من يدفع الثمن؟
في واقع عالمنا المتوحّش،الفقير والضعيف وجهان لعملة واحدة، الأوّل يدفع الثمن حرمانا والثاني يدفع الثمن كرها...
يجوز-مطلقا-الاحتجاج بالقول:لا تستقو بقوّتك على الضعيف بإرغامه على أن يدفع بديلا عنك ثمن أخطائك أو حتى ما تعتبره ثمن تضحيات من أجل قضايا نبيلة ...
والاحتجاج بالكلمة،وحدها دون فعل،هو شكل من أشكال الرفض يلجأ إليه الضعفاء متى استعصتْ عليهم وسيلة احتجاج أخرى...وهو مُشرّع ومشروع للأفراد كما للشعوب والأمم المستضعفة للتنديد بالطغيان والعدوان...
من البداهة القول أنّ الأقوى المهيمن عالميا تمثّله-راهنا-أميركا وحلفاؤها الغربيون-الغربيون لا غير-...أما غير الغربيين الذين يتوهّمون أنّهم حلفاء أميركا فهم،في حقيقة الأمر، أتباع...وهم كذلك طوعا أم كرها...والوعي بهذه الحقيقة مطلوب،كما ضرورة التفريق بين الحليف الشريك والحليف التابع مطلوبة بإلحاح...
وإذا كان من اليسير تحديد القوى العالمية المهيمنة، فإنه ليس بنفس القدر من السهولة-على ما يبدو-تحديد ضعفاء العالم وقواه المستضعفة...
ومع ذلك ليس من التجنّي إدراج عرب اليوم ضمن هذه الأمم المستضعفة مهما نأى بعضهم بنفسه عن هذه التهمة المهينة واستدلّ لدرئها عنه بما لديه من مظاهر القوّة والثراء...بل إنّ هذه المظاهر الظاهرة تحجب بزيفها علل الوهن القاتل ومواطن الضعف المستفحل...
لن تُعوزنا الحجة في التدليل على استضعاف العرب من القوى المهيمنة ويكفي، فحسب، التذكير بالصراع العربي الإسرائيلي للوقوف على هذه الحقيقة المرّة...ولئن كانت أسباب ضعف العرب واستضعافهم عديدة ومحلّ اختلاف،فإنّ أخطرها وأشدّها إيلاما تلك التي تنتج عن صراعات عربية/ عربية خفيّة-وهي تكاد تكون هواية عربية تُمارس يوميا-وعلنية موسومة بعيوب التخلّف والتهوّر،مهما برع الساسة ومنظّروهم في تبريرها،وأحيانا-يا للعجب-تجميلها...
إنّ بداخل البيت العربي ما هو أدهى وأمرّ.ا..لأنه يضرب صميم ما تبقى من قيم ينبني عليها تماسك الجسد العربي والتضامن بين أجزائه ويؤشر لاغتيال وجوده...
ولأنّ الحاجة إلى الاحتجاج،في هذه الحالة،ملحّة،فإنها –عربيا-تلهب الصراع ولا تُخمده...أي أنّنا لا نُجيد الاحتجاج حتّى على ذاتنا...
لتمثُّل قبح المشهد ورداءته-نضطرّ لاستحضار شريط أحداث-كم نتمنّى أن تُغيبه ذاكرتنا-بين بلدين عربيين شقيقين هما العراق والكويت.
لهذين البلدين الجارين الشقيقين من مظاهر القوّة ما يندر أن يتوفّر لغيرهما...لقد أرغم الأقوى(هكذا خُيّل له) الأضعف على دفع ثمن أخطاء لم يرتكبها بأكثر الأساليب بدائيّة وهو الغزو والاحتلال(على طريقة قبائل الجاهلية العربية)...في ذلك الصيف الجهنّمي من سنة 1990جاء غزو الكويت ضريبة مفروضة لأزمة اقتصادية حادّة كان يعيشها العراق نتيجة الديون التي ضغطت عليه إثر حرب "عبثية" مع إيران.
إذا كان هذا الاحتجاج على كذا فعل شنيع مطلوبا، بأيّ شكل من أشكال الاحتجاج،فإنه،في كلّ الحالات، هو إدانة للذات وجلد لها،وهي عملية مدمّرة لهذه الذات العربية المأزومة...
