مهزلة تبديد دعم دقيق القمح
مصعب المشرّف
8 يناير 2015م
ظاهرة تنامي إستهلاك البلاد لدقيق القمح يشوبها الكثير من الضبابية وعدم المصداقية . حتى وإن كانت في جزء منها منطقي متعلق بتزايد عدد السكان والتغير في نمط الغذاء داخل المدن والبلدات وبعض القُـرى..
ولكن من جانب آخر ؛ فإن التنامي الحاد في زيادة معدلات إستهلاك دقيق القمح في البلاد ؛ إنما يعود لسبب أساسي متعلق بتهريب دقيق الخبز المدعوم إلى الدول المحيطة بنا .
وكذلك سماح الدولة بتصدير منتجات دقيق القمح (المدعوم) الأخرى ؛ دون أخذ في الإعتبار أن الخزينة العامة تنزف بسبب دعمها له المليارات من الجنيهات ... فكيف والحال كهذه يسمح بإعادة تصديره وبيعه في الدول المجاورة بالخسارة؟
وللتوضيح أكثر فإن الدولة إلى جانب خسارتها لدقيق مدعوم مخصص لرغيف الخبز يتم تهريبه دون حصولها على عوائد ورسوم ... فإنها تسمح بتصدير منتجات هذا الدقيق المدعوم ؛ وعلى رأسها المكرونة والشعيرية والسكسكانية والدقيق الفاخر المخصص للحلويات .
وحتى يرسخ الأمر في الأذهان .. فإنه يمكن تلخيص سيناريو مسلسل "مهزلة التبديد" كالآتي:
1) تدعم الخزينة العامة إستيراد القمح من الخارج ببيع الدولار الأمريكي للمستورد بمبلغ 2.5 جنيه (جنيهان ونصف فقط) . في حين أن سعره في السوق يصل إلى 9 جنيهات في المتوسط.
2) تتولى المطاحن إنتاج مختلف أصناف الدقيق ؛ سواء المخصص لرغيف الخبز أو المعجنات والحلويات بمختلف درجاته من زيرو إلى 2 وكذلك النخالة.
3) يتم توزيع هذه المنتجات إلى الأفران المخصصة لإنتاج رغيف الخبز ، والمخابز التي تنتج الكعك والبسكويت والحلويات الأخرى مثل الباسطة والكيك والبسبوسة .. إلخ.... وكذلك يتم تسليم مصانغ إنتاج المكرونة والشعيرية والسكسكانية حصتها من الدقيق المدعوم.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو :
ما هي التفاصيل التي يكمن بداخلها الشيطان ؟
أخطر ما في هذه التفاصيل هو الآتي:
1) أن الدولة تسمح للتجار بتصدير منتجات الدقيق المدعوم النهائية مثل المكرونة والشعيرية والسكسكانية والحلويات إلى دول الجوار الأفريقي بما فيها تلك التي نسميها "شقيقة" ويصفنا إعلامها بأننا شحاتين ..... والأدهى وأمرّ من كل ذلك أن هذه الصادرات من القمح المدعوم لا تعود للسودان على هيئة عملات صعبة . وإنما معظمها مقايضة بمصنوعات من الدرجة الرابعة كاسدة غير إستراتيجية.
2) في حالات أخرى يبدو المهربون للدقيق المدعوم أشطر من المصدرين العاديين . فهؤلاء المهربون يتسلمون ثمن مبيعاتهم دائما بالدولار .. ولكنهم يهربونه هو الآخر إلى داخل السودان ؛ فيبيعونه في السوق بـ 9 جنيهات ... وللأسف تذهب هذه الأرباح إلى جيوبهم وحدهم وبعض معدومي الضمير .. ولا تستفيد منها الدولة كموارد تدخل للخزينة العامة.
3) بدلاً من أن يقتصر دعم الدولة على الدقيق المخصص لإنتاج رغيف الخبز وحده ؛ فإنها تدعم الدقيق على علاّته .. فيذهب الدعم بذلك إلى الأغنياء والأثرياء على هيئة حلويات وجاتوهات وكيك وبيتزا وبسبوسة .. إلخ من مأكولات ووجبات هي اليوم لدينا من مصنفات الرفاهية . ولاتستهدف بالتالي الغرض من الدعم الذي يستهدف الطبقة العريضة من الشعب.
