيجيين لديها، واعتمدت منذ العام 2010 «استراتيجية إدارة الأزمات».
وقد كرس الخيار الأمريكي الجديد في المفهوم الاستراتيجي العام للحلف الأطلسي الذي اعتمد في تشرين الثاني 2010 ليعمل به في العقد المقبل حتى العام 2020، وفي هذا المفهوم أكدت أمريكا والحلف الأطلسي على ثوابت أساسية تعنينا في هذا المقام هي:
1) أهمية منطقة الشرق الأوسط للأمن والاقتصاد الغربي وخصوصا لجهة أمن النفط وأمن إسرائيل.
2) التخلي عن استراتيجية القوة الصلبة، وإقفال الجبهات المشتعلة، وسحب الجيوش المقاتلة من العراق و أفعانستان في موعد أقصاه العام 2014.
3) إدارة الأزمات التي تظهر في العالم عامة وفي الشرق الأوسط خصوصا بشكل يؤدي إلى احتوائها، والسير بها باتجاه تحقيق المصالح الغربية.
4) التمسك بخيار الردع النووي بوصفه أداة ردع ناجعة تمنع تهديد المصالح الغربية بشكل جدي.
5) التشدد في سياسة حرمان خصومها من امتلاك سلاح الدمار الشامل وخصوصا النووي منه.
إذن، غيرت أمريكا استراتيجتها مؤخراً بعد إخفاقها باعتماد استراتيجيتين متتاليتين، لكنها لم تغير شيئا من أهدافها الاستراتيجية الأساسية الكبرى وبالتحديد ما يتعلق بالنفط والسيطرة عليه، وإسرائيل وأمنها، والحؤول دون تحول منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة يملك القرار فيها أحد سواها، أو يشاركها في القرار طرف من خارجها، أو حتى من داخلها، وتحقيقاً لهذه الأهداف رأت أن الوجود العسكري المباشر في منطقة الشرق الأوسط، عند منابع النفط، والممسك بالممرات المائية، والحائل دون انهيار الوضع العسكري والأمني لإسرائيل، هو ضرورة، بل شرط لابد منه، لإحداث الطمأنينة والثقة بمستقبل يناسبها في المنطقة، وقد بات هذا الوجود ذا أهمية أكبر بعد التخلي عن استراتيجة القوة الصلبة؛ لأن وظيفته تحولت إلى وظيفة ردع، وهي الوظيفة التي تستلزم الوجود القريب المكثف الذي يحدث في نفس العدو الرهبة فيرتدع عن المواجهة أو الاحتكاك. وارتكازا على هذه الضرورة الاستراتيجية، تجد أمريكا نفسها ملزمة بالتمسك بالقواعد العسكرية الملائمة في جغرافيتها لتأمين حماية مصالحها التي حددت كما سبق، لا بل تكثيفها وتوسيع انتشارها لبناء الستار/ الدرع الرادع وعلى وجهين؛ الدرع الناري والقبضة القتالية الموجهة باستمرار لـ «العدو» الذي يهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، ولكن من يهدد هذه المصالح؟
التعليقات (0)