نحن لا نعرف واحد بالمليون من أي شيء.
أولا أنبه أصدقائي القراء إلى أنني كتبت هذه السطور قبل هزيمة الفريق الوطني لكرة القدم أمام كل من مصر و نيجيريا.. و قبل عودتهم من أنغولا.
فريق الجزائر الوطني لكرة القدم يلعب هنا أو هناك و يفوز .. و ماذا بعد ؟ "الشعب يفرح" يرد الجميع أو تقريبا الجميع. و لماذا يفرح الشعب، عندما يفوز المنتخب الوطني لكرة القدم ؟ " لأن العلم الوطني يرفرف عاليا" يرد الكل أو تقريبا، الكل. و لماذا يفرح الشعب عندما يرفرف العلم الوطني ؟ " لأن الشعب يحب الوطن" يرد نفس الذين طرحت أو قد أطرح عليهم السؤال. و أولئك اللاعبين الذين يتشكل منهم المنتخب الوطني، و كل أولئك الذين يؤطرونهم و يدربونهم و يديرون شؤونهم و يسهرون على أكلهم و مشربهم و نومهم و علاجهم حينما يُصابون... كل أولئك القوم ما من شك أنهم كذلك، يحبون وطنهم و يبتهجون عندما ترفرف الراية الوطنية و باختصار يفرحون عندما يفرح الشعب؟ طبعا، و إلا لما كانوا يفوزون و لما رفرف العلم الوطني و لما فرحوا هم و الشعب.. OK !
عندما يفوز منتخبنا الوطني لكرة القدم، يفرح الشعب.. أليس كذلك ؟ هل يحصل الشعب على أموال مقابل تلك الفرحة، بل هل يطالب الشعب، أصلا بأية أموال أو حتى بعض العدس، نظير فرحته بفوز المنتخب الوطني ؟ لا، طبعا.. الشعب يفرح و كفى.. OK !
لنتحدث الآن عن لاعبي الفريق الوطني و من معهم.. هل يتلقون أموالا مقابل فرحتهم بالفوز ؟ نعم يتلقون أموالا عن ذلك.
كم يتلقى لاعبو الفريق الوطني و كم يتلقى كل من يقف وراءهم و أمامهم ؟ لا أحد يعرف كم يتلقون بالضبط، لكن الأكيد أنهم يتلقون أموالا كبيرة.. كبيرة... " خير ربّي".
هل يطالب لاعبي الفريق الوطني و شركاؤهم بالأموال مقابل اللعب و الفوز و الفرحة؟ نعم يطالبون بالأموال.. OK !
هل يحق للاعبي المنتخب الوطني و من يدير أمورهم، أن يطالبوا بالمال؟ نعم.. من حقّهم أن يطالبوا بالمال.. OK !
كل هؤلاء الذين لا يلعبون إلا بالمال، و لا يفوزون إلا بالمال، و حتى عندما ينهزمون يقبضون المال، و لا يفرحون و لا يُفرحوننا إلا بالمال، لماذا عندما يتحدثون لا يتركون الوطن و العلم الوطني جانبا ؟
هذا سؤال أطرحه، لأنني أنتمي إلى جيل كان يقضي شهور العطلة الصيفية ( في السبعينات) بأيامها و لياليها، متطوعا في الحقول لمساعدة الفلاحين على جني محاصيلهم الزراعية. في تلك الحقول كان العلم الوطني يُرفعُ يوميا.. في كل صباح، و مع ذلك لا أحد من ذلك الجيل طالب بالمال و لا تلقاه، و أجمل من هذا لا أحد تغنى بالوطنية أو تحدث عن العلم الوطني. و قبل جيلي بموجتين على الأقل، كان هناك جيل مات أفراده من أجل العلم الوطني، منهم من ترك ابنه جنينا في بطن أمه، و منهم من استشهد دون أن يرى ابنه الأول و منهم من سقط في ساحات الوغى و هو يحتفظ بالصورة الأولى و الأخيرة لآخر مولود رزقه الله به، قبل ثلاث أو أربع سنوات، و منهم من رحل إلى العالم الآخر و هو لا يحتفظ بأكثر من اسم المرأة التي خطبتها أمه له، لكنه لم يزف بها و لم يرها و لم تره ... و رغم ذلك، لا أحد من كل أولئك الذين سقطوا من أجل العلم الوطني، طالب بالمال أو تلقاه.
في تسعينات القرن الماضي، عندما أخذ الجزائريون يسمعون عن شيء اسمه " المناطق المحررة" أي مناطق لا وجود فيها للدولة، و لا أحد يسيطر عليها عدا الجماعات الإرهابية.. حينما أصبحت الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية قاب قوسين أو أدنى، و حينما كادت أن تتحول إلى مجرد ذكرى جميلة.. إلى " يُحكى أن ".. في ذلك الوقت ظهر جزائريون من أجيال مختلفة، قرّروا مواجهة الإرهابيين، أخذوا السلاح، و هجروا نساءهم و أطفالهم و دفء بيوتهم... و ذهبوا.. و لم يعودوا... لقد سقطوا، و قد سقطوا من أجل العلم الوطني، مع أنهم لم يتلقوا مالا و لم يطالبوا بأي مال.
