من قال إنها شفافة فقد كذب :
كنت أقدر أن أعضاء المكتب كلهم سيكونون هناك ، يقومون بتجهيز مكتب التصويت على الشكل الذي شرحته لهم البارحة . كنت أعلم علم اليقين أن اليوم سيمر على ما يرام . لن يكون هناك أي اعتراض يذكر من طرف هؤلاء الشيوخ الثلاثة ، والذين لم تكن لي يد في اختيارهم لمساعدتي . إنها رغبة السلطة المحترمة وتقديراتها الجيدة .
استقبلني أحد الأعضاء ، والأصغر سنا ، كما جاء في مذكرة السلطة . مثلما استقبل ممثلي الأحزاب السياسية المتنافسة ، وقد توافدوا على ذلك المكتب في ذلك اليوم ، كي يراقبوا عملية التصويت . لم يعد يجمعني بهم سوى الصمت والنظرات المتبادلة . لقد جاءوا من شتى الأنحاء والحواضر ، يحملون وجوها صارمة وقلوبا مليئة بالرغبة في الاعتراض وإبداء الملاحظات تلو الأخرى .
كانت الساعة تقترب من الثامنة صباحا ، موعد افتتاح عملية التصويت ، لم يسمح لي الوقت ، ولا جدية الأشخاص المتواجدين بنفس المكان ، بالتعرف على كل واحد منهم على حدة . ولكني وباللقطة الخاطفة أخذت قرارات التعيين من كل واحد منهم ، وقارنتها مع النسخ المتواجدة معي . تمكنت من معرفة توجهات كل شخص بينهم ، والحزب السياسي الذي يمثله كل واحد . أمعنت النظر في الأعضاء الثلاثة بجانبي . نظراتهم الشائخة ، تجاعيد وجوههم العميقة ، كأنها أخاديد رسمت بفعل عاصفة هوجاء .
كانت رغبتي العميقة في مرور هذا اليوم على أحسن ما يرام ، دون مشاكل واعتراضات ، كما جاء في كلام ممثل السلطة عندما قال لنا : " يجب أن ترجعوا هذه المحاضر نظيفة وخالية من الملاحظات ، فهو أفضل لكم جميعا ، حاولوا أن تحلوا كل مشكل اعترضكم بالتراضي " . ظلت هذه العبارة منقوشة بخاطري ، لم يطفئها مرور الساعات بجانب زوجتي .
سحبت نظراتي من وجوههم بسرعة ، وأنا أتمتم الكلام الذي يقال في مثل هذه المناسبات . ثم تابعت عملي وفتحت السجلات أمامي ، منحت نسخة لنائبي ، حيث جلس بجانبي ، وأخذت الأخرى ألقي نظرة على المعلومات المسجلة فيها .
صاحت ساعة المنبه المعلقة على الحائط ، تعلن عن الساعة الثامنة ، وكررت صياحها مرات ومرات حتى وصلت ثمان صيحات . ألقيت بالسجل جانبا ، سميت الله الرحمان الرحيم إعلانا بفتح عملية التصويت . أخرج الممثلون الأربعة أوراقا بيضاء ، وانهمكوا في تسجيل بعض العبارات ، حاولت أن أقول شيئا ، لكن الكلام دشن سدا منيعا على صفحة لساني الطرية ، واخرسني دفعة واحدة ، دون عدل وحكمة .
تذكرت وأنا أمسك يد عجوز ، وأضعها في الحبر ، لوضع بصمتها أمام اسمها ورقم بطاقتها لتكتمل العملية . تذكرت أمي وهي تمنحني يدها لتقبيلها كل صباح ، اليد الرقيقة التي اشتقت إليها ، واشتقت لطبيخها . لم يكتمل الحلم الرائع إلى النهاية المرغوبة . محاه صوت شخص يعلن إصراراه على التصويت رغم عدم وجود بطاقة له ، وعدم تسجيله في سجل الناخبين . كان صوته هذا إعلانا عن رغبة في إظهار كبريائي ، ورغبة مدفونة في إشهار رئاستي للمكان ، وأن القرقر يعود إلي ، وإلي فقط ، دون تدخل من أحد .
