إن كبريات شركات تصنيع الأغذية إعترفت بمسؤوليتها عن مشاكل البدانة وزيادة نسبة الإصابة ببعض الأمراض وحاولت تقديم أصناف جديدة من المنتجات للمساعدة في تجاوز تلك المشكلة ولكن المنافسة الشرسة لم تكن تترك فرصة لأي منها حيث أن أي مساحة فارغة على أرفف البيع تتخلى عنها شركة معينة فسوف تجد أكثر من منافس مستعد لملئها. كما أنه كان من الصعب تحميل منتج معين كامل المسؤولية عن زيادة نسبة البدانة والأمراض كالسكري لأن ذالك كان مستحيلا وحتى مع نسبة إحتمالية بسيطة فإنه يتطلب سنين من الأبحاث والتجارب. ولكن ماذا كانت تلك الشركات تخفي عن عيون العامة بتحملها المسؤولية العلنية عن مشكلة السمنة مثلا؟ وسوف نأخذ مثالا على السرية التي تحيط بها شركات تصنيع الأغذية عملياتها حيث أنه في سنة 2008 تسبب إنتشار بكتيريا الليستريا في منتجات شركة اللحوم الكندية مابل ليف(Maple Leaf) حيث توفي 22 شخصا وكذالك في الولايات المتحدة سنة 2011 حيث توفي عدد من الأشخاص. في سنة 2009 تسبب إنتشار بكتيريا السالمونيلا في مصنع لزبدة الفول السوداني يقع في جنوب غرب ولاية جورجيا الأمريكية بوفاة 8 أشخاص وإصابة الألاف في 42 ولاية أمريكية. المشكلة في ان الكثير من الشركات تلتف على قوانين الرقابة الصحية بفضل النفوذ الذي تتمتع به على أعلى المستويات حيث يسمح لها بإختيار مفتش صحى خاص وليس فرض رقابة حكومية على عمليات التصنيع فيها. تقرير المفتش الصحي الذي زار المصنع قبل فترة قصيرة من الكارثة لم يدون أي ملاحظات لها علاقة بما حصل لاحقا كإنتشار الفئران وتشققات في سقف المصنع مما يؤدي لتسرب المياه. في نفس السنة تسبب تلوث ببكتيريا الإيكولاي(E-Coli) في أحد مصانع اللحوم التي تقوم بإستيرادها لتصنيع الهمبرغر لإصابة مدربة رقص(Stephanie Smith) بالشلل وتسمم عدد كبير من الأمريكيين. إنتشار عدوى التسمم ليس بشيئ جديد ففي سنة 1994 تسبب تلوث بكتيري لمنتجات أحد مطاعم الوجبات السريعة يدعى(Jack In The Box) بوفاة أربعة أطفال وعدد كبير من الإصابات. كل من يحاول تتبع مصدر التلوث سوف يصطدم بروتين حكومي قاتل وبيروقراطية مصممة لحماية تلك الشركات على حساب صحة المواطن العادي. ولكن في حالة التسمم التي أصابت مدرسة الرقص فقد كانت من شطائر همبرغر من إنتاج شركة كارغيل(Cargill) والتي تم إستخدام أجزاء مختلفة من جسم البقرة ومن مزودين إثنين أحدهما يقع في الأوراغواي. التسمم البكتيري قد يكون حدث نتيجة تلوث بفضلات الأبقار خلال عملية سلخ جلد البقرة بعد ذبحها. العامل الذي يزيد من صعوبة تتبع مصدر العدوى أن الكثير من موردي اللحوم لا يبيعون منتجاتهم للشركات المصنعة إلا تحت شرط عدم فحصها من التلوث البكتيري حتى خلطها بمنتجات لحوم من مزودين أخرين. في حالة المشروبات الغازية فالأمر يختلف وله علاقة بالتحكم بكمية السكر التي تدخل ضمن تركيبة التصنيع لخلق الحالة التي تعرف بإسم قمة النشوة (Bliss point) وهي النقطة التي يصل معها المستهلك إلى حالة الرضا الكامل وربما الرغبة في شراء المنتج مرة بعد أخرى. عدد من الأبحاث العلمية تجريها شركات صناعة الأغذية والوجبات السريعة لها علاقة على سبيل المثال بطريقة التحكم بجزيئيات الدهون من حيث شكلها وألية التوزيع التي تتخذها في حال دخلت الجسم وذالك في سبيل زيادة معدل إمتصاصها فيما يعرف في صناعة الأغذية بمصطلح (MouthFeel). شركة كارغيل وهي تعد رائدة في مجال صناعة أنواع