تونس تعيش على وقع استحقاق انتخابيّ تحدَّدَ موعده بتاريخ 23 أكتوبر لاختيار هيئة "المجلس الوطني التأسيسي" الذي يُراد له أن يتحمّل أعباء مسؤولية تاريخية ومصيريّة في حياة البلاد على غاية من الدّقّة والخطورة،تلك المسؤولية التي يتوقّف على الكيفية التي ستُدار بها مستقبل تطلعات شعب بأكمله في الكرامة والتقدّم-وربّما يتوقّف على ذلك ،إلى حدٍّ غير هيّن،مستقبل "الرّبيع العربي"...
المشكلة أنّ نقطة الاستفهام ،بعدَ: "من ننتخب" ،ظلت قائمة ومحيّرة ترفض الانسحاب إلاّ إذا أطاحت بها إجابة مقنعة ومطمئنة،تلك الإجابة التي يبدو الظفر بها شاقا وصعبا في البحث عنها حيث الازدحام والاكتظاظ والجلبة والمزايدة والوعد والوعيد والإغراء والإبهار...
منْ ننتخب ؟
ترى ننتصر للكفاءات الوطنيّة التي ذاع صيتها وحازت على درجات رفيعة من العلم والمعرفة بصرف النظر عن الانتماء السياسي والخلفية الإيديولوجية التي تحكمها أم ننتقي منها خطّ الاستقلالية والحياد؟..
أمْ أنَّ واقع الحال يُحتّمُ الانحياز إلى الرّصيد النضالي خبرة وتجربة في تسيير دواليب الدولة أم ذاك الرّصيد الذي كسب مناضلوه مصداقيّتهم من الدفاع عن حقوق الإنسان والتشهير بالاستبداد والقمع والفساد وتأذّيهم جرّاء ذلك تشريدا واعتقالا وتعذيبا...
ترى هل يجدُرُ المراهنة على الشباب الذي أنجز الثورة حاملا مشعل المستقبل تجديدا ونسفا للبائد وجرأة وحماسا أمْ أنّ الظرف يُحتّم التعويل على الشيوخ بياضَ شَعْرٍ وحنكة ودهاءً وخبرة ؟..
ألا يكون من الأجدر الاطمئنان إلى القائمات التي يرأسها "الجنس اللطيف النّاعم" في هذه المرحلة بالذات التي نحتاج فيها إلى التربية على سلوك ديمقراطي مستحدث وتضامن وطني وتضحيّة.ذاتُ الصّفات التي يكون فيها عطاء المرأة أنجع من الرّجل خصوصا في بلد كتونس لا يشكو عقدة التفوّق الذكوري وتتمتّع فيه المرأة بقدر وافر من الحرية والتفوّق ؟
ثمّة ما يُدلّل على وجاهة كلّ وجهة نظر سبق ذكرها بل إنّ جميعها قد تغري بمعالجتها لتشكيل توليفة تنير السبيل إلى المساعدة على الإجابة على ذلك السؤال المُحيِّر : "من ننتخب؟"...
غيرَ أنّي أُنبّه إلى أنّ الشرط الأساسي الواجب توفّرُه فيمن نروم منحهم ثقتنا والتصويت لهم لم نأْتِ عليه بعدُ ألا وهو ما أسمّيه بـــ"المعــــــــــــــــــــــــدن"...المعدن الذي تشكّلت منه شخصيّة المراد انتخابه أكان امرأة أو رجلا، فقيها أو مُجرّدَ داعية، عالما أكاديميا أو عالما علّمته مدرسة الحياة،مُتَأدْلجا أو مستقلاّ،شابا أو كهلا أو شيخا...
لسْتُ أدعو إلى التنقيب على المعادن في باطن الأرض بل في عمق الإنسان حيث المطلوب يسيرا ولا يحتاج لغير اعتماد معيار الاطمئنان لذاك الذي يعرض علينا خدمته،الاطمئنان لمن يحمل في صدره لقلب كبير يتّسع لمحبّة الناس جميعا دون استثناء حتى الذين لا يُحبّونه (كلّ إناءٍ بما فيه ينضَحُ)...
ذاك الذي لا يعرف الحقد ولا الكراهيّة ولا التّشفّي ويترفّع عن الإساءة حتى لمن يُسيء إليه (لا تقاوم الشّرّ بالشّرّ،وإلاّ اشتركْتَ مع الشّرّير في شرّه فماتت الفضيلة بينكما-تولستوي)...
ذاك الذي يستقبلك طلْقَ المحيّى،بشوشا لا تخذله ملامحه بكشف ابتسامة خادعة ماكرة...
ذاك الذي يأسرك سحر بيانه صدقا لا بلاغة،تواضعا لا استعلاء (الناس أكثر تصديقا للعيون منهم للآذان)...
ذاك الذي يتواصل مع غيره بالكلمة الطيبة ويُجادل بالتي هي أحسن ولا يضيق ذرعا برأي يُخالفه ولا يتأفف ولا يحنق(ترفّقْ توَفَّقْ)...
ذاك الذي نجح في حياته الخاصة بفضل مثابرته وذكائه وعرق جبينه وأحاط عائلته بحبّه ورعايته وحاز لديها الحظوة والتقدير...
ذاك الذي كثرت محاسنه وقلّت عيوبه. (أبْصرْ وجهك في المرآة فإن كان حسنا فافعلْ حسنا،وإن كان قبيحا فلا تجمعْ بين قبيحَيْنِ- إفلاطون)
لنتجنّبْ منْح ثقتنا لحَقُودٍ حتى على أعدائنا "فالحقد صدأ القلوب" يُدمّر ولا يبني،وإيّانا "مَنْ تكرهه قلوبنا،فإنّ القلوب تجازي القلوب"...
ليست الوعود الجميلة والبرامج المنمّقة و الشعارات الرّنانة والجاه والمال ورصيد النضال والشهادات العلمية و الاستعراضات البهلوانيّة وفصاحة اللسان بكفيلة بالاطمئنان إلى سلامة الاختيار...الشرط الأساسي الذي دون توفّره نقع في المحظور هو "معدن" منْ ننتخب،كلما كان نقيّ السريرة،كبير القلب،واسع الصدر،متسامحا،متواضعا،محبا للخير ،ناكرا ذاته،ساعيا للوفاق والتآلف،مقبلا على الحياة بتفاؤل،محسنا،متعفّفا عن الإساءة-كلّما كان جديرا بثقتنا في ظرف دقيق ومصيريّ لا يحتمل الخطأ في التقدير.
ألا أكون مُحقّا في ما ذهبتُ إليه أم لديك قول آخر؟...
التعليقات (0)