من كتاب : مصارع العشاق لأبي جعفر بن أحمد بن السراج
كانت عند عبد الله بن جعفر جارية مغنية يقال لها عمارة، وكان لها منه مكان لم يكن لأحد من جواريه . فلما وفد عبد الله بن جعفر على معاوية خرج بها معاوية ، فزار يزيد معاوية ذات يوم فأخرجها إليه . فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه ، وجعل لايمنعه من أن يبوح بما يجد إلا مكان أبيه ، مع يأسه من الظفر بها . فلم يزل يكاتم الناس أمرها إلى أن مات معاوية ، وأفضى الأمر إليه ، فاستشار بعض من قدم عليه من أهل المدينة وعامة من يثق به في أمرها ، وكيف الحيلة فيها، فقيل له : إن أمر عبد الله بن جعفر لايرام ، ومنزلته من الخاصة والعمة ومنك ما قد علمت ، وأنت لا تستجيز إكراهه ، وهو لا يبيعها بشيء أبدا ، وليس يغني في هذا إلا الحيلة . فقال : انظروا لي رجلا عراقيا له أدب وظرف ومعرفة . فطلبوه وأتوا به ، فلما دخل رأى بيانا وحلاوة وفهما . فقال يزيد: إنّي دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظك آخر الدهر ، ويد أكافئك عليها إن شاء الله . ثم أخبره بأمره.فقال له : عبد الله بن جعفر ليس يرام ما في قلبه إلا بالخديعة ، ولن يقدر أحد على ما سألت ، فأرجو أن أكونه والقوة بالله ، فأعني بالمال . قال : خذ ما أحببت .
فأخذ من طرف الشام وثياب مصر ، واشترى متاعا للتجارة من رقيق ودواب وغير ذلك ، ثم شخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر ، واكترى بيتا إلى جانبه ، ثم توسل إليه ، وقال : إني رجل من العراق قدمت بتجارة ، وأحببت أن أكون في عزّة جوارك وكنفك ، إلى أن أبيع ما جئت به . فبعث عبد الله إلى قهرمانه أن أكرم الرجل، ووسع عليه في نزله . فلمّا اطمأن العراقي سلّم عليه أياما وعرّفه نفسه ، وهيّأ له بغلة فارهة وثيابا من ثياب العراق وألطافا ، وبعث بها إليه وكتب معها : يا سيدي إنّي رجل تاجر ونعم الله علي سابغة ، وقد بعثت إليك بشيء من تحف وثياب وعطر ، وبعثت ببغلة خفيفة العنان وطيئة الظهر فاتخذها لركوبك، فأنا أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قبات هديتي ، فإن أعظم أملي في سفرتي هذه أن أستفيد الأنس بك ، والتحرّم بمواصلتك .
فأمر عبد الله بقبض هديّته وخرج إلى الصلاة . فلمّا رجع مرّ بالعراقي قس منزله فقام إليه وقبّل يده ، واستكثر منه ، فرأى أدبا وظرفا وفصاحة فأعجب به وسرّ بنزوله إليه .فجعل العراقي في كلّ يوم يبعث إلى عبدالله بهدية طريفة . فقال عبد الله : جزى الله ضيفنا هذا خيرا ، فقد ملأنا شكرا ، وما نقدر على مكافأته .
وإنّه لكذلك إلى أن دعاه عبد الله ، ودعا بعمارة في جواريه ، فلمّا طاب لهما المجلس وسمع غناء عمارة ، تعجب وجعل يزيد عجبه ، فلمّا رأى ذلك عبد الله سرّ به إلى أن قال له : هل رأيت مثل عمارة ؟ قال : لا والله يا سيدي ، ما رأيت مثلها ولا تصلح إلا لك . وما ظننت أن يكون في الدنيا مثل هذه الجارية ، حسن وجه وحسن عمل .قال : فكم تساوي عندك ؟ قال : ما لها ثمن إلا الخلافة .قال : تقول هذا لتزين لي رأيا فيها ، وتجتلب سروري . قال له : يا سيدي ، والله لأحب سرورك ، وما قلت لك إلا الجد ، وبعد فإنّي تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلبا للربح ، ولو أُعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها . فقال له عبد الله : عشرة آلاف؟ قال : نعم - ولم يكن في ذلك الزمان جارية بهذا الثمن - فقال له عبد الله : أنا أبيعكها بعشرة آلاف . قال : قد أخذتها . قال : وجب البيع . وانصرف العراقي .
فلمّا أصبح عبدالله لم يشعر إلاّ بالمال قد جيء به . فقيل لعبد الله : قد بعث العراقي بعشرة آلاف دينار ، وقال : هذا ثمن عمارة . فردّها وكتب له : إنّما كنت أمزح معك ، ومما أعلمه أن مثلي لا يبيع مثلها . فقال له : جعلت فداك إن الجد والهزل في البيع سواء .
فقال له عبد الله : ويحك ! ما أعلم جارية تساوي ما بذلت ، ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك ، ولكنّي كنت مازحا ، وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي ، وموضعها من قلبي . فقال العراقي : إن كنت مازحا فإنّي كنت جادا ، وما اطلعت على ما في نفسك ، وقد ملكت الجارية ، وبعثت إليك بثمنها ، وليست تحل لك ، وما لي من أخذها من بدّ . فمانعه إيّاها (أي امتنع عن تسليمها إليه) .فقال : ليست لي بيّنة ، ولكنّي استحلفك عند قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومنبره . فلمّا رأى عبد الله الجدّ ، قال : بئس الضيف أنت ، ما طرقنا طارق ، ولا نزل بنا نازل أعظم بليّة منك ، اتحلّفني فيقول الناس : اضطهد عبد الله ضيفه وقهره؟وألجأه إلى أن استحلفه ؟ أما والله لتعلمنّ أنّي سأعتصم في هذا الأمر بالصبر وحسن العزاء .
ثمّ أمر قهرمانه بقبض المال منه ، وبتجهيز الجارية بما يشبهها من الخدم والثياب والطيب ، فجهّزت بنحو ثلاثة آلاف دينار .
فقبض العراقي الجارية ، وخرج بها ، فلمّا برز من المدينة قال لها : يا عمارة ، إنّي والله ما ملكتك قطّ ، ولا أنت لي ، ولا مثلي سشتري جارية بعشرة آلاف دينار ، وما كنت لأقدم على ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي ، ولكنّي دسيس من يزيد بن معاوية ، وأنت له ، وفي طلبك بعث بي ، فاستتري منّي . ثم مضى بها حتّى ورد دمشق ، فتلقاه الناس بجنازة يزيد ، وقد استخلف ابنه معاوية بن يزيد . فأقام الرجل أياما ثمّ تلطّف للدخول عليه ، فشرح له القصّة ، ولم يكن أحد من بني أميّة يعدل بمعاوية بن يزيد في زمانه نبلا ونسكا . فلمّا أخبره قال : هي لك ، وكل ما دفعه إليك من أمرها فهو لك، وارحل من يومك فلا أسمع بخبرك في شيء من يلاد الشام .
فرحل العراقي ، ثمّ قال للجارية : إني قلت لك ما قلت حين خرجت بك من المدينة ، فأخبرتك أنّك ليزيد وقد صرت لي ، وأنا أشهد الله أنك لعبد الله بن جعفر ، وإنّي قد رددتك عليه فاستتري منّي .
ثمّ خرج بها حتى قدم المدينة ، فنزل قريبا من عبد الله ، فدخل عليه بعض خدمه فقال له : هذا العراقي ضيفك الذي صنع بنا ما صنع ، وقد نزل العرصة لاحيّاه الله ! فقال عبد الله : مه (أي اسكت) ، انزلوا الرجل وأكرموه . فلمّا استقرّ بعث إلى عبد الله : جعلت فداك أن رأيت أن تأذن لي لأشافهك بشيء فعلت ، فأذن له ، فلمّا دخل سلّم عليه وقبّل يده ، فقرّبه عبد الله ، ثمّ اقتصّ عليه القصّة ، حتّى إذا فرغ ، قال : قد والله وهبتها لك قبل أن أراها وأضع عليها يدي ، فهي لك ومردودة عليك ، وقد علم الله تعالى أنّي ما رأيت لها وجها إلا عندك . فبعث إليها فجاءت ، وجاء بما جهّزها به موفرا . فلمّا نظرتٌ إلى عبد الله خرّت مغشيا عليها ، وأهوى إليها عبد الله ، وخرج العراقي ، وتصايح أهل الدار : عُمارة ، عُمارة ، فجعل عبد الله يقول ودموعه تجري : أحلم هذا ؟ أحقِِ هذا؟! ما أصدق بهذا . فقال له العراقس : جعلت فداك ، قد ردّها عليك إيثارك الوفاء ، وصبرك على الحق وانقيادك له . فقال عبد الله : الحمد لله ، اللهم إنّك تعلم أنّي تصبّرت عنها ، آثرت الوفاء ، وأسلمت لأمرك ، فرددتها عليّ بمنّك ، فلك الحمد . يا أخا العراق ما في الأرض أعظم منّة منك ، وسيجازيك الله تعالى .
وأقام العراقي أيّما وباع عبد الله غنما له بثلاثة عشر ألف دينار ، وقال لقهرمانه : احملها إليه ، وقل له : اعذر ، واعلم أنّي لو وصلتك بكل ما أملك لرأيتك أهلا لأكثر منه ، فرحل العراقي محمودا وافر المال .
التعليقات (0)