من يدير العمل الثقافي غير المثقفين!.
خليل الفزيع
يشكو المثقفون دائما من ربط الثقافة بعجلة البيروقراطية الإدارية عندما يتولى شئونها الإداريون البعيدون عن الهم الثقافي، والذين لا يعرفون من الثقافة سوى الاسم، وذلك هم يدخلونها في نفق التهميش، حتى لا يبدو في آخر هذا النفق أي ضوء يبشر بالخروج بها إلى عالم أكثر رحابة، وفضاءات أكثر اتساعا، تتيح لها حرية التفاعل مع الحياة، وممارسة دورها الطليعي في قيادة الرأي ومقاومة التجاهل لقضايا الإنسان والمجتمع.. وغالبا ما تكون الإدارة البيروقراطية سببا لا في تهميش العمل الثقافي فقط، ولكن أيضا في الجناية عليه عندما يصبح حبيس ذلك الفهم الخاطئ لدور الثقافة من خلال النظر إليها على أنها عبء على غيرها من المشاريع التنموية، وهي التي يفترض أن تكون على رأس قائمة تلك المشاريع باعتبارها الوجه المشرق للمنجز التنموي مهما تعددت مجالاته وتنوعت مكاسبه، وقديما قيل: (إن فاقد الشيء لا يعطيه) فكيف يمكن أن يخدم الثقافة غير المثقفين، الذين ينظرون إليها باعتبارها قوتهم اليومي ورئتهم التي يتنفسون منها لتمدهم بالحياة المليئة بالعطاء الثقافي المتميز، والقادر على الإسهام في دفع عجلة التنمية خطوات كبيرة إلى الأمام، ومتطلبات هذا الإسهام لا يمكن أن يدركها غير المثقفين أنفسهم.
وتسكع الثقافة في أروقة الإدارة يعني توهانها في دروب لا تؤدي إلى أي عمل ثقافي إيجابي التأثير في الحياة العامة، هذا إذا لم يتم توجيهها إلى مسارات تخدم مصالح معينه، وتسخر لمكاسب تنحرف بها عن رسالتها التنويرية ودورها في يقظة الإنسان من سباته الذي تصنعه رفاهية تفقده الوعي بدوره في خدمة الإنسان وقضاياه الملحة.. وهو أمر يتنافى مع الإرادة الوطنية في النهوض بالمجتمع ليصل إلى المستوى الذي يأمل الجميع في تحقيقه، بالعمل الجاد المثمر، والخاضع لرؤية طموحة تسهم الثقافة في تمهيد الطريق لتحقيقها، إلى جانب الإسهام في بلورتها لتصبح واقعا يستفيد من أفراد المجتمع.
وثمة جانب آخر هو نظرة الإداري إلى المثقف باعتباره كغيره من الناس، عليه أن يخضع لنفس المقاييس والشروط والعراقيل الإدارية المعروفة، عندما تقوده ظروفه للتعامل مع الإداري، وهو لا يملك سبيلا آخر لتنفيذ مشاريعه الثقافية غير التعامل مع هذا الإداري، وتكون النتيجة محبطة عندما يفتقد ذلك الإداري أي حس ثقافي، بل ولا أي احترام للمثقف لأنه ينظر إليه نظرة لا تختلف عن نظرته لأي مراجع يعامله معاملة تخضع لمزاجه، ويحكما روتين صارم وصادم.
طبعا ليس من العدل التعميم في هذه المسائل ولكن من الواضح أن هذه الحالة هي السائدة في معظم إن لم نقل كل البلاد العربية، ولا أظن أن هذا الحال سيظل كما هو عليه بهذه الصورة السلبية، لو تولى المثقفون أنفسهم إدارة شئونهم اعتمادا على مؤهلات علمية إدارية عالية، فالمثقفون ليسوا بعيدين عن العمل الإداري، ومنهم من يملك هذه المؤهلات دون شك، والثقافة ليست شهادة عمل لكنها تأهيل عام يكتسبه الإنسان بجهده الذاتي.. ربما يكون مدعوما بالتأهيل العلمي وربما لا يكون.. لكن التخصص الإداري متاح للجميع ومنهم المثقفون الذين هم أدرى بهموم العمل الثقافي وقضاياه ومتطلباته، وهناك تجارب عربية كبيرة نجحت من خلالها الثقافة في أداء دورها عندما تولاها مثقفون ألتف حولهم المثقفون الآخرون، عندما استقطبوهم واستقطبوا معهم تمويلا كبيرا لمشاريع ثقافية عملاقة دون تشكل تلك المشاريع أي عبء على خزينة الدولة.. وهذا ما لا يمكن الوصول إليه عن طريق الإدارة البيروقراطية الخاضعة لنظام إداري ومالي يقابل الثقافة بوجه متجهم غير قابل للمرونة، ويتحكم فيه أناس لا يعرفون من الثقافة سوى اسمها.. فيسببون لها الكثير من العثرات والعراقيل، إن لم نقل التشويه والانحراف بها عن مسارها الصحيح.
التعليقات (0)