مواضيع اليوم

من مكة إلى المدينة المنورة سيرا على الاقدام ..

طريق الهجرة النبوية
عبر حافلة سياحية مكيفة من الطراز الأول والأشهر استخداما في السياحة ، ومنضدة صغيرة تسحب من المقعد الذي أمامك ، تجد المشروبات الباردة والساخنة ، والفواكه والمأكولات الخفيفة وبعض التسالي وأنت تتجاذب أطراف الحديث الشيق مع من بجانبك ، على النافذة المجاورة تنسدل ستارة ثقيلة ذات ألوان زاهية تتناسب مع ديكورات الحافلة الداخلية ، بينما درجة الحرارة في الخارج تصل الى 45 درجة مؤية على الأقل ، وبعض من في الحافلة كان يشكو البرودة من شدة التكييف ، ولو سحبت الستارة قليلا سترى جبال صلدة سوداء ممتدة، بلا نهاية ترتفع كرؤوس كائنات وهمية طوطمية توحي بالرهبة والرعب والوحشة ، وسهول سوداء ممتدة مغطاة بالكامل بالحصى البركاني الأسود ، ولا اثر للحياة أو ما يدل عليها عبر مئات الكيلو مترات من مكة الى المدينة إلا بعض الاستراحات البائسة على الطريق أو بعض اللافتات التي تشير الى اسم قرية لا تظهر على المدى المنظور .

وسيارات شحن صغيرة وكبيرة ومتوسطة ، وسيارات من مختلف الأنواع والألوان تتجاوز الحافلة بسرعة جنونية ، تسابق ارتفاع درجة الحرارة التي تنبئ بحريق قادم ، ربما تندهش لوجود غابة من الأشجار الجافة التي تكاد أن تكون محروقة ، وربما ترى أثار سيل أو مستنقع مائي قديم .

عبر هذه المسافة الوعرة الجافة الحارقة المخيفة ، الموحشة البائسة ،الكئيبة ،التي تقدر بـ 450 كيلومترا عبر الرسول ص مهاجرا سرا الى المدينة المنورة ، بصحبه أبو بكر الصديق ، وقد سبقهم الى تلك الهجرة الصحابة ، بعد أن تركوا أموالهم وأغراضهم ومتعلقاتهم في مكة المكرمة ، هاجروا وهم يجملون أملهم بالغد المشرق ، والفجر الجديد الذي كان بين أيدهم وفي قلوبهم ، حملوه معهم من مكة الى المدينة ، عبر رحلة من العذاب والمشقة والخوف والمطاردة ، والحنين الجارف الى الوطن الأم والأهل والعشيرة التي نبذتهم وتخلت عنهم وخلت بينهم وما بين الناس من قريب وبعيد وصديق وعدو .

تأخذ الرحلة من مكة الى المدينة بالحافلة السياحية تلك أكثر من خمس ساعات ونصف ، وأكثر من استراحة على الطريق ، فكم ستأخذ من المهاجر سرا والخائف والجائع والمطارد المطلوب دمه وماله وولده ودينه .. عبر ليال من السفر وأيام من الحر الشديد ..

ما الذي دفع بالناس الى الهجرة ، وما الذي زرع فيهم كل هذه القوة والإصرار والتحدي وهم الضعاف العبيد المساكين الذين اعتادوا العيش على الهامش في حياة مكة تحت أمرة سادتها الذين كانوا في رفاه اجتماعي يحسدون عليه في صحراء قاحلة عديمة الزرع قليلة الضرع ، ما الذي أمد القوم الذين هاجروا بالعنفوان ،والصبر ، وما هو الذي كان في قلوبهم اكبر من الخوف من السادة الذين كانوا يملكونهم قبل أن يملكوا القوة والبطش والسلطة والجبروت ، وما هو الشاطئ الذين كانوا يرجون أن ترسو فيه سفينتهم بعد رحلات من العذاب والهجرة القسرية الإجبارية والتي لم تكن المدينة هي وجهتم الأولى فقد سبق وان هاجروا الى الحبشة من قبل .. وعانوا من عانوا .. ولقوا ما لقوا ..

كيف تمكن محمد ، العربي الأمي ، كيف تمكن من إقناع الناس بفكرته حتى صارت اعز عليهم من أنفسهم كما هو اعز عليهم من أولادهم وأموالهم وأنفسهم ، قال لهم والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده .. وكان . هو أكثر واكبر من معلم ومبلغ وقائد وحادي ركب ، بلا مناهج وكراريس ، وبلا صفوف وغرف مغلقة ، وبلا تقنيات تعليمية ، وبلا نظريات تربوية حديثة ، أو مختبرات ، زرع الفكرة في رؤوس من هم حوله وباتوا هم من يقوم بالمهمة كأنهم هو .. أليس هذا عمل معجز .. أليس في هذا دليل على التأييد الرباني .


كان قائدهم ومعلمهم الأول ، وصديقه الصديق الصدوق ، كانوا قد إذنا لهم بالهجرة سرا ، ثم تبعهما ، وهما يرسمان على لوحة الزمان والتاريخ الإنساني قصة عصية على التكرار عصية على التفسير من منطلق المنطق والعقل البحت ..

هل كانت الهجرة الى مغنم من مغانم الأرض ، وهل كانت لمكسب من مكاسب الدنيا ، وهل كانت لمنصب من المناصب ، كل ما كان يقوله محمد ص هو أن اصبروا وصابروا ولكم الجنة ... ترى أي جنة تلك التي حلم بها القوم ، وهم أهل الصحراء القاحلة الموحشة الكئيبة ، التي لا يكاد يرى فيها شجرة أو ظل ، واي جنة وصفت لهم ، وكيف تمت لهم صفة القناعة والإيمان على نحو فريد من التصديق ، لم تحظى به فكرة على مستوى العالم وعلى مر التاريخ الإنساني .
كان محمد ص وما ينطق به مؤيدا بقوة الله سبحانه وتعالى ، وكانت كلماته تؤيدها أفعاله ، وكان قدوة لغيره فيما يقول ويفعل ، فلم يخص نفسه بطاعة أو مغنم من الدنيا ، وقد عرضت عليه الدنيا : إن شئت أمارة أمرناك علينا ، وان شئت مالا أعطيناك لتكون أغنانا ، وان شئت زواجا زوجناك بأجمل بناتنا ... ولكنها ليست الدنيا هي لمغنم هذا ما كان يميزه عن غيره من أهل مكة .. كانت غايته مؤيدة بتأييد رباني غير قابل للتفسير بمنطق الأرض هو التأييد القادم من السماء ..

سقط كلامه عليهم كالصاعقة ليهدم عروشا وهمية ومجدا مبنيا على أسس آيلة للسقوط لا يملك مقومات البقاء كلمات ويمكن أن ينهار ..قالها : والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن اترك هذا الأمر ما تركته .. إذا هو الإصرار والقناعة المطلقة والرسالة ..

وليس من الغرابة أن يكون إصراره عليه السلام امتد بالعزيمة والقوة ذاتها الى الصحابة ، بل إنهم كانوا على استعداد للموت طاعة له وتصديقا به ، وفداء له ، فهو القائد الذي يعتمد عليه وهو جوهر الفكرة التي تدفع الى الأمام ، فبقائه استمرارا للفكرة .
هم أبناء الصحراء وأهلها ، وهم أبناء الصخر والجبل ، وهم من صنعوا ما صنعوا بصمت دون تصفيق أو هتاف ، وهم من صاغوا الحياة لذواتهم وذواتنا من بعد ..
كنت انظر عبر النافذة ذات الزجاج المزدوج وأنا أزيح الستارة الثقيلة وأتابع منظر الجبال السود وهي تمر معاكسة لاتجاه الحافلة ، بينما كان شريط الهجرة يمر من أمامي كشريط سينمائي وكأن الهجرة حدثت بالأمس فما اقرب الأمس الى اليوم ..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !