سلام الله عليك أختي ليلى.
ها نحن نرسل لك أختي الكريمة , و للقرّاء الأعزّاء المشهد الثّاني من فصل "طقوس العنصلة" الذي يسلّط الضّوء على همجية الاحتلال ،و خاصّة عقوبة الإعدام التي كان يوزّعها على شعبنا الحبيب بعشوائية.
قراءة ممتعة للجميع.
الأخ المقرّب من الجوهرة
أتى دور محمد أمقران فشخّص بصره في وجه لويس ثمّ مدّ يدّه بسرعة خاطفة و سحب منه علبة الحبر و رماها ضدّ الجدار فسال الحبر الأحمر على الجدار الذي بدا كأنّه أشفق على حال محمد أمقران و رفقائه فتفتّقت فيه الجروح غائرة . اقتنع لويس بأنّ الرّجل ليس مستعدا مطلقا كي يضع بصمته على اسمه فاعتبر ذلك تمرّدا.
أحضر لويس علبة أخرى و علبة فيها شيء ما. إنّها آخر محاولة مع الرّجل؛ أخرج لويس حبلا طويلا و بعض حبّات الرّصاص. حملق فيها محمد أمقران ثم ابتسم مشيرا بيده إلى خياره الأخير. لم يختر الحبر الأحمر فنكّس رفقاؤه رؤوسهم حزنا عليه. ثمّ أطلق قهقهة اعتقدوا أن اللّون الرّصاصي قد فصل بين عقله و ذاته. لكن الرّجل استغرب حزنهم و أسفهم و هو يسألهم :
- لماذا غرقتم في الحزن إلى درجة أنّ من يراكم تتأسّفون من أجلي سيعتقد بأنّكم ذاهبون إلى عرس. لقد اخترت الموت و كذلك أنتم اخترتم الموت؛ ستموتون و ستتحوّل قبوركم إلى أرقام... و من سيعود منكم من ساحة المعركة سيعود ببعض العقل و سينهار منه البعض الباقي لمّا يكتشف الأكذوبة السّحرية.
كان مصير الرّجال المأساوي يجول في خاطر محمد أمقران فاستأنف حديثه :
- حين تكتشفون الخدعة ستقولون لقد كان محمد أمقران محقّا لأنّه اختار المشنقة فخفّفت عنه زغاريد أمّه ألم الموت. سأشنق فيزيح الجلاد المنصّة من تحت قدمي ليقتلع منّي عرق الحياة ؛ و ستلحقني ابنتي الجوهر بأيديها المخضّبة بحنّاء العرس لتقبّل رؤوس أصابع رجلي !.
سار لويس بين الأزقّة و الحواري يعلن نبأ عزمه على تنفيذ عقوبة الإعدام على محمد أمقران بسبب عصيانه. و سارعت الجدّة إلى سدّ أذان أكلي بأصابعها خوفا عليه من الخبر. وقف لويس مطوّلا أمام بيت محمد أمقران كي يتأكّد من أنّ عائلته قد تلّقت الخبر و تيقّنت منه. أتت الجوهر تهرول بعدما تردّدت الأنباء إليها؛ ربّما أتت لتواسي جدّتها؛ و لكن من أين التأسّي ؟. فالذي سيعدم هو والدها. إذن لن تتمكّن أيّة من الجدّة أو الحفيدة من مواساة الأخرى... أدركت الجوهر جدّتها و راحتي يديها على أذني حفيدها تسدّهما. لم تنتبه إلاّ و الجوهر تزيحهما بسرعة معلّلة فعلتها :
- دعيه يا جدّتي يسمع بأنّ يد الغازي التي تسلّم منها الحلوى ستمّتد إلى رقبة أبينا... دعيه كي يعلم بأنّ الذين يعدمون الرّجال لا تهمّهم سعادة الأطفال مطلقا.
لم تتيقّن الجدّة من السّبب الحقيقي الذي جعل الجوهر تتصرّف كذلك. أهي خشيتها من تأثير الفرنسي على أخيها فأرادت أن تبطل النّجاح في استمالته ؟. أم أنّها أرادت أن يقاسمها أكلي النّبأ الحزين ؛ و لما لا ؟ فالذي سيسير إلى منصّة الإعدام هو أبوهما و بالتّالي لابدّ أن يتقاسما تركة الأسى و الوجع معا.
أقبل طارق بعد لحظات فهرولت إليه تركية تسأله عن سماعه نبأ العفو و إذا ما قد تمّ التّراجع عن قرار الإعدام فهزّ رأسه يمينا و شمالا و عيناه امتلأتا بالدّموع. صدر القرار إذن و لا مجال للعودة عنه ما دام محمد أمقران لم يتراجع بعد عن إصراره على رفض التّجنيد الإجباري.
أتى صباح اليوم التّالي و أيّ صباح ذاك ؟ ! صباح أصبح فيه الزّمن ثقيلا على الجميع... ثقيل على الرّجل المجنّد إجباريا و هو تارك زوجته لم تتم بعد مرحلة النّفاس… متثاقل هو الزّمن بالنّسبة للعريس الذي يترك الحنّاء القانية اللّون في أصابع عروسه… بطيء هو الزّمن على الشّاب الذي قرأ فاتحة الكتاب على خطيبته ثمّ أهداها مسكا دمشقيا لن يستنشقه في أثوابها؛ ففرنسا فرضت عليه رائحة البارود عوض المسك الشّامي... مفترس ذلك الزّمن بالنّسبة لعجوز أهدت ابنتها ليلة عرسها طوقا من المرجان ؛ لكن ما لبث أن اندثر اللّون المرجاني تحت جلطات الدّم ففرنسا ذبحتها من الوريد إلى الوريد.
كئيب هو الزّمن على الشّاب الذي أهدى عروسه قطعة حرير و حلم بها تخرج إليه كملاك مورّد الخدود تمدّ ذراعيها إليه.. . محزنة حاله حين تصدمه رصاصة قنّاص غازي فلا يجد مجالا للمقارنة بين نعومة الحرير و خشونة الحرب لأنّه سيموت فورا و لن يكون لديه الوقت الكافي ليقارن بين وحشية الحرب و ألفة الحبيب...
كئيب هو ذلك الزّمن بالنسبة للفلاّح الذي انتظر بشوق متى يرى تورّد الخوخ و لمعان حبّات الزّيتون و يستنشق رائحة زهر اللّيمون و عطر الرّياحين فحالت بينه و بين العطر رائحة منبثقة من جوف القنابل... مؤلم جدّا ذلك الحدث الذي جعل الجدّات يصرخن من الألم و يوزّعنه على قباب العراق و على كلّ قبّة يقفن كالحمام يصرخن يا مولانا بغداد([1]) عسير ذلك الزّمن الذي جعل الحدّاد يدقّ الحديد و مع كلّ شظيّة يتمنّى بروز الإمام علي على صهوة جواده و يؤخذ بالحديد السّاخن ليحرق به أكباد الغزاة... همجيّ ذلك الزّمن الذّي حلمت فيه الجدّات بوفرة الحصاد و دوران الرّحى مصحوبة بهديل الحمام... همجيّ هوّ ذلك الزّمن على هؤلاء النّسوة اللّواتي دارت رحى الحرب على أحفادهنّ و أزواجهنّ و أبنائهنّ... ثقيل هو صباح ذلك اليوم الذّي وزّعت شهادات الترّمل و التّيتم بطريقة رسمية إبتدعتها حرب الظّالمين و ضلالة تلك البدعة وعودها الكاذبة... أمّا نارها فيصلاها القابل بتلك البدعة و الرّافض لها.
استيقظت الجدّة تركية باكرا بل إنّها لم تنم أصلا. قامت متوجّهة إلى ساحة الإعدام و الجوهر تتبعها و معها أكلي. التفتت إليها جدّتها تتوسّل إليها أنّ تعيد الصّغير إلى الدّار؛ لكنّها أصرّت على أخذه معها كي يشاهد ما سيفعله لويس الذي كان يمنحه الحلوى. اقتربت الجدّة إلى المكان فشاهدت النّاس مطرقين رؤوسهم و حبل متدلّ تداعبه الرّياح كما تداعب صبية أرجوحتها. دمعت عيناها و هي تنزع الطّفل من أيدي أخته كي تعيده إلى البيت، لكن أكلي كان مصرّا هو كذلك أن يودّع والده الوداع الأخير... أجهشت تركية بالبكاء ثمّ التفتت إلى الجوهر تحدّثها بغضب. لم تعرف الجدّة لماذا أصرّت حفيدتها على مثل هذا الأمر وكيف تجلب الصّغير ليشاهد إعدام والده. إنّها على علم بأنّ المشهد ليس لكبش أضحية العيد كي يسرّ برؤيته.
وصل الجميع إلى ساحة الإعدام. كان كلّ شيء فيها رهيبا بما فيه نظرات النّاس المترقّبة. تدلّى حبل المشنقة بحلقته التي لم يملأها الهواء تنتظر أن تملأ برقبة محمد أمقران...
