مهزلة خبير عسكري ومحلل إستراتيجي
من أشهر أبيات الشاعر إبن رشيق القيرواني قوله:
مما يزهدني في أرض أندلسِ
أسماء معتمدٍ فيها ومعتضدِ
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهِرِّ يحكي إنتفاخاً صولة الأسد
فبعد إنتشار ظاهرة الرتب العسكرية من ملازم أول خلاء إلى لواء وفريق أركان حرب خلاء . برزت ظاهرة "محلل إستراتيجي" و "خبير عسكري" ، يدعيها البعض كيفما اتفق . وعلى سبيل العمل الإضافي والحصول على ما تيسر من الأجر المالي ، وكذلك بعض الإمتيازات وتراخيص الإستيراد وبسطات الخضار والفواكه .. إلخ. التي عادة ما تتميز الأنطمة الشمولية والدكتاتورية ببذلها لأمثال هؤلاء من الجربندية والرانكرز المعاشيين والعاطلين عن العمل المنافقين وكذابين الزفة ، وأصحاب المباخر والأكشاك والمصاطب والأبواق الرديئة.
والملفت للنظر أن هؤلاء الذين يدعون أنهم خبراء عسكريون ومحللون إستراتيجيون يتواصلون مع القنوات الفضائية الأجنبية مباشرة أو عبر مديري مكاتب هذه القنوات في الخرطوم لإعتمادهم بمسميات خبراء ومحللين سواء بكثرة الإلحاح أو بضغط من الأجهزة الأمنية على مدراء مكاتب هذه القنوات . الملفت أنهم يقتصر دورهم على المجادلة واللجاجة والنفاق ؛ والمغالطة والإنكار والكذب والبهتان ، وقول الزور وشهادة الزور لاغير ؛ بأسلوب ومنهج سمج مكشوف يثير الغثيان لدى المواطن السوداني الذي يصنع الحدث ويسطر التاريخ أو يتعايش مع كل هذا الحراك على الأرض . ويدرك بالتالي أن ما يقوله هؤلاء الكلمنجية والنابحون لاسند له في الواقع على الأرض ولا يمثل الحقائق. كما أنه لا يعبر عن الرأي العام في شيء.
الخبير العسكري والمحلل الإستراتيجي يفترض فيهما المصداقية والعلم والحياد المهني. وليس مطلوب منهم الدخول في مغالطات ومشاكسات وجدال ولجاجة ، ولي عنق الحقائق.
وللأسف فإن القنوات الفضائية العربية ستضيف هؤلاء إما لجهل منها عن السودان . أو لأمر في نفس يعقوب ؛ وبما يدعم من وجهات نظرها وما ترغب في نقله إلى مشاهديها ومتابعيها من إنطباعات محددة تخدم رسالتها الإعلامية السالبة في كثير من الأحيان.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو من أين حصل هؤلاء على هذه المسميات والألقاب المهنية والأكاديمية المتخصصة. وعلى أي خلفيات إتكأوا للتحلي بمسمياتها؟ ..... لا أحد يعلم!
ولكن الملفت أن الغالبية الكاسحة منهم هو إما عميد أو لواء بالمعاش ومنتهي الصلاحية.
وهنا يجب أن تستوقفنا هذه الجمهرة من الرتب العسكرية والأمنية (على المعاش) لتوضيح أنه حتى لو اقتنعنا أو سلمنا جدلاً بأن بعض هؤلاء قد تدرج تدرجاً طبيعيا في الرتب العسكرية والأمنية منذ تخرجه من الكلية الحربية أو الشرطة إلى حين إحالته على المعاش. فإن التخصص (الإستراتيجي) الذي يكون قد حصل على معلومات عامة عنه بحكم دراسته ووظيفته أو حصل على دراسات إضافية وكورسات في المجال الإستراتيجي ... كل هذا إنما يقتصر على التخطيط الإستراتيجي العسكري الذي يتعلق بالتجهيز للمعارك قبل الحرب أو خلالها في ميادين القتال . ولا يمتد (على سبيل المثال) إلى الإستراتيجيات السياسية والإقتصادية وإدارة الدولة المدنية .. إلخ في أوقات السلم خاصة.
وكذلك الحال عندما يتعلق الأمر بالتحليل الذي هو أيضا جزء من الإستراتيجية .
فالإستراتيجية هي خطة كلية . والتحليل هو تجميع للجزئيات التي يتطلبها نجاح تطبيق الإستراتيجية الكلية.
ولكن أن يظن أي عسكري أو أمنجي سابق أن دراسته البوليسية أو الحربية الأكاديمية (حتى لو كان خريج وتدرجه طبيعيا) تؤهله كخبير إستراتيجي لكل منشط وعمل ومجال من ضروب الحياة ؛ فهذا ما لايمكن إن تحتمله البلدان . ولا يعقل أن ترتقي به المجتمعات والشعوب في مدارج النهضة والتنمية.
وبالطبع فإنني حين أضع عبارة التدرج الطبيعي في الرتب النظامية بين قوسين. فإنني أعني ما أقول . وأشير بذلك إلى تلك الظاهرة التي أفرزها الرئيس المخلوع عمر البشير ؛ حين كان طوال ثلاثين عاماً من حكمه يقوم بمنح الرتب العسكرية على الهوى والمزاج الشخصي وبحسب الولاء . بل أنه كان يمنح حتى الجنود وضباط الصف والمدنيين رتب عسكرية عليا . ويكيل في منحها بكرم حاتمي غير مسبوق في تاريخ العسكرية الوطنية وأمن الدولة والشرطة . وحتى أصبح الأمر معروفاً لدى عامة الشعب ومصدراً للتندر والسخرية والمناهضة والرفض الصريح ؛ حين توجه الرأي العام إلى إستخدام توصيفاته من قبيل "لواء خلاء" و "عميد جبال" وفريق سهول وحقول .. إلخ. من مسميات ذات دلالات للتفرقة ما بين الرتب النظامية الأكاديمية خريجة الكليات المتخصصة ، وتلك الفوضوية.