حاولت أن أجد التبريرات الممكنة ، لأوضح فعلا ما ، لكنني صمت ، شعرت بالضيق يتسلل إلي ، وكان الجو خانقا ، والمكان مظلما ، والنوافذ كلها مغلقة . فكرت أنني تسرعت في قبول هذه المسؤولية الصعبة ، دون تفكير ونظر . رحت أفكر وأعيد التفكير في إلحاح الشخص الذي كان غريبا وشديدا ، هل منعته من حق وواجب ؟ أم هي المسؤولية التي أقعدتني فراش الضمير والصرامة ؟ .
رحت على نحو غريب أنتقص من مسؤوليتي هذه ، وتمنيت أن أخبيء وجهي تحت وسادة خشنة في تلك اللحظة ، وأفكر الآن ، كيف أنني تجاهلت حقا وواجبا منذ اللحظة الأولى ؟ .
همس لي نائبي وسط الضوضاء وحديث الأشخاص المزعج ، أن ذلك الشخص الذي طردته ، يتوعدني ويهدد بقتلي بعد مغادرتي هذا الفضاء اللعين . عدت إلى عملي وأنا لا أدري ماذا علي أن أفعل بالضبط ، ووجدتني أفكر وأردد كلمات كسيحة . ثم ألقي بجسدي وبظهري على الكرسي . ليبدأ من جديد سكون طويل بين الموجودين بالمكان . وعلى نحو غريب وقصد بعيد التفكير شعرت بالرغبة في بقائي بهذا المكان دون أن أغادر حتى تأتي السلطة ...
ترجلت ، نهضت من مكاني ، توجهت إلى خارج المكتب ، انعطفت ، ملت إلى جانب خفي وراء الباب ، أرقب ماذا يقع بالخارج ، نساء كثيرات مجتمعات يناقشن بطاقات بعضهن . رجال وشبان يتراشقون ويتضاحكون ولا يبالون بأي أحد . أطفال صغار متسمرون في مكانهم . الشخص الذي كان يهددني لا يوجد بين هؤلاء . ندت عن ثغري ابتسامة وجهتها إلى الرجال والشبان المجتمعين . أردفتها بتحية الإسلام . لم أتراجع إلى الداخل ، بل هبطت درج المبنى وفي قلبي رعشة غريبة تكاد تخلع فؤادي من فضائه .
انتظرت أن يلتفت إلى وجهة أخرى ، ويكلم أحدا ما بجانبه . ولكنه لم يفعل ! حاولت أن أستدرجه إلى التفكير معي في حل هذه الإشكالية دون أن يعرف أي أحد من الحاضرين . وفكرت أن هذا أول مشكل يمكن أن يقع فيه من هو في وضعي ، فرحت أحسب الأوراق الباطلة من جديد ، وأنا أنظر في وجوه الممثلين الغريبة والذين مافتئوا ينظرون إلي ويراقبوا العملية بكل جدية ، ويتابعون تحركاتي وعملياتي الحسابية . كان هذا طوق الاختناق الذي صنعته السلطة لي ، هي بالطبع بارعة في هذه الحرفة .
تناسيت أمر عدوي الذي ظل خياله يلاحقني طول النهار ، وانهمكت في حساب المردودية التافهة لذلك اليوم . أوراق قد رسمت عليها حيوانات وأشباح شبه عارية . ألوان منتقاة حسب طبيعة تفكير كل وكيل . علامات متشابهة في وضعها بين كل المصوتين . خرطشات بارعة في التعبير وإبداء الرأي ، تقفز وتنط من مكان شاهق تريد الانتحار على مرأىً من أعين المترشحين .
انطفأ نور الكهرباء ، أظلمت الدنيا من جديد حولنا ، وسمعت ضحكات متتالية مختلفة النبرات ، كنت قد جمعت الحصيلة في الصندوق الزجاجي الشفاف ، وأغلقته بإحكام . وسط دهشة الحاضرين فتحت الباب وأعلنت عن نهاية يومي بخير وسلام . كنت أعتصر الدماء ، أفترش الهواء الشقي المتبقي داخل المكان . أستحوذ عليه بقوة ، بصفتي رئيسا للمكتب ...
على العموم من قال إنها شفافة فقد كذب .... !!
عزيز العرباوي
كاتب مغربي
التعليقات (0)