أمثال هؤلاء عندما يتحدثون هم أم ذووهم عن العلم الوطني ، يجب أن نصغي إليهم. أما ألا تقف و لا تقعد،و لا تنام و لا تستيقظ ،و لا تضحك و لا تبكي، و لا تفوز و لا تُهزم.. إلا بـ "الشكارة"، ثم تأتي لتروي لي قصصا عن حب الوطن و العلم الوطني، فهذا ما يذكرني بمتجر الحي الذي كنت أقيم به، بداية السبعينات، حيث كان صاحب ذلك المحل لا يخاطب أحدا من زبائنه، إلا و قال له:" انك أخي.. و ربّي يعلم"، بينما عند مدخل المتجر، كان يمكن للجميع أن يقرأ "ممنوع الكريدي" !
أنا أعرف بأن كرة القدم في العالم بأكمله، أصبحت تجارة بالمفهوم التقليدي، و "بزنس" بالمفهوم الحديث للكلمة، و إلا لما استطاعت النوادي أن تبيع و تشتري اللاعبين، و تستوردهم و تصدرهم وفقا لقوانين و مواصفات و معايير لا تختلف كثيرا عن الضوابط التي تحكم العلاقات بين جمارك الدول. كما أعرف أن المال هو الوقود الوحيد الذي يحرّك لاعبي كرة القدم، مهما كانت جنسياتهم و أديانهم، و بالتالي، معتوه من يعتقد أنه يمكن للاعبي كرة القدم باسم الجزائر (حتى لا أقول اللاعبين الجزائريين) أن يشذّوا عن القاعدة.. لكن، الشيء الوحيد الذي يجعلني أرى الديك حمارا، هو عندما يتحدث لاعبي كرة القدم عن العلم الوطني ! لماذا ؟ لأنني لا أستطيع أن أهضم فكرة أن يقاتل أحد - مهما كانت طبيعة القتال - من أجل العلم الوطني و من أجل المال في نفس الوقت !.. لا يا "حمّه خويا".. إما المال و إما العلم الوطني ؟!
حدثني عن الرئيس محمد بوضياف.. أقول لك أنه أُغتيل من أجل العلم الوطني. حدثني عن النقابي عبد الحق بن حمودة أقول لك بأنه قُتل من أجل العلم الوطني. حدثني عن أحمد زهانة أقول لك أنه أُعدم من أجل العلم الوطني.. حدثني عن شباب الجيش الوطني الشعبي و الدرك و الشرطة، أقول لك بأنهم سقطوا من أجل العلم الوطني، أما أن تقول لي بأن الجماعة لعبت " البفّة" من أجل العلم الوطني، فإنني أطلب منك أن تأتيني بـ" غيرها".
إذا لم يكن للاعبي المنتخب الوطني لكرة القدم، من همّ سوى الوطن و العلم الوطني، فليكشف كل واحد منهم كم تلقى بالضبط من خزينة الجزائر، و ليتبرّع بخمسين بالمئة من الأموال التي تلقاها، للهلال الأحمر الجزائري أو أي جمعيات خيرية ، لأن المشرّدين و المحتاجين و المرضى لا يمكن عدّهم في هذا البلد، و كلهم رغم غبنهم يفرحون عندما يرفرف العلم الوطني، و بعضهم " يموت" عندما يُهزمُ المنتخب الوطني !
الشعب عندما يبكي فرحا لصعود الألوان الوطني، أصدٌقه لأنني أعرف بأنه لا ينتظر مالا مقابل فرحه، و بل لا يطمع فيه أصلا. أما أن يقول اللاعبون بأن الأموال لا تهمّهم بقدر ما يهمّهم العلم الوطني، فأنا أدعوهم إلى ترجمة كلامهم إلى أفعال.. هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
الشاب خالد كان هو الآخر يلتحف العلم الوطني عندما يأتي من فرنسا ليغني بالجزائر، و مع ذلك الشاب خالد لم يكن يغنّي بالمجان و لا بالدينار الرمزي... لقد كان يطالب في كل مرة بالثمن الفلاني... من يعرف كم كان يقبض خالد ؟
مامي هو كذلك، التحف العلم الوطني، كم من مرة و هو يغني بالجزائر آتيا لها من فرنسا. لكن هل كان يطرب الجزائريين بالمجان أو بثمن رمزي، على الرغم من أنه يقول في إحدى أغانيه " بلادي هي الجزائر !"
وردة الجزائرية، التحفت الراية الوطنية كم من مرة هي الأخرى، عندما كانت تغني بالجزائر التي تأتيها من مصر.. لكن هل كانت وردة تغني " عيد الكرامة" بلا مقابل ؟ كم كانت تتلقى في كل مرة.. من يعرف ؟!
لا أقول أن المال الذي يطالب به و يقبضه كل هؤلاء، حراما لأنه لا هو حرام و لا هو ممنوع.. أنا فقط، أقول: المال حكاية.. و العلم الوطني حكاية أخرى.
التعليقات (0)