مواضيع اليوم

من يتجنّى على من؟..(النقاب نموذجا)

جمعة الشاوش

2010-09-20 08:57:47

0


رغم الكمّ الهائل من التسويق الإعلامي الذي تناول حظر النقاب في دول غربية، خصوصا منها فرنسا، فإنّي أحسب أنّ حظّ ما يخدم الحوار بين الحضارات منه كان محدودا،ودون المؤمّل،إذ طغى تكتيك الرغبة في تبرير منع النقاب أو البرقع من عدمه في جلّ ما سُوّق.
لست أدّعي فيما سأسجّله من ملاحظات مختزلة في هذا المقام أنّي أملك الحقيقة أو أُشفي الغليل،فليس هذا همّي،إنّما غايتي التي أطمح إليها هو أن أُثير تساؤلات وأُحفّز على نقاش هادئ في قضيّة أرى أنّها لا تحوز على انشغال كبير لدى الرّأيين العامّين الإسلامي(العربي الإسلامي بالخصوص) والغربي،أي أنها لا تُثير احتجاجات متوتّرة صاخبة ولا هي مهمّشة تماما.
من هذا الافتراض تبدو لي قضيّة حظر ارتداء النقاب في فرنسا مواتية لإطلاق حوار رصين نزيه بين الثقافتين العربية الإسلامية من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى ببعديهما الحضاري المعاصر.ودون الخوض في المفاهيم والمصطلحات المتّصلة بالثقافة والحضارة والهوية وغيرها التي أُقرّ بالحاجة إليها في تناول قضية الحال،فإنّ ما أراه أوكد هو التركيز على النّقاب فهماً لمعناه ومدلوله والحاجة إليه من عدمها في ظلّ الجدل الذي أثاره في المجتمعات الإسلامية قبل الغربية،ثمّ في هذه الأخيرة.
النّقاب لغة (ابن منظور):القناع على مارن الأنف،والجمع نُقُبٌ،وقد تَنَقَّبت المرأة،وانتقبت...(نفس المدلول اللغوي تقريبا لكلمة"البُرقُعٌ والبُرقَع "،قال توبة بن الحُمير:
وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعت،
فقد رابني منها الغداة سُفورها.
ولنبدأ،في فهم دلالة من دلالات البُرقُع من هذا البيت الشعري العتيق،فهو يُوحي بإرادة حرّة للمرأة في قرارها التبرقع أو السفور،وأنّ قول الشاعر:ط لمّا رابني منها سفورها"،هو تلميح لرغبتها في الإيحاء له برسالة مغايرة لتلك التي تعوّدها منها وهي تتبرقع لمّا يأتيها...وهذه رغبتها الحرّة.
إلا أنّ مسألة البرقع أخذت منحى دينيا-بمعنى ما يُكشف وما لا يُكشف من جسد المرأة وغدت،في الفقه الإسلامي،محلّ اجتهاد ومناظرات واختلاف لم تُحسم إلى اليوم،شأنه شأن قضايا خلافية أخرى وفقا للمدارس الفقهيّة وللفهم المتشدد أو المُيسّر لجوهر الدين الإسلامي ورسالته:
1-ولأنّ المسألة خلافية متّصلة بالمعتقد الديني فهي في وجدان المسلمين قضية لا يحقّ لغير المسلمين الحسم فيها،كما هو الحال في الكثير من القضايا الخلافية في ديانات أخرى...فالمسلمة التي لا ترتدي البرقع عن قناعة دينية قد تعيب على شقيقتها تشبّثها بارتدائه من منطلق نفس القناعة التي تحتكم لاجتهاد مغاير، وقد يحتدم الجدال بينهما،دون أن يُفسد،غالبا،للودّ قضية-كما يُقال-.لكن إذا تدخّل غير المسلم بالانحياز لهذا الطرف أو ذاك،فإنّ تدخّله لا يكون-بداهة-محلّ ترحاب الطرفين المختلفين،لأنّه تدخَّلَ،بكلّ بساطة،فيما لا يعنيه.أمّا إذا كان المتدخّل سلطة غير إسلامية في دولة علمانية،مثل فرنسا،استعملت سلطة القانون للإكراه على ترك ما يُعتقد أنه متّصل بالعقيدة،فإنّه يتحوّل إلى مضطهد ومستفزّ وقامع للحرّية الشخصية في أبسط مظاهرها ،بسابق إصرار وتعمّد،لأقلية في موقع ضعف.
-يُضاف إلى ذلك الإحساس بالغبن جرّاء استحضار انتماء المسلم للعالم المتخلّف غير المُهيمن، حيث لا مُدافعَ عنه، وتمثُّل الوطن البديل-فرنسا-وطنا لا يكترث بانتساب أقلّياته إليه ولا يُقدّر جهدها في خدمته ولا يُساعدها على الاندماج في نسيجه المجتمعي،بل يُحفّزها على هجرته ويُعمّق غربتها..وهذا الإحساس قد يكون مبالغا فيه،لكنه مبرّر.
2-قد لا يُفاجأ المسلم في بلده الإسلامي بقرار يُصادر قناعته الدينية من منطلق إدراكه لطبيعة الحكم الشمولي الاستبدادي أو بتعلّة أنّ نظامه"وصيٌُّ على الدين " ومنتزع لفتوى دينية تُبرّر قراره،لكنه لا يستطيع أن يستوعب أن يعمد النظام العلماني الذي يفصل الدين عن الدولة ويضمن حرية المعتقد باعتبارها شكلا من أشكال التعبير وجب احترامه ومنع الاعتداء عليه إلى اعتماد ذات المسوّقات العلمانية في الإكراه على ما يُعتبر-على خطإ أو صواب- مُخلاّ بالعقيدة الدينية.ذلك أنّ الدولة العلمانية في حيادها عن الدين تمتنع عن الحكم على الممارسة الدينية لها أو عليها وترفض الاضطلاع بمهمّة الإفتاء فيها.