من يدفع الثّمن؟
لعلّ الإجابة الأصحّ تكمن في السؤال التالي:هل بقي لنا من النماذج العربية،بعد الذي حصل للعراق والكويت،ما يُمكن أن نعتدّ به ونطمئنّ لمظاهر قوته؟...
العراق اليوم جريح،ولم تكن مأساة شعبه في أمسه القريب بأفضل من حاضره،حتى إن كانت تتخفّى بمظاهر قوّة مضللة...أما حال الكويت فقد استطاع رفع مظلمة الشقيق وتعافى من آثارها الظاهرة،لكنّ الأرجح أنّها ظلّت تسكنه وجعا مكتوما على استحياء أصابه شكا في الشقيق لا العراقي،فحسب،بل العربي إجمالا...ومع ذلك فهو يُدرك جيّدا أنّ هذا الشرخ يجب أن يُعالج بجلد وصبر وقدر وافر من التسامح وبعون عربي...كما أنّه يدرك، تمام الإدراك، أنّ من انتصر له من غير العرب، وتخصيصا تحالف القوى العالمية المهيمنة، كان يروم من خلاله الانتصار-لا للشهامة الكويتية، بل لشهوته في إحكام قبضته على العراق وعلى كل مصادر الإغراء والقوّة في المنطقة...
نرجو المعذرة من الأشقاء الكويتيين وكذلك العراقيين لما قد يعتبرونه إثارة لأشجانهم ونبشا في أحزانهم، والحال أنّ ذكرياتها الأليمة ما تزال ماثلة برعبها وبشاعتها وعارها...والعذر تُشرّعه لنا عروبة ما تزال تسكننا عذابا ونسكنها عشقا...وأمل في عبرة تصنع الدرس المغاير نكون به أسعد حين يأتينا معطّرا بوشائج القربى بين الكويت والعراق،ليعلن عن ميلاد فجر عربي جديد،هو بديل تجربة مؤلمة أُرغم عليها شعبا البلدين فنحتا من فواجعها المشهد العربيّ المشرّف المنشود الذي لا نزال نتشبّث به رغم فقداننا لما تهبه الحياة للأمم من بهجة وجود...
من يدري لعلّنا نستعير،يوما، من الفيلسوف الألماني نيتشة قولته:"أنا أعرف الحياة معرفة جيّدة لأني كنت على وشك أن أفقدها."...-لم تبق لنا فسحة أمل لفهم فضل العروبة علينا وتحصينها تحصين الذات غير الإحساس الفعلي أننا على وشك أن نفقدها،ولعلّنا نعيش اليوم هذا الإحساس...
لعلّنا نحوّل ما بيننا من أحقاد إلى ما آلت إليه الأحقاد بين الألمان والفرنسيين وإن كنا محقّين في طموح لنتائج أفضل لأنّ ما يجمع بين العراقيين والكويتيين والعرب أجمعين أهمّ وأعمق مما يجمع بين الألمان والفرنسيين وإن كانت تجربة الأحقاد متشابهة...
ودون استرسال غير مبرّر في أماني مشرقة وأحلام جميلة علينا أن نقف على حقيقة ضعفنا ونحن نراه حرائق مشتعلة في أكثر من بلد عربي ما نزال نمارس تجاهها هواية إرغام من نتوهّم أنّه الأضعف منا على دفع ثمن المستنقع العربي والحال أننا جميعا الأضعف مهما خادعنا أنفسنا بقوّة موهومة...
ليس من الإنصاف أن تستمرّ لبنان في دفع ثمن إتفاقية "الطائف" المعتّقة ولا ما تلاها من وصايا مفخخة بحجة إدارة أزمة صراع طائفي محلي يعلم الجميع أنه واجهة لصراع خفي بالوكالة عربي/عربي وإسلامي/إسلامي وعالمي تُديره القوى الغربية المهيمنة جاعلة من لبنان مخبرا لتجاربها دون أن يلحقها أذى مباشر...
ليس من الشطارة،في شيء،استمرار تحرّش علني أو خفي بين هذه الدولة العربية وتلك،والحال أن المظلمة التي تسقط على أي جزء من أجزاء الوطن العربي بفعل عربي مفضوح أو متستّر هي،حتما،متدحرجة لتطال البقية بنفس درجة الأذى أو بأكثر منه...
همّنا واحد شئنا أم أبينا والثمن الذي يُدفع هو من دماء شعوبنا وثرواتها جميعها،إن عاجلا للبعض أو آجلا للبعض الآخر...ولعلنا اليوم نحتاج فيما نحتاج إليه إلى حكمة حكام عرب تحكمنا بمضمون خطبة طارق ابن زياد الشهيرة في زمن غير زمانه وفي مكان غير مكان خطبته لكن بنفس الدعوة إلى رفع التحدّي...والتحدّي اليوم ليس فتحا لديار عربية جديدة ولا إسلامية،إنما هو حفاظا على الوجود العربي...أما خطبة طارق ابن زياد فهي تلك التي يستهلّها ب:"أيها الناس أين المفرّ، البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم،وليس لكم،والله،إلا الصدق والصبر،واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام..."
إننا اليوم في جزيرة عربية تتربّص بنا وحوش ضارية... البحر يحول دون فرارنا من عروبتنا، والقويّ المهيمن يرغمنا في إذلال بغيض على دفع ثمن طموحاته وشهواته،وليس لنا من مفرّ إلا الدفاع عن أنفسنا،من وهنها لتقوى وبها لتدفع شرّ الآخر النّهم...
إنّ الانسلاخ عن الذات يبدأ بقبولها غزو الآخر المهيمن حضاريا لها أو التسليم باغتصابه لها دون ردّ فعل أو بردّ فعل يقوم على جلد الذات المغتصبة ... وإنّ العزم على بناء الذات يبدأ بالاعتماد على قدراتنا المكتسبة والمصالحة مع هويتنا المغتصبة...والاغتصاب جريمة فداحتها تكمن في السكوت عنها والتعوّد عليها...
إذا كان الثمن المراد دفعه مالا كثيرا مقابل فدية أو شيء ثمين،فالمسألة تحسم بين الأثرياء الراغبين في الدفع،لا غير،يُقصى منها،بداهة،الفقراء لأنّهم حتى إن كانوا راغبين فهم غير قادرين على الدفع...وهذه قاعدة في التعامل بين الغرباء ومبرّرة بين الأشقاء.
أما إذا كان الثمن المراد دفعه تضحيات بالنفس والنفيس،فإنّ الأقوى يستعمل كلّ وسائل قوّته ليُجنّب نفسه الأذى،أي أن يدفع أدنى ما يمكن من الثمن المطلوب بسعيه إلى إرغام الأضعف منه على دفع التكلفة الباهظة والمدمّرة،غالبا، حتى إن كان هذا المسكين الضعيف غير معني بدواعي هذه التضحيات المطلوبة وأغراضها...
الأقوى،إذ يدفع و يُرغم الضعيف على الدفع أو يستدرجه ليكون قربانا لأغراض ليست أغراضه،يكون غير مكترث بفواجع تضحيات غيره بقدر اهتمامه بالاستفادة منها لتعزيز قوته وإشباع نهمه وإرضاء نرجسيته...هو شديد التحفّز للانقضاض على الغنيمة،بنفس القدر من الامتناع عن دفع ثمن كلفتها الحقيقي...وهذا منطق القوة المتوحّشة وهي إن كانت مفروضة بين الغرباء فهي محرّمة بين الأشقاء
ليكن يقيننا راسخا أنّ القوّة التي يُعشّش في داخلها الشرّ هي قوّة واهية سواء كنّا نتوهّم امتلاكها أو يؤذينا بها الآخرون...وأنّ رسالتنا تسمو بسموّ أنفسنا عن أدرانها قبل أن تكون انبهارا بالآخر...
ليس بيننا من هو خاسر ومن هو رابح،جميعنا ندفع الثمن طوعا أو غصبا،وجميعنا نجني الربح مهما حاول بعضنا أن يُقصي بعضه الآخر منه...
تُرى من أين نبدأ؟
"إلى الأمام هكذا قلت لذاتي،غدا تكونين سليمة الجسم،ويكفيك اليوم أن تتصوّري أنك كذلك...فكانت إرادة ذاتها،وكان تمثّل الصحّة وسيلتي للشفاء." (والقولة لفريديريش نيتشة)
التعليقات (0)