كثيرةٌ جدًّا هي احتياجات المواطن العادي في حياته اليومية، وكثيرةٌ جدًّا هي احتياجات الأسرة، وبالتالي احتياجات المجتمع من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ وعلاجٍ ودواءٍ وتعليمٍ واتصالاتٍ ومواصلاتٍ ونفقاتٍ أخرى قد يكون لها أول، ومن الصعب أن يكون لها آخر.. ولما كان من الصعب جدًّا أن نحيط بهذا كله في مقالةٍ أو اثنتين أو ثلاثةٍ، أو حتى في سلسلةٍ من المقالات التي قد تشكِّل كتابًا يعجز من هو في مثل حالنا عن طباعته ونشره، بل قد تشكل سلسلة من الكتب إذا وضعنا في الاعتبار أن نلم بكل تفصيلات ما سبق ذكره، وبكل حيثياته، الأمر الذي يستدعي أن يشرف على موضوع كهذا مجموعة من الباحثين المختصين في كافة أوجه الحياة للناس وللمجتمعات، وأن يتولى أمر الطباعة والنشر في موضوع كهذا وزارة أو دائرة أو منظمة أو هيئة تعنى كل العناية بالإنسان واحتياجاته، وبالمجتمعات واحتياجاتها ومتطلباتها، في ظل نظام أو أنظمة تحترم نفسها، وتحترم الإنسان، وتحرص الحرص كله على سلامة المجتمع وعلى سلامة صحته الجسدية والنفسية، وعلى أمنه، وأمانه، وحريته ،ورِفائه، وتطوره، وخلوه من العاهات والعلل والأمراض، وعلى رأسها التخلف والجهل والتسيب والفوضى والعدوان على الناس في ممتلكاتهم الخاصة والعامة، وفي كل ما يتعلق بحياتهم اليومية، ومكتسباتهم في هذه الحياة التي ينبغي أن يحقق المواطن فيها ذاته، ويجد فيها نفسه، ويرى فيها الأجيال وهي تسير من خلفه على هدًى، وعلى بينةٍ، وعلى بصيرةٍ وتبصرٍ من أمرها، راشدةً عاقلةً مدركَةً أبعاد حقوقها، وكل أبعاد واجباتها، فتحصل على هذه، وتؤدي تلك، وهكذا تسير الحياة على ما يرام، ويحظى المواطن والوطن بالعزة والرفعة والتقدم والرِفاء والاحترام.
ولما كان الأمر كذلك، فإننا نجتزئ في هذه العجالة موضوعًا قد يراه كثيرٌ من الناس هامشيًّا لا يستحق كل هذا الكلام والاهتمام، نظرًا لأن حياة مثل هؤلاء الناس تختلف عن حياة غيرهم من المواطنين المهمشين الذين لا يحصلون على احتياجاتهم – إن حصلوا عليها- إلا بشق الأنفس.. مثل هؤلاء الناس – وهم كثرٌ- تشكل المواصلات العامة بالنسبة لهم مشكلةً، ويا لها من مشكلة!! لأن رب الأسرة مضطرٌّ للخروج من بيته حتى لو كان عاطلاً عن العمل، ليرى الناس، وليسمع ما يقولون، علَّه يجد فرصة عمل، وعلَّه يجد عملاً إضافيًّا يعينه على توفير احتياجات أسرته التي لا تقف عند حد إن كان عاملاً، ولأن أفراد الأسرة أيضًا مضطرون للخروج إلى مدارسهم وجامعاتهم أو منتدياتهم وأماكن لقائهم بأصدقائهم وأقرانهم، لأن هذه هي طبيعة الحياة التي فُطر الناس عليها، ولأن هذه هي سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.. إن أسرةً متوسطةً مكونةً من خمسة أفرادٍ أو ستةٍ تحتاج في كل يوم كحدِّ أدنى لستة دنانير كي تخرج من البيت وتعود إليه، إن المواصلات وحدها، وفي حدها الأدنى الذي لا يمكن الاستغناء عنه تتطلب مثل هذا المبلغ في اليوم الواحد، فماذا يقول رب الأسرة إن كان بلا عمل، أو كان من ذوي الدخل المحدود جدًّا، أو المحدود، ماذا يقول معيلٌ كهذا في باقي احتياجات أسرته؟ وكيف سيوفر كل هذه الاحتياجات إذا كان عاجزًا عن توفير المواصلات؟ وإذا كان عاجزًا عن توفير أبسط وسائل الاتصالات التي أضحت من مستلزمات الحياة اليومية هي الأخرى، ماذا يقول رب أسرة وهو يرى نفسه عاجزًا عن توفير تحركات أبنائه وبناته من بيتهم إلى مدارسهم وجامعاتهم، وعاجزًا عن متابعتهم والاطمئنان عليهم كما يفعل كثير من الناس، وكما يجب أن يفعل رب الأسرة من أجل المحافظة على أبنائه وبناته؟ وماذا يقول وهو يرى نفسه عاجزًا عن دفع الأقساط وشراء الكتب، ووضع المصروف اليومي لأبنائه في أيديهم، وهم يخرجون من البيت متوجهين من وُكناتهم إلى ثكناتهم؟؟ وكيف تكون أحوال مجتمع بلا وكنات أو ثكنات؟ ليس مجتمعًا هذا الذي لا يملك الناس فيه بيوتًا تؤويهم، وليس مجتمعًا هذا الذي ليس له من أبنائه جنودٌ يتوجهون إلى ثكناتهم ينهلون منها العزة والكرامة والحرية والفروسية والعلم والمعرفة والأخلاق والانتماء وحب الوطن والأرض والتاريخ والتراث!! وليس مجتمعًا هذا الذي لا يملك فيه رب الأسرة ما ينفق منه على أبنائه وبناته في تحركاتهم وتنقلاتهم، وليس مجتمعًا هذا الذي لا يجد فيه المقموعون من الناس وسائل مواصلاتٍ تعينهم على التوجه إلى بيوتهم، أو أعمالهم، أو مدارسهم، أو جامعاتهم، أو قراهم، أو أحيائهم، أو الأماكن التي يرغبون في زيارتها، أو يرغبون في رؤيتها.. وإذا كانت مثل هذه الوسائل مؤمَّنةً للناس جميعًا أو لكل راغبٍ في اللجوء إليها من الناس في البلدان التي تحترم نفسها، وتحترم إنسانية الإنسان، وأبسط حقوقه في الحياة، فإنها ليست كذلك في البلدان التي ليس لها هدف سوى استغلال المواطن وابتزازه وإذلاله، فإما أن يكون المواطن قادرًا على خدمة الأسياد، وإما أن لا يكون، ولله في خلقه شؤون!! وللحديث أيضًا شجونٌ وشجون.
المواصلات - على الأقل - يجب أن تكون مؤمنةً لكل الناس في البلدان النامية المتخلفة، والأمر ليس كذلك – بالطبع – في البلدان التي يتجاوز فيها معدل الدخل السنوي للفرد ثلاثين ألفًا من الدولارات في العام، إضافةً إلى سلسلة من الضمانات الاجتماعية، والتأمينات الصحية وغير الصحية مما يعود على "المواطن" هناك بثلاثين ألف دولارٍ أخرى على شكل خدمات وضمانات وتأمينات.. فإما أن يكون الناس فقراء وإما أن لا يكونوا.. فإن كانوا فقراء توجب على أولي الأمر أن يوفروا لهم ما يحتاجون إليه، وإن كانوا أغنياء قادرين على شراء حاجياتهم واحتياجاتهم فعلوا، وهذه المعادلات ليست بحاجة إلى كثير من الشرح والتوضيح.. أما أن يكون هنالك فقراء معوزون شحاذون معدمون مقموعون بائسون، ثم نطلب منهم ما تطلبه الدول المتقدمة الصناعية المتطورة من شعوبها ذات الدخل المرتفع فهذا كثير، وهذا هو الشر المستطير!! ورب قائلٍ: وإذا كان أولي الأمر غير قادرين على الإنفاق؟ قلنا إن هذا غير صحيح على الإطلاق.. فالطبقية البغيضة تؤدي إلى مثل هذا الخلل، وكذلك البطالة.. وسوء الإدارة، والفساد المالي والإداري، وتفشي العلل والعاهات الاجتماعية هي الأخرى تؤدي إلى مثل هذا الخلل.. ويجدر بنا أن نحاسِب أنفسنا قبل أن نحاسَب، ويجدر بنا أن نعتبر من حوادث التاريخ وأحداثه، ومما يجري ويدور من حولنا في هذه المنطقة من العالم، قبل أن نكون عبرة لغيرنا، وقبل أن نكون عبرةً لمن يعتبر، وقديمًا قالوا إن السعيد من وُعظ بغيره، وإن الشقي هو من وُعظ بنفسه!!.
ينبغي – وتحت كافة الظروف والأحوال- أن تكون المواصلات مؤمنةً لكل الناس، وأن يكون هنالك ما يسمى بالنقل العام، وأن يكون هنالك من يقدم الدعم والعون لمن يقدمون مثل هذه الخدمة الجليلة للناس، وينبغي أن يقف الناس جميعًا إلى جانب من يقدم إليهم مثل هذه الخدمة الجلى، وينبغي أيضًا أن يكف من يعنيهم الأمر أيديهم عن مثل هؤلاء إن لم يقدموا لهم العون والدعم، وإن لم يعينوهم على النهوض بسئولياتهم، ومهماتهم التي نذروا أنفسهم لها منذ أزمانٍ بعيدة!!.
وينبغي أن نتقي الله في أوطاننا وأجيالنا وأطفالنا وأماناتنا، وأن نكون في عون مواطنينا، فإن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وينبغي أن لا نضايق الكرام الذين يخدمون الناس ويمدون إليهم يد العون، فإن لم نستطع مساعدتهم لنعينهم على ما أخذوا به أنفسهم، وإن لم نكن راغبين في تقديم مثل هذه المساعدة، فلا أقل من الصمت، ولا أقل من الكلمة الطيبة، ورحم الله من قال: لا خيل عندك تهديها ولا مالُ// فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحالُ!! وللحديث صلة.
أ/ عدنان السمان
15-4-2012
التعليقات (0)