3-في منأى عن البعد الديني في قضيّة النّقاب، فإنّ الإنسان، غالبا، ما يكون أسير العادة...فقد يتعوّد-رجلا أو امرأة- على مطالعة كتاب قبل النوم، وإن لم يفعل ذلك أصابه السهاد، وقد يتعوّد على ممارسة الرياضة أو التعريج على حانة أو مقهى ،وإن لم يفعل شعر بالضيق،وقد يتعوّد على الإشباع الجنسي والإكثار منه أو الممارسة الشاذة التي يأتيها المثليون أو تعاطي المخدّرات،وإن لم يأت عادته أصابه الانزعاج والتّوتّر...فما بالك إن كانت المسألة لا تعدو أن تكون علاقة بعادة نوع من اللباس كذاك الذي تعوّد على استعماله الرجال في المناطق الصحراوية،حيث يتلثّمون(بلثام)،فلا ترى من وجوههم إلا الأعين...أو كما تعمد النساء والرجال في صقيع الغرب إلى الالتحاف بما تعوّدوا عليه فلا تكاد ترى إلا عيونهم ،وقد تحجبها،أحيانا، نظارات سميكة...
إنّ ارتداء النقاب لدى العديد من النساء،لئن كانت له خلفية اعتقاد ديني،فإنّ اللجوء إليه قد يكون من منطلق تلك القناعة الدينية،وقد يكون لاعتبارات أخرى،مثل التّعوّد أو إخفاء عاهة في الوجه أو الشعر،أو شعور المرأة التي تبرقعت أنها حازت،بفضل النّقاب،على حظوة عدم كشف وجهها إلا لمن ترغب،أي أنّها اعتبرت وجهها هو جوهر مفاتنها،كما تعتبر أخرى تلبس "الميني أو الميكرو جيب" أو الفستان القصير أنّ جمال خلقتها ليست وجهها فقط بل صدرها وفخذيها ومن حقّها أن تعرض ما رغبت في عرضه من جسدها على العموم،دون احتكار...
4-إنّ التّعلّل بالضرورة الأمنية في منع النقاب قد تضعف حجّته أمام تحدّيات أمنية أخرى أكثر خطورة وتعقيدا.وإزاء احترام حرّية أشكال التعبير الإنساني التي حين يُحرّم دوسها والاعتداء على قدسيّتها،تُستنبط الحلول الناجعة التي لا تُعرقل العمل الأمني..وليس من الحكمة أن نعتبر كلّ من ترتدي نقابا هي متّهمة إلى أن تُثبت براءتها بخلع برقعها،ذلك إنّ التُثبّت في هويّة شخص ما لا تقوم بالضرورة على أن يعترضك سافر الوجه لتحسم في أنّه مخالف للقوانين أو متستّر على جريمة،فعون الأمن-مثلا- عندما يستوقف سيارة،فهو يطلب أوراق السيارة وبطاقة هويّة السائق،ومن خلال معاينته يتبيّن له أنّ السائق يحمل رخصة سياقة أم هو يسوق بدونها،وقد يثبت له أنّه بحالة سكر حتّى إن كان ملتحفا،فيُقرّر في شأنه الإجراء القانوني الملائم...كما أنّ مسألة التّواصل الاجتماعي بين الناس لا يمنعه البرقع في بلد مثل فرنسا لا يعرف الجار جاره في الشقة المجاورة لشقّته بنفس العمارة ولا يكترث لأفراحه ولا لأتراحه.إنّ التواصل حوار متكافىء بين المتحاورين ويقتضي قبول الآخر في اختلافه وقابلية التأثير فيه كما التأثّر به،ومساواة في الحقوق والواجبات.
ومع أني،شخصيا،أنحاز لفقه إسلامي يُبيح عدم ارتداء المرأة المسلمة للنقاب أو ما شابهه من غطاء يلتحف به كامل جسدها،وأحثّ على ترويج هذا الفقه،دون إكراه،فإني أعتبر القانون الفرنسي الذي منع البرقع-دون أن يُسمّيَه قطعا لخطّ الرّجعة لكلّ ما شابهه لدى أقليته المسلمة-قد اعتدى على علمانيته التي تضمن الاختلاف والتنوع وحرية التعبير بالكلمة وبكل الأشكال الأخرى بما فيها التظاهر والإضراب عن العمل والأكل وتكوين الجمعيات والأحزاب ذات الخلفيات المتسامحة والمتطرفة،ومن هذا المنظور يتنزّل موقف العلمانيين الذين ندّدوا بهذا القانون.
ولأني لا أستشعر أنّ قضية النقاب التي لا تعني إلا بضع المئات من العائلات في فرنسا-قد يكون بعضها على استعداد للتخلّي عنه-أن ينجرّ عنها فائض من التوتّر يُعقّد الأوضاع،فإني بسبب هذه القناعة أظنّ،وبعض الظنّ إثم،أنّ قضية النّقاب-رغم ما يتراءى في عدم وجاهتها-صالحة لتكون نموذجا للحوار الهادئ العميق بين الثقافات،لأنّها لم تبلغ درجة التشنّج والتوتّر والهيجان العائق للحوار البناء المتسامح...ولأنّ فرنسا العلمانية،رغم انكفائها على نفسها ونزعتها المستجدّة إلى رفض الآخر ما يزال في رصيد قيم ثورة أنوارها ما يُمكن التعويل عليه لمساعدتها على تجنّب الانحراف فالانحدار.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !