مواضيع اليوم

من قصص العرب(3)

الحسين وافق

2010-07-15 21:23:24

0

                                                        هارون الرشيد وابن السمّاك 

                                                                                                   

ذهب هارون الرشيد في إحدى السنوات إلى مكة حرسها الله تعالى ، فلما أتمّ مناسك الحج ، سمع عن رجلين من كبار الزهّاد ، أحدهما يقال له ابن السماك والثاني ابن عبد العزيز العمري ، لم يقصدا سلطانا قطّ . فقال هارون الرشيد للفضل الربيع : يا عبّاس ، وهكذا كان يناديه ، أودّ أن أرى هذين الزّاهدين اللذين لايسعيان للسلاطين ، وأن أستمع إلى حديثهما ، وأن أطّلع على حالهما وسيرتهما في السرّ والعلن ، فما السبيل إلى ذلك؟ فقال الفضل : فليأمر أمير المؤمنين بما يرى حتى أمهد له زيارتهما . فقال هارون : أريد أن نذهب إليهما متنكرين لنرى كيف يعيشان ، فما أيسر معرفة المنافقين بشيء من حطام الدنيا . فقال الفضل : أصبت ياأمير المؤمنين ، فبماذا تأمر؟ فقال له : إذهب وأحضر حمارين من الحمر المصرية ، وكيسين في كل منها ألف دينار ذهب ، والبس مما يلبس التجّار ، ثم عد إلي بعد صلاة العشاء لأقول لك ما يكون بعد ذلك . 

انصرف الفضل ثمّ أعد هذا كلّه ، ورجع إلى هارون الرشيد بعد الصلاة ، فوجده قد ارتدى زيّ التجار أيضا ، فقام وركب الحمار وركب الربيع الحمار الثاني ، وأطى الذهب  إلى رجل كان يعرف منزلي الزاهدين ، فتقدّمهما مع اثنين من خاصة الركابدارية ، وساروا جميعا متنكرين لايعرفهم أحد . ولم يكن معهم شمع ولا مشعل ، فبلغوا أوّلا دار العمري فطرقوه عدّة مرّاتٍ حتى سمعوا صوتاَ يسأل من بالباب ، فقالوا : افتح فإن هنا من يريد لقاء الزّاهد في الخفاء . ففتحت الباب جارية قليلة البهاء ، فدخل هارون والفضل والدليل فوجدوا العمري قائما يصلّي على حصير خلقة ، ووجدوا مسرجة على قعر جرّة ، فجلسوا فترة حتّى فرغ الرجل من الصلاة وسلّم . فالتفت إليهما وقال : من أنتما وما شأنكما؟ قال الفضل : هذا أمير المؤمنين جاء متبرّكا بلقائك . فقال الزاهد : جزاك الله خيرا ، ولماذا شقّ على نفسه ، وكان الأولى أن يطلبني فأذهب إليه ، فإني أطيعه وأخضع لأمره ، وإنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وطاعته فريضة على المسلمين جميعا .فقال الفضل : لقد آثر الخليفة أن يسعى إليك بنفسه . فقال الزاهد : زاده اللع تعالى عظمة وجلالا كما عرف حرمة عبده ، فقال هارون : عظنا وقل قولا نسمع إليه ونعمل به . فقال الزاهد : أيّها الرجل ، إنك أمّرت على خلق الله عز وجل ، وقد ولاّك الله أعظم قسط من أرضه كي تخلّص نفسك من نا جهنم بإقامة العدل بين الناس ، وانظر إلى المرآة لترى فيها وجهك الجميل هذا ، فتعلم أن من الظلم إحراقه في النار ، ولا تفعلن ما يغضب الله عز وجل . فبكى هارون الرشيد وقال : زدني نصحاً . فقال : يا أمير المؤمنين تذكّر أنك مررت في طريقك من بغداد إلى مكة بكثير من القبور التي إليها معاد الناس جميعا ، فاذهب واعمل الآخرة فالبقاء في هذه الدنيا قليل . فازداد هارون بكاءً . فقال الفضل : كفاك يا عمري إلى متى هذه الغلظة ، ألا تعرف مع من تتكلم؟ فصمت الزاهد وأشار هارون ليضعوا الكيس أمامه ، وقال : أردنا أن نوسّع عليك بهذا. فقال العمري : صاحب العيال لايفلح أبدا ، إن لي أربع بنات ولولا تفكيري فيهن لما قبلت هذا المال فإني في غنىً عنه . فنهض هارون الرشيد وشيّعه العمري إلى الباب حتى ركب ومضى . فقال هارون للفضل في الطريق : لقد وجدت العمري فصيح اللسان ، ولكنه راغب في الدنيا ، ألا ما أشدّ إغراء هذه الدراهم والدنانير  ، والعظيم حقاً من يستطيع أن يهملها ، فلنذهب الآن لنرى ابن السماك . 