مسألة التهريب واردة . وقد يجري تبريرها من واقع إنعدام الضمير وجشع التجار من جهة .. وضعف إمكانيات حرس الحدود ، والنزاعات الداخلية المسلحة ؛ إلى غير ذلك من ظواهر ماثلة وثغرات أمنية.
ولكن الذي يثير في النفس القلق ؛ هو سماح الدولة بتصدير منتجات الدقيق المدعوم إلى الدول المجاورة والعمق الأفريقي؟ .... فضلاً عن دعمها لمنتجات جانبية هامشية تتم صناعتها من هذا الدقيق ؛ لا يستهلكها سوى الأثرياء وأصحاب المداخيل المرتفعة.
وفيما يتعلق بخطاب وزير المالية الحالي بدر الدين محمود عند تقديمه للموازنة العامة للعام 2015م لإجازتها في البرلمان. فإنه يبقى من الضرورة تسليط مزيد من الضوء على حقيقة وواقع الدعم الذي يفترض أن الغرض منه هو توفير رغيف الخبز للشعب بكميات وفيرة . وبأسعار معقولة في متناول اليد.
والذي يجب ملاحظته هنا ؛ هو ذلك التوصيف الخاطيء (أو ربما الماكر) للدعم الموجه لدقيق القمح:
هل هو دعم موجه لدقيق الخبز ؟
أم هل هو دعم مُوَجّه لدقيق القمح على عِـلاّتِـهِ؟
إذا كان الدعم المُشار إليه مخصص لدقيق الخبز (الرغيف) فقط ؛ فمعنى ذلك أن بقتصر على رغيف الخبز وحده دون غيره من منتجات "المطاحـن" و "المخابز" الأخرى .
إذا كان الدعم مخصص لدقيق القمح على علاته ؛ فمعنى ذلك أنه دعم مفتوح يشمل النخالة والدقيق المخصص لإنتاج الرغيف ؛ وصنع الحلويات بأنواعها البلدية منها والأفرنجية ؛ وكذلك المكرونة والشعيرية والسكسكانية ونحوها.
تحديد وتقنين الماعون الذي يصب فيه الدعم المخصص لدقيق القمح يظل هو المطلوب اليوم وغداً للحد من تبديد أموال الشعب وموارد البلاد التي تذهب من بين غرابيل هذا الدعم إلى جيوب أفراد قلة من أصحاب المطاحن والتجار والمهربين.
إذن فالمطلوب اليوم وفي بداية العمل بموازنة البلاد للعام 2015م تسليط الضوء على الآتي:
1) التحديد الواضح المباشر للمواعين التي يقتصر عليها الدعم ، وتعريفها بكل الشفافية .... وهي هنا "رغيف الخبز" .
2) أن لا يشمل الدعم منتجات مطاحن الدقيق الأخرى من الدقيق الفاخر أو العادي الموجه لصناعة المكرونة والشعيرية والسكسكانية ,,, والحلويات بأنواعها .... ومنتجات المخابز الأخرى مثل البقلاوة والبسبوسة والكيك والبسكويت والكعك .. إلخ. وبوصف أن هذه المنتجات ليست بسلع إستراتيجية مقارنة برغيف الخبز.
3) النظر والبحث والدراسة العلمية (المرنة) لتحديد ما إذا كانت النخالة يشملها الدعم من عدمه .. والشروط واللوائح المرتبطة بها المتعلقة بإستخدامها هنا لمصلحة أصحاب المواشي وحظائر تربية الدواجن.
ولمجرد التوضيح لبيان المدى الذي يهدر فيه الدعم بنظامه الحالي أموال وثروات وموارد الشعب خصماً على بنود خدمات أخرى ؛ فإننا نسوق ونستعرض الآتي :
1) التكلفة التي تتحملها الخزينة العامة:
في ظل غياب معلومات وأرقام عن كمية القمح التي استوردها السودان ؛ سواء عام 2013م أو 2014م . فإنه يصعب تحديد الرقم الإجمالي الذي دفعته الخزينة العامة مقابل دعمها لأسعار القمح.
