قبل البدء في تكملة وصف ميدان التحرير من واقع المشاهدات والمعاينات الشخصية .. بعد عودتي فورا من الميدان لأستريح قليلا، وقبل العودة إليه مرة أخرى، جاء نبأ تنحى الرئيس مبارك، الذي أصابني بالفرح الهستيري والحزن في آن واحد ..الفرح لتحقيق الأهداف، وقطف الثمار، ونهاية الطاغية.. والحزن أن حرمت مشاركة إخواني في ميدان التحرير هذه الفرحة، وتلك اللحظة، التي طالما انتظرناها بين ترقب وخوف، وأمل وألم..
لنعود للميدان قبل النجاح..
فالميدان كان مثالا للحرية وما تفعله في النفوس من تفجير للطاقات وخلق للإبداع، ورغم شبه الإجماع من الثوار على تسميته بميدان الشهداء، إلا أنني أرى تسميته بميدان الحرية؛ ففي الميدان تجلت الحرية في صورتها الحلوة، عاشها الثوار حقيقة لا خيالا، واقعا لا تصورا، فالحرية هي كلمة السر، ومفتاح التقدم والرقى والإبداع..
ففي الميدان كانت الأفكار الجديدة تتوالى على الشباب في تزاحم عجيب، حتى كانت كل لحظة تشهد ميلاد فكرة جديدة، كلها أفكار تعبر عن الهدف الواحد الذي اجتمع عليه الثوار، والذي حاول النظام البائد بأساليبه الشيطانية الالتفاف عليه، وصرف الثوار عنه.. هدف واحد.. تسمعه من الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والشاب والفتاة، والمتعلم وغير المتعلم، الإخوانى، والليبرالي، والاشتراكي، وشباب 25 يناير.. تبلور هذا الهدف في عبارة " الشعب يريد إسقاط النظام "
والأفكار التي عبرت عن هذا الهدف اختلفت مابين رسوم كاريكاتيرية، وشعارات، وهتافات، ورسومات على الإسفلت، وحركات تمثيلية، حتى الصمت كان يرسم لوحة بديعة تعبر عن الهدف الواحد..
خذ مثلا على سبيل المثال:
شاب يعبر عن الهدف بلا كلام إنه يحمل زيرا( إناء من الفخار توضع فيه مياه الشرب) ويدور به في أرض الميدان، مكتوب عليه "هذا ليوم الرحيل" وفى العامية المصرية عندما يكره الناس أحدا وينتظرون رحيله يقولون " اكسر وراه زير" حتى لا يعود مرة أخرى..
وهذا ثاني يحمل لافتة ويدور بها في الميدان مكتوب عليها " ارحل بقى الولية عايزة تولد، والولد مش عايز يشوفك"..
وهذا ثالث يحمل لافتة مكتوب عليها " ارحل بقى مراتى وحشتني"..
وهذه فتاة تحمل لافتة على هيئة لوحة سيارة معدنية مكتوب عليها رقم السيارة2011 والحروف المقطعة بجوارها "ا ر ح ل"..
وهذا شاب ظريف يحمل لافتة مكتوب عليها " ارحل بقى ايدى وجعتنى"..
قالوا إن الشباب في التحرير مأجورون من جهات أجنبية، وأنهم يوميا يوزع عليهم وجبات كنتاكى و50 يورو للشاب الواحد، فكان أبلغ رد هذا المشهد:
"شاب يحمل الطلقات الفارغة التي أصيب بها الثوار من بلطجية النظام البائد، ويدور بها في الميدان أمام الكاميرات قائلا " حد عايز كنتاكى يا جماعة"..
أما الهتافات فحدث ولا حرج:
" ارحل يعنى امشي ياللى ما بتفهمشى"
"كلموه عبري ما بيفهمش عربي"
" ارحل ارحل يا طيار الطيارة في المطار"
"ارحل ارحل يا مبارك تل أبيب في انتظارك"
" يا جمال قول لأبوك شعب مصر بيكرهوك"
" يا سوزان قولي للبيه كيلوا اللحمة بميت جنيه"
"يا سوزان قولي للبيه كيلوا العدس بعشرة جنيه"
وبينما تتجول في الميدان، إذ تسمع رجلا طويل القامة، يلبس جلبابا بلديا، ومعه طبلة المسحراتي يدور في الميدان قائلا:
يا ولاد الحلال فيه راجل غبي اسمه مبارك..
أهبل ما بيفهمش..
أطرش ما بيسمعش..
أعمى ما بيشوفش..
اللي يلاقيه يحطه في أقرب صفيحة زبالة أو يولع فيه"
لا تملك نفسك من الضحك، وإذ بك تفاجأ بمجموعة من الشباب يلتفون على هيئة زار بلدي، يتمايلون ويرقصون، مرددين بصوت واحد:" اخرج يا حمار ..اخرج يا حمار ..اخرج يا حمار.."..
وبينما أنت في الميدان إذ تعثر قدمك برجل جالس، يضع على فمه شريط لاصق مكتوب عليه " 30سنة كفاية ..حراااام"..
تنظر إلى بعيد فتجد رجلا يجرى على هيئة طائر، يحرك يديه كأنهما جناحان قائلا:" أنا رايح ميدان طلعت حرب حد ييجى معاى "
هنا الدرس:
في ميدان الحرية تتوالد الأفكار، ويظهر الإبداع ..وفى ميدان الاستبداد تسمع ضجيجا ولا ترى طحنا..
وإلى لقاء آخر من قلب الميدان..
محمد عبد الفتاح عليوة
ostaz_75@yahoo.com
التعليقات (0)