مرة أخري يلجأ الغرب لاستخدام القوة العسكرية لتدمير معاقل أحد الطغاة. منذ انتهت الحرب الباردة وبدأت مرحلة الوفاق الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام ١٩٩١ اتبع الغرب سياسة جديدة اتاحت له التدخل العسكري لحماية الشعوب والأقليات ومواجهةالإرهاب. فعلها الغرب بغرض إضعاف أنظمة دكتاتورية اتُهمت بقمع شعوبها وأقلياتها كما حدث في يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي حين دمر حلف الناتو القوة العسكرية والإقتصادية للصرب، وكما حدث في العراق في التسعينيات أيضاً حين سعى الغرب لمحاصرة الدكتاتور العراقي السابق صدام حسين. وفعلها وما زال يفعلها في عدد الدول بغرض مواجهة التنظيمات الإرهابية كما يحدث في أفغانستان وباكستان واليمن.
هذه المرة يلجأ الغرب للقوة المسلحة لإضعاف قبضة دكتاتور ليبيا معمر القذافي على السلطة، وكذا لمواجهة التظيمات الإرهابية التي تتخذ من الشمال الأفريقي والمغرب العربي مقراً لها. لم يكن الغرب ليتدخل في ليبيا لو لم يقم عشرات الألاف من الليبيين بثورتهم المسلحة ضد القذافي والتي فكوا خلالها قبضة القذافي على جزء كبير من الأراضي الليبية. ورغم العون اللوجستي الغربي والمساعدة المادية العربية للثورة المضادة للقذافي إلا أنه بعد مرور نحو أربعة أشهر على اشتعال الموقف لا تبدو في الأفق نهاية للصراع الدائر في ليبيا.
اعتقد الكثيرون حين بدأ الليبيون ثورتهم ضد معمر القذافي أن الطاغية الليبي لن يمكث طويلاً بالسلطة. بدأ المعارضون انتفضتهم بقوة ونجحوا في أيام قلائل في الاستيلاء على عدد من المدن المهمة في الشرق الليبي وعلى رأسها بني غازي. واعتماداً على المشهد على أرض الواقع عندئذ مدعوماً بالنموذجين التونسي والمصري اللذين أضاحت ثورتان سريعتان غير مسلحتين فيهما بنظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك بنى الكثيرون توقعاتهم بأن نظام القذافي لن يصمد طويلاً. ولكن القذافي خيّب كل التوقعات واستمر في مقاومته العنيفة لمعارضيه ما احال الصراع الليبي إلى حرب أهلية ضروس يسقط بسببها العشرات من المدنيين بصورة يومية ضحية القتال واستهداف المناطق السكنية.
ربما كان لجوء القذافي لاستخدام آلته العسكرية في صراعه مع المعارضين السبب الرئيسي في عدم نجاح الثورة بنفس السرعة التي نجحت بهما ثورتا التونسيين والمصريين. ورغم القوة التي بدأت بها المعارضة معركتها ضد القذافي إلا أنه لم يتم استثمار هذا الزخم الهائل في عزل القذافي. كان نفاذ الإمكانات المحدودة للمعارضة سبباً أخراً في امتداد الصراع حتى يومنا هذا.
لم يقم العالم بما يكفي حين اندلعت شرارة الانتفاضة الليبية لمساندة المعارضة. كان النجاح المبدئي في الاستيلاء على معظم الجزء الشرقي من ليبيا شبه ذاتي. ويبدو أن العالم انتظر حتى تأكد بأن لا مستقبل لنظام القذافي في الدولة الغنية بالنفط. عندها بدأت الحكومات العربية ثم الغربية في الاعتراف بالمجلس الانتقالي الذي شكلته المعارضة وتقديم المساعدات له. بدأت المساعدات معنوية ثم تحولت إلي مادية مع إعلان دول الخليج، التي اختلف معها القذافي كثيراً، دعمها للمعارضة. وأخيراً جاء الانقلاب الغربي على القذافي مصحوباً بمعونات عسكرية للمعارضة وحصار حوي وهجمات بالطائرات ضد معاقل القذافي.
كان بالإمكان إنهاء نظام حجم القذافي في أيام قليلة لو لم يأخذ الغرب وقتاً طويلاً في التفكير ثم إعادة التفكير في كيفية مساعدة المعارضة. بدا نظام القذافي عاجزاً ومهلهلاً في بداية الانتفاضة ولكن الغرب لم يشأ عندها دخول الصراع، وهو الأمر الذي أضاع فرصة ذهبية لإعادة الهدوء إلى ليبيا.
لم يكن الغرب متحمساً ومتردداً في البداية لدخول الصراع الليبي. ربما يرجع التردد إلى غياب الوازع القوي والرغبة في إعطاء القذافي فرصة لإستعادة زمام الأمور في البلد الغني بالنفط بأقل الخسائر، وربما يرجع إلى الرغبة في مكافأة القذافي الذي نجح في السنوات القليلة الماضية في الاندماج في المجتمع الدولي، بعدما أعلن تفكيك البرنامج الليبي النووي، وتمكن من عمل علاقات صداقة قوية مع عدد من الزعماء الغربيين وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني.
لكن لجوء القذافي لاستخدام العنف المفرط ضد المعارضة، إضافة إلى الأنباء التي تواترت عن استغلال التنظيمات الإرهابية ومنها تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي للحرب الليبية للعمل بحرية واسعة وتجنيد عناصر جديدة وتدريبها على العمليات الإرهابية دفع الغرب لإعادة التفكير في الأمر. لم يرد الغرب أن يبقى صامتاً أمام عنف القذافي، ولم يرد الغرب أيضاً أن يترك الساحة الليبية للتنظيمات الإرهابية، ومن ثم قرر في نهاية مارس الماضي أن يلعب دوراً في الصارع الدائر. اختار الغرب مساندة الجبهة المعارضة الصاعدة على الساحة الليبية. وقرر الغرب فرض حظر جوي شامل في ليبيا، وأسند مهمة توجيه ضربات ضد معاقل القذافي ومعسكرات الإرهاب لقوات حلف الناتو.
لم يشأ الغرب أن يتدخل برياً في الصراع الليبي، وارتضى لدوره أن يكون قاصراً على الطلعات الجوية وقصف المواقع التي يشتبه في أن تكون مصدر تهديد له وللمعارضة. لا يبدو أن التدخل الغربي قد أثمر جدياً في إضعاف قدرات القذافي العسكرية والمعنوية رغم نجاح الهجمات الجوية في اغتيال عدد من أفراد عائلته وتدمير عدد كبير من آلياته ومراكزه ومقراته، فالقذافي لا يزال حتى يومنا هذا ينعم بحياته في معاقله التي يتحصن بها في طرابلس، وقواته لا تزال حتى وقتنا هذا قادرة على مهاجمة قواعد المعارضة.
يرتكب الغرب بقصور وضعف دوره في إنهاء الحرب الأهلية الليبية خطأً جسيماً أخراً يضاف إلى خطأ التدخل المتأخر. من شأن امتداد الصراع بين القذافي والثوار أن يحيل ليبيا إلى أفغانستان جديدة أو صومال أخرى وأن يفتح الباب أمام حرب أهلية طويلة الأمد يدفع ثمنها الشعب الليبي. كما سيسمح امتداد أمد الصراع بتكثيف تواجد التنظيمات الإرهابية التي لن يستطيع الغرب القضاء عليها بالضربات الجوية كما فشل في أفغانستان والعراق. وقد ذكرت عدة تقارير قادمة من ليبيا أن وجود التنظيمات المتطرفة والإرهابية ازداد كثافة بشكل غير مسبوق منذ بدأت الحرب الأهلية، ولا شك في أن استمرار اشتعال الأزمة سيزيد الموقف تعقيداً لأن التنظيمات الإرهالبية تترعرع حين تتواجد الصراعات والحروب.
من المؤكد أن القذافي لن يذهب إلى ذمة التاريخ طواعية أو تحت الضغوط الواهنة الراهنة. القذفي يتلقى مساعدات عسكرية وبشرية من أصدقائه الأفارقة ما سيساعده على الاستمرار أمد طويل في الحرب ضد شعبه طالما بقيت مواجهة الغرب له ضعيفة ومحدودة. يجب على الغرب اتباع المنهج القاسي الذي استخدمه حين تم من خلاله تركيع الصرب في التسعينيات. لا يريد الغرب أن يكرر أخطاء الماضي التي ارتكبها في العراق في العقد الأخير من حكم صدام حسين حين اكتفى بفرض حصار جوي وهجمات قليلة على بعض الأهداف العسكرية، وهو ما لم يثمر عن رحيل صدام. ربما كان التدخل البري الغربي غير مرغوب فيه على كل الأصعدة، ولكن دعم وتدريب المعارضين وتكثيف الهجمات الجوية من شأنه أن يؤتي ثماره.
وإذا كان دعم المعارضة أمراً مهماً للغاية لترجيح كفتهم في الحرب ضد قوات القذافي، إلا أنه من واجب الغرب التأكد من طبيعة معارضي القذافي الذين يدعمهم ويدربهم. من المهم ألا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة في أفغانستان حين أرادت مواجهة القوات السوفيتية بالمجاهدين الذين تحولوا إلى إرهابيين، فمن المؤكد أن الإرهابيين يعارضون القذافي ويريدون استغلال الموقف للتسلح والتدريب. ومن المهم أن يدرك الغرب أن ليس كل معارضي القذافي مسالمون ومعتدلون.
التعليقات (0)