ولكن الذي رشح ؛ أنه وخلال السنة الماضية 2014م . فإن الخزينة العامة للدولة كانت تبيع كل دولار أمريكي موجه لإستيراد سلعة القمح .. كانت تبيعه للمستوردين من التجار وأصحاب المطاحن بمبلغ 2.5 جنيه سوداني فقط لا غير (جنيهان ونصف) ؛ في حين أن متوسط سعر الدولار في السوق قد بلغ 9 جنيهات .
وبحسبة بسيطة ؛ ( يخسر الشعب ) في كل دولار أمريكي مبلغ ستة جنيهات ونصف (6.5 جنيه). في سبيل دعم الخبز.
وللتوضيح أكثر ؛ إذا افترضنا أن السودان قد إستورد عام 2014م مليون طن من القمح . (وكانت أسعاره عام 2014م بمعدل 600 دولار للطن - نقداً) . وأن الطن المستورد بالأجل ؛ وفي ظل الحصار والعقوبات يصل سعره ‘لى 700 دولار مثلاً .
فإنه بحسبة بسيطة يمكن توقع أن الدعم الذي بذلته الخزينة العامة لسلعة القمح وحدها قد بلغ الآتي:
قيمة المستورد من القمح (مليون طن) بالدولار هو 700,000,000 دولار (سبعمائة مليون دولار).
فإذا قدرنا أن تكلفة النقل والتفريغ في الميناء والتحميل والترحيل ، والتخزين والإشراف تقدر بمبلغ 50 دولار عن كل طن .. يضاف هنا 50,000,000 مليون دولار أمريكي.
ومع ملاحظة أن الدعم محسوب على أساس سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني وليس على أساس الكميات المستوردة من القمح ؛ عليه نتوصل إلى الأرقام المخيفة التالية:
قيمة المليون طن قمح بالجنيه السوداني (سعر السوق) تصبح حاصل ضرب 750,000,000 دولار في 9 جنيهات . ويكون الناتج هو :6,750,000,000 (ستة مليارات وسبعمائة وخمسين مليون جنيه سوداني).
وحيث أن الدعم يتم حسابه مباشرة ببيع الدولار بمبلغ (جنيهان ونصف) سوداني للتاجر أو المطاحن المستوردة:
- عليه يكون الدعم المباشر الذي بذلته الحكومة لشراء مليون طن من القمح هو : 4,875,000,000 (أربعة مليارات وثمانمائه خمسة وسبعين مليون جنيه سوداني). وهو عبارة عن حاصل ضرب 750,000,000 دولار في 6.5 جنيهات (ستة جنيهات ونصف) . تمثل الفرق بين سعر الدولار في السوق والسعر الذي تبيعه به الحكومة للتجار والمطاحن المستوردة.
وعند حساب الدعم الذي تقدمه الخزينة العامة للوقود والمحروقات والطاقة المستخدمة في طحن القمح ، وصنع الحلويات بمختلف أنواعها ، وخبز الرغيف العادي .. فلاشك أن الدعم هنا يقفز إلى أرقام فلكية ؛ وبلا داعي.
فتخيل أيها المواطن السوداني دافع الضرائب والزكاة والرسوم والجبايات المغلوب على أمره ؛ كم هي المليارات (الساهلة) التي دخلت خزائن أصحاب المطاحن ومصانع منتجات الدقيق ، وحسابات التجار والوسطاء .... وجيوب بعض أصحاب النفوذ في مختلف مرافق الدولة ؛ جراء تصدير السودان للمكرونة والشعيرية والسكسكانية ؛ والدقيق الفاخر والحلويات جهاراً نهاراً إلى دول الجوار. وعلى رأسها دولة جنوب السودان ومصر وأثيوبيا ، وأرتريا وتشاد ، وأفريقيا الوسطى والكونغو ؟
ثم تخيل كم هي الأرباح والأموال الطائلة التي حققها المهربون التجار ، والمنظومة الكاملة المرتبطة بهم في عمليات تهريب الدقيق بأنواعه .