وأغلب الظن أن هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم هذه المسميات من قبيل "محلل إستراتيجي" و "خبير أمني " و "خبير عسكري" .. إلخ. يلعبون على وتر أن معظم العرب الذين لم يختلطوا عميقاً بأهل السودان . واكتفوا بالتعرف على السوداني كبوّاب وجرسون وطباخ وسفرجي من خلال الأفلام والمسلسلات المصرية التي تحرص على تنميط الشخصية السودانية وتحجيمها ثقافيا وفكريا وحضاريا لغرض في نفس يعقوب . ثم وبالتركيز والترويج لإغنيات خفيفة كالمامبو السوداني و إزيكم كيفنكم وأنا قلبي بدُق .. وكده كده يا الترلة إلخ. الفرايحية الخفيفة المخصصة لحفلات الزواج والربّـة والرقيص والهجيج. ويتفهم الإنسان السوداني أهدافها وأغراضها ومراميها كجزء من إنتاج فني ثقافي متكامل ولغرض تلبية ظروف إحتفائية مؤقتة . فإنها على العكس من ذلك إنتشرت وذاعت للأجانب من خلال الإعلام المصري الممنهج على إعتبار أنها "قمة" المنتوج الثقافي السوداني و "خلاصة" حضارته . ثم والزيادة على ذلك بتبني وإشهار مطربات مقيمات بالقاهرة يؤدين أغنيات سودانية هابطة.
وبالطبع فإن المشار إليه أعلاه يظل جزءاً من مقتضيات الملف الأمني السوداني بالنسبة إلى للإدارة الإستراتيجية للدولة المصرية . التي يهمها إرضاء غرور مواطنها وإيهامه بالتفوق على إنسان "جنوب الوادي". وتكريس تبعية السودان لمصر ووصابتها عليه. حفاظاً على مصالحها في المياه ومنتجاته من المواشي والمواد الخام الزهيدة الثمن والتكلفة. بل وتنصيب نفسها بوّابة عبور ومنصة إنطلاق لكل علاقة ما بين السودان والدول العربية والأجنبية الأخرى خارج حزام السافنا الأسمر في القارة الأفريقية. ولاننسى حساسية المصري تجاه كل ما هو سوداني موجب . ومن ذلك على سبيل المثال أن الكاتب المصري الأشهر محمد حسنين هيكل كان يقدح في الرئيس السادات بطل أكتوبر والعبور لا لشيء سوى أن أمه سودانية سوداء ويعايره بذلك. وكذلك حين ذهب إعلامي مصري شاب إلى السخرية في التلفزيون المصري من حضارة ممالك نبتة ومروي . فوصف إهرامات السودان بأنها بحجم مثلثات جبنة النستو .
وطالما كان هذا الإنطباع عن الشخصية والحال السوداني هو السائد في ذهنية الغير . فلا نستغرب أن تأخذ الفضائيات العربية أمثال هؤلاء "المحللين. و "الخبراء" (الذين لا يساون داخل السودان قشرة بصلة) ... لانستغرب أنهم يأخذونهم على محمل الجد والإقتناع بأنهم عُصارة وخُلاصة البوّابين والطبّاخين والسُفرجية والجرسونات وتجار الحمير، ورعاة الإبل والنوق العصافير.. وأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان .
ويأتي جميع ذلك وقد طغى على سطح المشهد السياسي السوداني ظاهرة رتب عسكرية وأمنية مرموقة لا تقرأ ولا تكتب تقلدت مناصب سياسية عليا . وأصبحت هذه الظاهرة تصب هي الأخرى في مصلحة التنميط المصري السلبي للشخصية والمجتمع السوداني.
والأجانب من عرب وعجم في العالم أجمع في نهاية المطاف عليهم بما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم على الجاهز في وسائل الإعلام. وقليل منهم من يرهق عقله ويأخذ من وقته ليبحث ويتبصّر ويتفهم ، ويكلف نفسه عناء التمحيص والبحث والإستدلال.
من جهة أخرى فإن الذي ينبغي التمهيد به والتأكيد عليه والتنبيه له ؛ أن لكل جهاز إعلامي عام أو خاص جهة أو عدة جهات تتولى تمويله والصرف عليه. وبالتالي ترى أن لها الحق في توجيه سياساته. وهذه من بديهيات العمل الإعلامي.
جانب من اللوم يقع إذن على تلك الفضائيات التي لا ترغب مُتعمِّدة وعن سبق إصرار وترصُّـد في إستضافة خبراء أكاديميين متخصصين في الشأن السوداني والبحث والتقصي عنهم . لآنها تدرك سلفلاً وبداهةً إلتزام أمثال هؤلاء عادة بالمهنية وخوفهم على مركزهم الأكاديمي وسمعتهم العلمية . وبالتالي لا تأتي آراءهم على هوى وسياسة وخطوط هذه الفضائيات ورسالتها الإعلامية المحددة لها والتي أنشئت من أجلها ويجري من واقع ذلك الإنفاق عليها.
مصعب المشرف
28 نوفمبر 2021
التعليقات (0)