بانت عقدة غير مربوطة بإحكام ممّا يدلّ على أنّها تنتظر رقبة المحكوم عليه بالإعدام.
وصل لويس بعد لحظات و معه محمد أمقران يتبعه الجند و هو معصّب العينين ؛ كان ذلك أكثر ما يدلّ على شفقة جلاّده لأنّه لن يدعه يرى الموت. و لكن من قال بأنّ ألم الموت يرى بالعينين ؟ !. صعد الرّجل إلى المنصّة فطلب من جلاّده أن يزيح الرّداء عن عينيه. فلبىّ له الطّلب ليس عطفا عليه بل أراد أن يعمّق فيه الحزن حين يشاهد وجه أمّه العجوز و قد اختمر عليه الأسى إلى درجة لا يقدر أحد النّظر إلى ذلك الوجه البائس لعجوز تشاهد لحظات إعدام ابنها. أبطأ لويس في تنفيد عقوبة الإعدام لأنّه أراد أن يعرّفه ما معنى أن ينظر الرّجل من أعلى منصّة الإعدام إلى أهله الذين لحقت بهم الفاجعة ... أراد أن يلّخص له مفهوم المعاناة في تلك اللّحظات ؛ تلك اللّحظات التّي يكون فيها في مواجهة الموت أو ربمّا الموت هوّ الذّي يكون في مواجهته لأنّه الأقوى . صعد لويس إلى محمّد أمقران فعلّق إلى رقبته لافتة كتب عليها ما قرأه على الحاضرين. قرأ على مسامعهم بأنّ عقوبة الإعدام ستنفّذ عليه بسبب التّمرّد على أمّة حقوق الإنسان.؟ ! قرأ ما كتبه كي يضمن بأنّ الكلّ سيعلم بالسّبب المفتعل لعقوبة الإعدام ؛ عدل لويس قامته و بدا يقرأ :
- سوف يعدم محمّد أمقران لأنّه لا يريد التّضحية من أجل وطنه ؛ و هذا هو مصير من يتوقون للعبوديّة، هذا مصير أعداء الحريّة؛ لأنّه لا يتميّز بروح وطنية عالية فلو كان كذلك لأذعن للتّجنيد من أجل استقلال الجزائر...!؟ "
كان محمد أمقران ينظر إلى النّاس فرأى الحسرة هي المنتصر الأكبر في تلك الأجواء السّوداوية. كان لويس يتلو قرار الإعدام و كان محمد أمقران يردّد و من بعده يردّد النّاس :
- لا اله الا الله محمد رسول الله ...
و تعالت الزّغاريد لكنّها زغاريد تختلف عن زغاريد الفرح ؛ أنّها أقدس من تلك التي تنطلق في الأعراس فلا عرس أفضل و أقدس من عرس الشّهيد .
صمت الجميع ...صمت الكلّ فيما بعد لأنّهم لا يمتلكون ما يعلّقون به على ما علّق إلى رقبة الرّجل. و من تكلّم اكتفى بترديد لعناته على الجلاّد. طلب محمّد أمقران من لويس أن يمهله حتّى يوجّه كلمة إلى الحضور إلاّ أنّ هذا الأخير رفض فراح الجميع يترقّّب تلقّف موضوع الحديث بينهما فمالوا أو كادوا يميلون إلى اعتقادهم بأنّ الرّجل سيقبل بقرار التّجنيد و سيعفو عنه الجلاّد. لكن محمّد أمقران لم يكن يريد أن ينقل سلطة العفو من أيدي الله كي يضعها في أيدي جلاّده. انّه يدرك جيدا بأنّ جلاده ينتمي إلى منظومة الاستعمار و الاستعمار أقل شأنا و أحقر من أن يتمتّع بأسمى سلوك اسمه العفو خاصّة و أنّ الرّجل لم يقتنع بأنّه ارتكب جريمة تستدعي منه أن يتحاور مع جلاّده لأنّ رفضه للتّجنيد الإجباري من أجل الدّفاع عن فرنسا مقابل استقلال الجزائر أمر لم يقتنع به مطلقا.
لاحظ النّاس اشتداد الاختلاف بين الضّحية وجلاّدها. و هما أصلا لم يتّفقا على شيء من ذي قبل. وصل حديثهما إلى مسامع الحضور الذي أدرك بأنّ الضّحية لا تتفاوض مع جلاّدها من أجل رقبتها بل من أجل لسانها.