الإجراءات المطلوبة:
في حالة صدق توقعات بأن هناك (حتماً) من يهمه مصلحة هذا البلد ؛ ويخاف الله عز وجل وسط كل هذا الظلام الدامس . فإن المتوقع هو الآتي:
أن يرفض البرلمان التصديق على مبلغ الدعم الموجه لدقيق القمح في موازنة الدولة للعام 2015م إلا بعد مراجعة وافية لتفاصيله . وتكوين لجنة تشمل في عضويتها كافة الوزارات والأجهزة الرسمية ذات الإختصاص .. على أن تعمل على وضع اللوائح والقوانين المنظمة للدعم المقدم لدقيق القمح ، وذلك على النحو الآتي:
1) التعريف (الدقيق) للدقيق المدعوم ... وهو هنا (دقيق الرغيف) لاغير.
ومن ثم يكون هذا المنتج من الدقيق هو وحده الذي تصب في ماعونه أموال ماسورة الدعم.
2) البحث في دعم النخالة المستخرجة من طحن كميات القمح المخصص لدقيق الرغيف لاغير .... واللوائح المتعلقة بكيفية توزيعها على المخابز ، وأصحاب حظائر تربية الماشية والدواجن.
3) إخراج كافة منتجات الدقيق الأخرى من الدعم ....
4) محاربة التهريب والحد منه بتشديد القوانين ومضاعفة العقوبات. وأهمها مصادرة وسائل النقل البرية أو البحرية والنهرية التي تستخدم في التهريب... وبيعها لاحقاً في المزاد العام.
وبوجه عام فإن توفير ما يتم تبديده من المال العام في دعم منتجات من دقيق القمح لا علاقة لها برغيف الخبز . وليست ضمن الوجبات الأساسية .. ولا تغني ولا تسمن من جوع الفقراء الذين يشكلون الطبقة العريضة والأكثرية الكاسحة من الشعب .... عوضا عن كون هذه المنتجات من الحلويات مضرة بالصحة العامة لما يختلط بها من سمن وزيوت وسكر ودهون وألوان ومواد حافظة ونكهات.
عليه فإن توفير هذا المال العام المهدر في دعم الحلويات والشعيرية والسكسكانية وتصديرها بالجنيه السوداني .. حتما يساهم توفيره في دعم زراعة القمح محليا داخل السودان؛ بمساحات شاسعة وإنتاجية مجدية ذات مردود ؛ وتكفي حاجة البلاد منه وتفيض.
وبدلاً من إلقاء اللوم على المزارع وإتهامه بالتقاعس والكسل ؛ حبذا لو أدت الدولة ما عليها من واجبات أساسية . من قبيل توفير التقاوي الصالحة غير الفاسدة .. وتوفير الأسمدة ؛ والمبيدات الحشرية السارية الصلاحية .. وإنشاء مخازن بطرق وأساليب وتقنيات علمية مواتية , وبنية تحتية عامة حتى لو كانت في حدها الأدنى.
فإذا كانت الدولة تنتقد تقصير المزارع في بعض المشاريع القومية . فلماذا إذن لا تأتي برؤساء مجالس إدارة أكفاء ذوي خبرة ؛ وأصحاب نفس عفيفة وأيادي نظفية؟
إنتاج القمح السوداني جيد .. ولكنه يتعارض مع مصالح البعض الشخصية
ولماذا لا تترك الدولة المزارع وإتحادات المزارعين وشأنهم ؛ ليتفرغوا للإنتاج الزراعي (وليس السياسي) . ومتابعة مصالحهم المعيشية بعيداً عن مشاغل التسييس والتمكين ؛ وتدخلها في إنتخابات مجالسهم ونتائجها ؛ والنفخ في نار السياسة ورمادها على حدٍ سواء ... وبما يؤدي في نهاية المطاف إلى بث النزاعات والفرقة والشللية والضغائن . وتشتيت الجهود وإضاعة الوقت الثمين بلا طائل؟
ثم لماذا لاتعمل الدولة على تشجيع إنشاء الجمعيات الزراعية لملاك الأراضي المزارعين ؟ .. ثم تتعهد في المقابل أن تشتري إنتاجهم من القمح بالأسعار العالمية بدلاً من غبنهم حقوقهم .. ونفض يدها عن تعهداتها في آخر لحظة ، والتحول إلى منافس لهم عبر إستيراد القمح المدعوم.
لو ذهبت الدولة لمثل هذه المعالجات وأخرى تضاف إليها . فهي إذن تبدأ المشوار الحقيقي بالخطوة الأولى نحو التنمية المستدامة.
التعليقات (0)