مختلفة من الملح وتزويد شركات صناعة الأغذية بتلك المادة لإستخداماتها المختلفة تقوم بأبحاث متعلقة بتحويل حبيبات الملح لمسحوق ناعم حيث يكون تأثيرها أسرع وأقوى وإستغلال مايعرف بمصطلح (Flavor Burst) وهو على فكرة ليس إسم أحد منتجات الأيس كريم الشهيرة بل مجرد تشابه أسماء وتعني اللحظة التي يصل فيها إستمتاعك بنكهة المنتج إلى قمته. ولكن على الرغم من الجهود التي تبذلها شركات تصنيع الأغذية خصوصا في الولايات المتحدة لتقديم أصناف منخفضة السعرات الحرارية أو تقليل كمية الملح في أصناف أخرى فإن ذالك لايمكن أن يؤدي بأي شكل من الأشكال إلى فقدان المنتج لجاذبيته لدى المستهلكين, تقليل نسبة الدهون قد تقابلها زيادة في نسبة السكر المضاف للمنتج. ماتقوم به الشركات هو سلاح ذو حدين فالمهم الإبقاء على صورة المنتج لدى الزبائن كماهي بدون تغيير. الدعاية والتسويق لا تقل أهمية عن مدى جاذبية المنتج نفسه وليست مبالغة أن نسبة كبيرة من المبيعات تعود للسياسة التسويقية الناجحة حيث يعتبر قسم الدعاية والإعلان في أي شركة تصنيع مواد غذائية من أهم أقسام الشركة فكم من منتج تم سحبه من الأسواق بسبب قلة الإقبال على الرغم من التاريخ الناجح للشركة المنتجة؟ مثال بسيط مايعرف بإسم(Lunchables) وهي عبارة عن وجبة جاهزة في علبة بلاستيكية بألوان جذابة تحتوي على لحم, جبن, بسكويت وقطعة حلوى. في الدعاية المتعلقة بذالك المنتج يتم إستغلال معضلة عدم توفر الوقت لدى الأمهات حيث الكثير هم أمهات عازبات أو أن كلا من الأب والأم يعملون لساعات طويلة وليس هناك وقت لطهو وجبة منزلية. التركيز على الأطفال هو محور الدعاية لذالك المنتج وأنه مخصص لهم ليستمتعوا به. إن ذالك هو نوع من الدعاية الموجه للأطفال حيث بدأت بعض الدول وضع قيود على تلك الأنواع من الدعاية. ولكن كيف تمكنت شركات صناعة الأغذية الأمريكية من الإبحار وسط تلك العواصف حيث يتم إستهدافها من قبل ناشطين ومؤسسات غير حكومية والأهم حتى من قبل بعض المؤسسات الحكومية؟ الجواب قد يكون غريبا كالسؤال وهو أن تلك الشركات تتمتع بميزة محاباة الحكومة حيث يتم حماية سجلاتها أو لأكون أكثر وضوحا التكتم على النتائج السلبية للتحقيقات الحكومية فيما يتعلق بأخطاء وعثرات تلك الشركات. إن كبريات المؤسسات الحكومية تقف عاجزة أمام شركات تصنيع الأغذية وأساليب الدعاية التي تتبعها والتي تكون مضللة في كثير من الأحيان وتستخدم الإذاعة والتلفاز ووسائل التواصل الإجتماعي في الترويج لأطعمة تسبب البدانة وأمراض القلب والسكري. وحتى عندما قام المستهلكون بالتحول نحو الحليب قليل الدسم(الحليب المقشود-Skim Milk) فإن الكونجرس تحرك بضغط من لوبيات شركات إنتاج الألبان وتم تقديم الدعم لتلك الشركات من أموال دافع الضرائب كما أن الإنتاج الزائد من الجبنة دخل مكونات الطعام كعامل محفز لزيادة جاذبيته حتى وإن كان ذالك غير ضروري. إن متوسط معدل إستهلاك المواطن الأمريكي من الجبنة كل سنة هو 33 رطل أغلبها ليست أجبان يتم تناولها بطريقة مباشرة إنما تدخل في مكونات الأطعمة المختلفة كعامل محفز لزيادة جاذبية المنتج. بعض الشركات التي تستخدم أدوات أبحاث متطورة كماسحات(MRI) والتي تكون قادرة على مسح الدماغ ورصد التغيرات عند التعرض لمنتجات يدخل السكر في تركيبها حيث إكتشفت أن دماغ الإنسان يتفاعل مع السكر بشكل مماثل لتفاعله مع الكوكايين. شركات صناعة الأغذية إستغلت ذالك في الترويج لمنتجاتها بطريقة مختلفة. إحدى شركات الأيس كريم(Unilever) والتي تنتج في الوقت نفسه أشهر ماركات الصابون في العالم مثل لوكس(Lux) ودوف(Dove) ولايف بوي(LifeBuoy) قد قامت بإستخدام تلك النقطة بذكاء ولصالحها بالدعاية لإنتاجها من الأيس كريم بأنه يجعلك بالتأكيد تشعر بأنك بحال أفضل. الأساليب الدعائية التي تتبعها شركات صناعة الأغذية إتخذت منحى مختلف تماما بداية من سنة 1985 حيث إستفادت من عمليات إستحواذ قامت بها شركات التبغ كشركة أر جي رينولد(R.J. Reynolds) والتي تنتج أشهر ماركات السجائر مثل سجائر الجمل(Camel) والتي إستحوذت على شركة نابيسكو(Nabisco) وشركة مالبورو التي إستحوذت على شركة كرافت(Kraft) وشركة الإغذية العامة(General Foods) حيث أضافت إلى سيرة الشركة الذاتية لقب أكبر شركة إنتاج للأغذية في العالم بالإضافة إلى أكبر شركة إنتاج سجائر في العالم. الوثائق التي أفرج عنها بموجب تسوية قضائية والمتعلقة بطريقة عمل شركات إنتاج التبغ بلغت 81 مليون صفحة حيث من الإطلاع على الوثائق يتبين كيف قامت شركات إنتاج السجائر بتوجيه عمليات التسويق والدعاية المتعلقة بأقسام إنتاج الأغذية خلال أصعب الأوقات. هناك حقيقتان تواجهمها شركات صناعة الأغذية في الولايات المتحدة والعالم وذالك عند محاولة الإلتفاف على المخاوف التي يبديها المهتمون من موضوع البدانة. الحقيقة الأولى أن تلك الصناعة تعتمد على جعل المنتج أكثر جاذبية عن طريق إضافة النكهات والمواد الحافظة أو السكر أو الدهون. في صناعة الكاتشب فإن السكر وهو رخيص الثمن يمكنه من تعويض غياب الطماطم أو التقليل منها حيث تعتبر مرتفعة السعر. الملح يلعب دورا مهما في صناعة الأغذية ولمعرفة أهمية ذالك الدور ماعليكم إلا تخيل منتجات مثل (cheez its) من شركة كيلوج(Kellogg) بدون إضافة الملح إليها. الحقيقة الثانية هي أن المنافسة على مساحة أرفف البيع في المتاجر ومجمعات التسوق شرسة ولاتترك أي فرصة للقيام بالتعديلات المطلوبة لإرضاء لوبيات الضغط والجمعيات المهتمة بالصحة العامة والعاملين في المجال الصحي. إن ذالك كان واضحا حين قامت شركة بيبسيكو(Pepsico) بالدعاية لخط منتجات جديد يدعى(Better for you) حيث من المفترض أنه خط منتجات صحي منخفض السعرات الحرارية فكانت النتيجة إنخفاض في المبيعات حيث ثارت ثائرة الممولين في وول ستريت وطالبوا الشركة بالتخلي عن الترويج لتلك النوعية من المنتجات. شركة الكوكاكولا من ناحيتها إستغلت الفرصة وإستولت على المزيد من المساحة في رفوف العرض في المتاجر والأسواق وقامت بحملة دعلئية شرسة مما أصاب شركة بيبسيكو بالذعر نتيجة إنخفاض نسبة مبيعاتها. عالم شركات صناعة الأغذية والوجبات السريعة تتبدل فيه التحالفات بشكل مستمر وسريع حيث قد تستحوذ شركة معينة على شركة أخرى وتضمها إليها وبلا مبالغة هناك عشرة شركات تسيطر على مجمل إنتاج المواد الغذائية حول العالم قد يزيد الرقم أو ينقص مع مرور الوقت ولكن في ذالك العالم لا مكان فيه للضعفاء. هاذا الموضوع مجرد تمهيد لسلسة مواضيع لها علاقة بذالك العالم وسوف تليه مواضيع أخرى إن شاء الله. رابط الموضوع على مدونة علوم وثقافة ومعرفة http://science-culture-knowledge.blogspot.ae/2015/11/blog-post_27.html الرجاء التكرم بالضغط على رابط الموضوع بعد الإنتهاء من قرائته لتسجيل زيارة للمدونة مع تمنياتي للجميع بدوام الصحة والعافية النهاية
التعليقات (0)