أراد محمّد أمقران أن يتوجّه بحديث خاص إلى كلّ الحاضرين. أراد أن يشرح لهم دافعه إلى اختياره هذا؛ أراد أن يترك لهم قاموسا كلّه لام التّعليل. أراد أن يفرغ مستودعات أذهانهم من أدوات التّعجب و الاستفهام. تعالت أصوات القابلين بالتّجنيد أو بالأحرى الّذين أجبروا على القبول و هم يطالبون لويس بترك الرّجل ليقول ما يرغب قوله. ألحّ الكلّّ على ذلك بغضب اتّخذ منحى تصاعدي فجأة. خاف لويس من أن يكون رفض طلب الضّحية بمثابة مفتاح لباب التّمرد. هزّ رأسه مشيرا للجلاّد الملثّم بقبول طلب الرّجل. ابتسم محمد أمقران و بدت الفرحة الأخيرة على وجهه.
انتصب محمد أمقران مسويّا جسده بحسب ما يليق بطقوس إعدام الأبطال و بصوت لم تمتزج به علامات الخوف أو التردّد توجّه إلى الحضور و بالخاصّة إلى المجنّدين :
- أنا على يقين تام بأنّ النّاس سيختلفون في أمري فثمّة من يقترح ترك جسدي لتنهشه الذّئاب وحجّتهم في ذلك أنّني لست مؤمنا فحبّ الوطن من الإيمان و أنا لم أشأ أن أحبّ الجزائر بحسب املاءات فرنسا. و ثمّة منكم من يقترح دفني من دون غسل و لا كفن لأنّي سأعتبر شهيدا و الشّهداء تطهّرهم الملائكة. بقي أمر واحد يطمئنني و ذلك حين تعرفون بأنّ مصيري و مصيركم سيّان؛انتم المجنّدون إجباريّا سيكون جزاؤكم كمن يمنح له الغول الآمان فينام بجانبه و حين غفوته يستفيق ليأكله؛ أمّا أنا فمصيري كمصير من يرفض مجاورة الغول لأنّه لم يشأ تأجيل موته فالغول آكله و خير الموت عاجله.
حدّق محمّد أمقران في الوجوه الحزينة التّي هدّأت الأكذوبة السّحرية غضبها فأخذ ينبّه الجميع مؤكّدا لهم من جديد:
- عندما تكتشفون الأكذوبة ستتفّقون في شأني. و ستقولون لقد صدقت رؤياه فلنبن له ضريحا نجعله مزارا لأنّه كأولياء الله الصّالحين...لا تفكّروا في الألم الذي سيلحق بي. كونوا واثقين بأنّ الشّهادة ستخدّر مواضع الألم في جسدي. و ستكون كالبلسم الذي يضعه مداعبو الأفاعي فيتجنّبون آثار السمّ !.
أطلقت تركية زغاريد على مسامع ابنها كالتي ردّدتها يوم زواجه. وجثمت الجوهر على ركبتيها تغرس أصابها في التّراب حتى اختلط لونه مع لون الحناء، اعتصر الألم قلب طارق و هو يراها على تلك الحال تنشد لحن التّراب بلغة الوجع. أمّا أكلي فقد بقي تحت ذراع جدّته يبكي بصمت و يمسح دموعه إلى أكمام قميصه. تأمّل محمّد أمقران فيهم مليّا؛ لم يكن يرى في تلك اللّحظات سواهم ، إنّها لحظات أخيرة يعدها و سيختفي وجه أمه و كلّ عائلته عن بصره لكن ستبقى صورته هو عالقة في أذهانهم كلّما ما مرّوا على ذلك المكان الذي سيعدم فيه. تقدّمت تركية إلى ابنها و جثمت عند قدميه باكية؛ لم ينحن عندها ابنها بحسب ما يليق بطقوس إعدام الأبطال. أدركت تركية ما الذّي جعل ابنها يقف منتصب الهامة فقبلت أصابع قدمه و هي تقول له :
- لقد أسميتك محمّد أمقران تيمّنا بالحبيب محمّد عليه الصّلاة و السّلام و ألحقت اسم محمّد باسم " أمقران" لأنّه يوم ولدت ساورني شعور الأمومة بأنّك ستكون كبيرا و عظيما و آيّة عظمة يا ولدي أعظم من عظمة الشّهادة؟ !
