اقرأ هذه العبارة الصارخة دون صراخ:
إن ما يشاهده الناس وما يقرؤونه، أو ما يستمعون إليه ، وما يرتدونه ، وما يأكلونه ، والأماكن التي يذهبون إليها ، وما يتصورون أنهم يفعلونه ، كل ذلك أصبح وظائف يمارسها جهاز إعلامي يقرر الأذواق والقيم التي تتفق مع معاييره الخاصة التي تفرضها وتعززها مقتضيات السوق.(1)
التعليق: فتأمل.
ربما تجادل في صحة هذه العبارة وانطباقها عليك، لأنك حسب وجهة نظرك تتمتع باستقلالية كافية في اتخاذ القرار المناسب تجاه كل ما ورد، وأن ذوقك وقيمك لم تصبهما خدشة من ثقافة الاستهلاك المستشري في كل مناحي الحياة.
لن نفسد عليك حكمتك المتعالية، ولن نذكرك بلباسك ومركبك ومسكنك وأكلك وما يحتويه كل منها من أشياء مستوردة لا تنفصل عن قيمها. لن نذكرك بما تفرضه التحولات الاجتماعية العميقة حولك من قيم جديدة تتمظهر في العادات والأذواق المستوردة كما هو الحال في الزواج وغيره.
لن نذكرك بشيء من ذلك لأنك بمنأى عنها كما تعتقد، ولكننا نطلب منك أن لا تفغر فاك حين ترى جارك منجرفا مع التيار، وهو يشير ساخرا إلى لحيتك طالبا منك أن تسكب الماء عليها ، ونطلب منك أن تتماسك حين تشاهد أحد أقاربك أو أبناء بلدتك يقود سيارته أو تقوده سيارته بسرعة جنونية وأصوات الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة تلكم قلبك تحت الحزام. ونطلب منك أخيرا أن لا تنفعل عندما تقرأ عن الأرقام المليونية للاتصالات الهاتفية التي يجريها أبناء وطنك ببرنامج ستار أكاديمي.
نقول ذلك لأن المسألة لم تعد تحتمل الموقف السلبي من أي أحد، خصوصا ممن يهمهم أمر مجتمعهم، فالريح العاتية لا تستثني أحدا، والجبال التي نحسبها جبالا فنهرب إليها لا تعصم من الطوفان.
إننا بلا شك أمام مرحلة حرجة حافلة بالأسئلة الأكثر إحراجا؟ فما الذي يجعل برنامجا فارغا من أي مضمون يستولي ويستحوذ على عقول الشباب والشابات؟ هل هي القدرة على استخدام كل أدوات البلاغة التكنولوجية في حين لا نزال عاجزين عن استيعاب بلاغة عبد القاهر الجرجاني؟ وما الذي يجعلنا نفشل في جذب هؤلاء الشباب والشابات لبرامجنا؟ أين يكمن الخلل؟ فينا أم في البرامج أم في الاثنين؟
وإذا قلنا إن الإنسان مفطور على حب الكمال، فأي كمال يراه الشاب أو الشابة في مثل هذه البرامج، أو يمكن أن نضع السؤال بطريقة أخرى: أي نقص يشعر به الشاب أو الشابة ليحتاج هذا الكمال الموهوم لسده؟ ولماذا لا يشده الكمال الذي ندعوه إليه؟ لماذا لا يشعر بالظمأ لمائنا؟ هل نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار للماء، وكيف؟ هل فعلنا ما يكفي لحفر آبار الفطرة في صحاري النفوس القاحلة؟ هل أخذنا كتاب الشباب بقوة؟
هذه أسئلة محرجة، وعلى العاملين في الحقلين الثقافي والاجتماعي أن يواجهوها بشجاعة استثنائية تستحقها المرحلة، تبدأ بتوجيه الاتهام للذات قبل الغير. لنتأكد دائما من صلاحية المصابيح التي نحملها وأن نأخذها إلى مناطق العتمة حتى نساعد القاطنين هناك على التعرف على الظلمات التي تحيطهم ومن ثم على الخروج منها.
التعليقات (0)