كل ما فعله النظام السوري منذ بدء إنتفاضة الشعب في سوريا ضده كان له هدف واحد؛ ألا هو إنقاذ نفسه عبر إلحاق الهزيمة بشعبه، فمعركة النظام هذه التي يعتبرها معركة حياة أو موت لا حلول وسط فيها، و لا تحتمل سوى منتصر واحد و بالتالي مهزوم واحد، فالنصر أو الهزيمة في هذه المعركة لا يقبلان القسمة على إثنين.
لهذا السبب حاول النظام و بشتى الوسائل إعادة الشعب السوري الحي إلى المربع الأول حيث كان يرقد (في سلام) لعقود طويلة في حالة موت سريري، ذلك المربع الذي بنى أضلاعه النارية من خلطة جهنمية هي مزيج من القتل والتعذيب و التنكيل و الترويع و الفساد و الإذلال و التجويع، شكلت عبرة حية و بالوقت ذاته تعويذة حمت النظام طويلاً.
لم يتصور هذا النظام للحظة أن أحداً سيتمكن من مجرد التفكير بالخروج عن الخطوط الحمراء التي رسمها، لذلك عندما فوجئ بما حصل، لم يكن من أولوياته مكافأة المتظاهرين بالحوار معهم أو بإستخدام الرصاص المطاطي و الغازات المسيلة للدموع ضدهم، بل جند كل ما تراكم لديه من إمكانيات و خبرات قمعية دموية كان يقوم بتصدير بعضها مثلما يستورد بعضها الآخر، و خلال ذلك غير أحياناً من لهجته لكنه أبقى على اللغة المتعالية ذاتها ، إستخدم العصا و جزرة الوعود، إستهلك كل ما في قاموسه من مفردات تخوينية لا تخطر على بال، رمى المتظاهرين بأقذع النعوت لعل ألطفها كانت المندسين، إستخدم الأبواق و الزمامير، كذب و زورعلناً دون حرج، إستعمل كل الإسلحة التي في جعبته من العصا الكهربائية و الرصاص الحي حتى وصل أخيراً إلى إستخدام الأسلحة الثقيلة من دبابات و غيرها، لم يبقى له من سلاح مادي أومعنوي إلا و إستخدمه.
أسقط المتظاهرون في سوريا على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية كل هذه الأسلحة و أنتصروا عليها بدمائهم، سقطت أشياء كان يعتبر مجرد إهتزازها ضرباً من المستحيل، فلقد سقط الهدوء الذي كان ينعم به النظام و سقط قناع الممانعة و الإصلاح عن وجهه، و سقط جدار الخوف الذي تجاوزه الكثيرون، فتجرأ المتظاهرون و مزقوا بعض صور رئيس النظام و حطموا تماثيله، سقطت صورته التي عمل كثيراً على تلميعها و تسويقها للخارج فبدأ سيف العقوبات يشهر عليه، لكن أكبر خسائر النظام هي سقوط الحل الأمني، إذ فقد هذا السلاح مفعوله، فبعد إن إنتقل من التلويح به قام بإستخدامه بتفاصيله الرهيبة، و دليل سقوطه إنه بعد كل القتل و القمع خرج المتظاهرون في جمعة التحدي.
إذاً مات النظام سياسياً و تمرغت سمعته في تراب أفعاله، لكن مقابل ذلك سالت دماء عزيزة.
لكن ماذا بعد؟ ما الذي بقي في جعبة النظام بعد إستخدامه لكل أسلحته و هي لم تحقق له المردود الذي إرتجاه بل إرتدت عليه هزيمة نكراء على كل الصعد، و على ماذا يراهن الآن؟
إلى متى سيستمر بسياسة لكل مواطن قناص و لكل بيت دبابة و لكل شارع جماعة شبيحة و لكل مدينة فرقة عسكرية؟ و هل سيبقى ممسكاً عبر ذلك بزمام الأمور إلى الأبد؟
الحقيقة هي أن النظام السوري يمارس اليوم طقوس الرحيل، الطقوس الدموية ذاتها التي مارستها قبله و بطريقتها الخاصة أنظمة رحلت غير مأسوف على رحيلها، و أخرى في طريقها إلى الرحيل، فلقد أصبح واضحاً لكل ذي عقل سليم، و لكل من يمتلك حتى أدنى درجات التبصر، أن النظام السوري بتكوينته الحالية، و بالآليات التي يعتمد عليها في التحكم بالبلاد و التسلط على العباد، و كذلك بالوجوه التي لا زال مصمماً على الخروج بها على الناس، و بخطابه الخشبي المُسوس، أبعد ما يكون عن الإنتماء لروح العصر.
لذلك نبذه العصر، قبل أن ينبذه الشعب السوري.
التعليقات (0)