ابتسم محمّد أمقران و هو ينظر إلى والدته و هو يقول ذلك أنّ عاطفة الحنين إلى حجر الأمّ قهرته:
- أمّاه أريد أن انحني إليك و اقبّل جبينك ...أريد أن أحسّ بأصابعك تلامس رأسي كما كنت تفعلين أيّام كنت صغيرا ...أريد يا أمّي أن تمرّري أصابعك فوق رأسي و تطوّقين رقبتي بذراعك...أريدك أن تفعلي ذلك كي تحسّ رقبتي بنعومة أصابعك تتفوّق على خشونة حبل المشنقة...أمّاه أريد أن أجثم على صدرك و أبكي كما طفل صغير و بعدها أقول لك كما رجل حكيم سامحيني لقد آذيتك باختياري هذا؛ سامحيني لقد كنت دوما أقول لك لا أمّ لي غيرك يا أمّاه ؛ لكن يا أمّاه لقد أصبحت الجزائر الأمّ التي فضّلتها عليك و أحببتها أكثر منك فسامحيني ..سامحيني.. سامحيني يا أمّاه ...
شدّت تركية على أصابع أقدام محمّد أمقران و كأنّها أرادت أن تهزّ وجدانه لأنّها لا تريده أن ينحني إليها مهما كانت الأسباب ، لم تشأ أن تراه ينحني و بالقرب منه جلاّده فهذا لا يليق بالأبطال أبدا.
- لا ؛ لا ؛ لا تنحني يا محمّد أمقران فالأبطال لا ينحنون و هم على منصّة الإعدام ... لا تنحني من أجلي يا محمّد عليك أن تبقى شامخ الهامة فالجزائر تستحقّ أن تقف من أجلها بطريقة تليق بمقامها و تسمو إلى قداستها ...يا ولدي أنت لم تلحق بي أيّ أذى بجعلك الجزائر أمّا قبلي و بعدي ...لقد قضيت عمري كلّه و أنا أعجن الطّين و قد علّمني هذا أن أحبّ هذه التّربة ؛ فلا تحزن يا ولدي ففي اللّحظة التّي تخرج منك الرّوح ستنشد لحن التربة التي سجدت لها الملائكة .
أزيحت المنصّة من تحت قدميه فضيّقت حلقة الحبل حول رقبته. و ردّد محمد أمقران :
- لا اله الا الله محمد رسول الله
ردد الحضور معه الشهادة بينما أطلقت النّسوة زغاريد تليق في لحنها و حدّتها مع طقوس الشّهادة.
سحب الجلاّد الملثّم المنصّة من تحت قدمي محمد أمقران ببطء. إنّه أراد أن يضمن احتضاره طويلا. هوى جسد الشّهيد كورقة ذابلة انتقم منها الغصن فشدّها من آخر أليافها. فلا هي ساقطة على الأرض. و لا هي باقية في الغصن. أتمّ الجلاّد مهمته فتسلّل إلى مركبته و هو مغطّى الرّأس.
ضمّت الجوهر أخاها ثمّ مسحت دموعه؛و لم تتمكّن من مسح الحزن الذي سبّبه اكتمال يتمهما على يد الغازي. لقد أصبحا يتيمي الأبوين. مسحت دموعه و هي تنصحه بأن يثق دائما بأنّ ما اختاره أبوهما نابع من حبّه لتلك الأرض. فعل ذلك ربّما لأنّه خاف من الموت في بلد بعيدة فيحرم من تربة أرضنا المقدّسة؟. انزل طارق الجثّة من الحبل بعدما قطع الحبل من وسطه فبقي الجانب العلوي يتدلىّ مع الرّياح لأنّ يده لم تصل إليه. طلب من الجوهر أن تحظر له فتيل نار كي يحرق آثار الرّعب. لكنّها أشارت إليه بترك ما تبقّى من الحبل معلّقا. فكّت حلقة الحبل الموثوق حول رقبة أبيها ثم لفّته في منديل أحمر. حمل الرّجال و هم يردّدون "لا إله إلا الله محمد رسول الله ". وصل الجميع إلى البيت فغُسل الشّهيد و خلّص من نجاسة أيدي جلاّده ثمّ كفّنوه كقطعة ذهب لفت في منديل حرير أبيض. توافد عليه النّاس فلم يروا عليه أيّة آثار للإعدام. كان منظره و هو على منصّة الإعدام مختلفاً تمامًا عمّا هو على النّعش. بدا مستلقيّا في نعشه بعد عناء طويل. و أيّ عناء يمكنه أن يكون أطول من عناء المحكوم عليه بالإعدام...
سار النّاس في الجنازة التي بدت كأنّها خاصّة بآخر أولياء العهد. انصرف كل إلى بيته و سيق المجنّدون إلى مراكز الشّرطة حيث سيتجّهون للقتال ضدّ الألمان لتخليص فرنسا المجرمة العاجزة من أجل استقلال موعود.
________________________________________
1- هو الرجل المتصوف عبد القادر الجيلالي .
التعليقات (0)