وساروا حتى بلغوا باب دار ابن السماك فطرقوه مرّاتٍ ، حتى سمعوا صوتا يقول : من بالباب ؟ قالوا : نريد ابن السماك .فذهب صاحب الصوت وبعد فترة عاد يقول : ماذا تريدون منه ؟ قالوا : افتح فإن لنا معه شأنا هاما .ففتحت الباب جارية ، فدخلوا ولبثوا جالسين فترة على الأرض في الظلام ، وكانت الأرض عارية ، فنادى الفضل الجارية التي فتحت الباب لتأتي بسراج ، فلما جاءت قالت : لاأذكر أني وجدت عند هذا الرجل سراجا منذ اشتراني أو أضيئت الدار .فقال الفضل للجارية : وأين الشيخ ؟ قالت : إنه فوق هذا السطح . فصعدوا إليه فرأوه يبكي في الصلاة ويتلوا هذه الآية <أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا >وكان يرددها كثيرا ، فلما سلم التفت وقال : السلام عليكم ، فردّ عليه هارون والفضل التحية بمثلها .فسألهم ابن السماك : ما الذي جاء بكم فب هذا الوقت ومن أنتم ؟ قال الفضل : هذا أمير المؤمنين جاء ليزورك وكان مشوقا إلى رؤياك . فقال : كان عليه أن يستأذنني قبل مجيئه ، ثم يأتي بعد أن آذن له ، لايجوز صرف الناس عن شئونهم .قال الفضل : نعم كان ذلك واجبا ولكن هكذا كان ، إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم  وطاعته فرض على كافة المسلمين وأنت منهم ، والله تعالى يقول <أطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم >; فأجاب ابن السماك : هل يسلك هذا الخليفة مسلك الشيخين [يريد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما] حتى أعدّ أوامره كأوامر الرسول؟! قال : نعم إنه لكذلك . قال : إني لأتعجب من هذا الجواب ، فلست أجد أثراً لسيرته في بلد مثل مكة وهي بلد الحرم ، فكيف يكون الحال في سائر البلدان ؟!! فبث الفضل صامتا .فالتفت هارون إلى ابن السماك وقال له : عظني موعظة ، فقد جئت من أجل هذا ، جئت لأسمع قولك ولتزيدني قوّة . فقال : اخش الله عزّ وجلّ يا أمير المؤمنين ، وإنه واحد لاشريك له ، غني عن كل أحد . واعلم أنك ستحشر يوم القيامة أمامه ، وأن حالك لن يخلو من اثنين ، فإما أن تذهب إلى الجنة ، وإما أن تلق في جهنم ، ولا دار غير هاتين . فبكى هارون بكاء مُرّاً حتى ابتل وجهه وصدره . فقال الفضل : أتدري ماذا تقول أيها الشيخ؟ هل من شك في أن أمير المؤمنين لا يذهب إلا إلى الجنة؟ فلم يجبه ابن السماك ولم يعبأ به ، والتفت نحو هارون وقال : يا أمير المؤمنين هذا الفضل يصحبك الليلة ، ولن يكون معك غداً في يوم القيامة ، ولن يتكلم عنك كلمة ، وإذا تكلم فلن يستمع إليه ، فانظر إلى شخصك وارفق بنفسك . فتحيّر الفضل وبكى هارون حتى خافوا أن يغشى عليه . فقال : اسقوني ماء .فنهض ابن السماك ، وجاء بكوز ماء وقدمه إلى هارون . فلما همّ بالشرب قال له : أيها الخليفة ، إني استحلفك بحرمة قرابتك من رسول الله عليه السلام أن تقول بكم تشتري هذا الماء إذا منعوك شربه؟! قال هارون : أشتريه بنصف ملكي . قال : اشربه هنيئا . وبعد أن شرب ، قال له : إذا انحبس هذا الماء الذي شربت في جسدك ، فكم تعطي لانطلاقه؟ قال : نصف ملكي . فقال ابن السماك : يا أمير المؤمنين ، إن الملك الذي يساوي شربة ماء لايجدر بالرجل أن يغترّ به ، وإذا قمت بأمر خلافة رسول الله فاعدل بين الناس ، واحسن إليهم . فقال هارون : سمعا وطاعة . وأشار فقدّموا إليه الكيس ، وقال الفضل : أيها الشيخ ، لقد سمع أمير المؤمنين بضيق ذات يدك ، وأمر لك الليلة بهذه الصلة الحلال فاقبلها . فتبسم ابن السماك وقال : سبحان الله العظيم ، إني أنصح أمير المؤمنين أن يصون نفسه عن جهنم ، فيأتي ليوقعني فيها . هيهات ، هيهات ، أبعدوا هذه النار من أمامي لئلا نحترق الآن ، نحن والبيت وأهل هذه المحلة . ثم قام فخرج إلى السطح . وجاءت الجارية تعدو وتقول : انصرفوا يا سادة ، فإنكم قد آذيتم الشيخ المسكين إيذاءً شديدا هذه الليلة . فقام هارون والفضل وحمل الدليل الكيس وركبوا وانصرفوا .

وكان هارون يردد في الطريق قوله : هذا لعمري هو الرجل الحق ..

وكثيرا ما كان يذكر حديث ابن السماك بعد هذا . 

                                            تاريخ البيهقي ص555




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !