من فضلكم! لماذا؟
القلوب التي لا تفهم وجودها ظاهرا كما في الباطن هي شذرات من علوم تولد مع الفرد المقدّس، و تنتهي إلى العودة لأصلها كلما تصاعد الاستحقاق في عيون المحاربين، هؤلاء الذين يحاولون حفظ ما بقي من الإنسانية، و يدفعون في لقاء هذا ما جرح أنبوب العمق بين الكثير من الأسباب و الغايات و طرقها الضعيفة منها أو الجائرة و المزمجرة.
فالحيرة ليست هباء كما نفهمها لأوّل وهلة نصادفها فيها، و إنما هي العبث القائم منذ اختار البشر أن يكون بشرا، و من هذا تظهر لنا على أنها مولود جديد في كل لحظة من أعمارنا الطويلة، فهي لا تقيم معنـــا، و لكنها تلازمنا كلما اقتربنا من حذفنا، لأنها القدر و لكن بالثوب الأبيض، بحيث أنها تلوّن الأحلام بكل الألوان، و تحدث صاحبها بلغات العالم من دون كلام.
فمن الممكن أن يكون بالمكان إمكان على سبيل الممكن و الممكَّن، و هذا ما جعل الإمكان بحد ذاته نوعا من إقامة المكان المادي أو المعنوي على حسب رغبات الممكِّن، و عليه تقودنا هذه العملية الذهنية البسيطة إلى إرجاع أكبر قدر من الأعذار إلى حجج ساسها الممكٍّنون، حتى تظهر الإمكانية من الاستحالة بمكان أمام الطامحين في التمكين.
"…. يسبقني غدٌ ماضٍ. أَنا مَلِكُ الصدى.
لا عَرْشَ لي إلاَّ الهوامش. و الطريقُ
هو الطريقةُ. رُبَّما نَسِيَ الأوائلُ وَصْفَ
شيء ما ’ أُحرِّكُ فيه ذاكرةً وحسّا…."
محمود درويش
فالجديد في كل هذا أنّ الإنسان يحاول جاهدا أن يقرب الماضي مما يريده في المستقبل، إلاّ أنّ القيام بهذه الخطوة ينتج جورا للحكم من بداية التفكير فيها، و خاصة أنّ المقصود بها هي اكتشاف ما يحبّ العالم أن يمرّ على الإنسان مرّ الأعمى على ساقية الذهب.
حتى أنّ القياس في مجارات الأمور هو بدون نفع و لو وضع في سراديب الأحقاد، و مع هذا لا يمكن الأخذ به على أنه قياس من أجل القياس فقط، و إنما له حدودا أخرى لا يفهمها الجهلة الذين لا يدركون بأنهم جهلة.
فتطابق الصورة لمقصودها هو من الرجاحة الصعبة، و لكن من يقدر عليها يكون قد وعى عاهته، و احتفظ بها كزاد في مخزن الظلام الفرديّ.
فوجاهة الواجهة هي من عبقريات العلماء ذو اللون الشفاف، و لكن عبر سلوكيات زئبقية، و هذا ما جعل من الفهم الجديد ضرورة، لمن أدركـ معنى الحاجة إلى ذلك، فالطريقة لا تهمّ المُريد، و لكن المهمّ في خلفيات اعتقاداته، كمــــا هو في اعتقادي هو: القدرة على الوقوف على النقص و تداركه، كلّ على حسب ما هو موفّر لديه.
قد تحوّلنا مصالحنا إلى مجرمين، تأخذ منـا أعزّ ما يحبه الإنسان، ألا و هي: الرحــــمة، لتصنع منه سفاحا لبقا ، و دون تعسّف الإطناب يتحوّل إلى قاتل فاتن، فأية نجوى تريد منا أن نـقود البشر إلى الهلاك، و إن كان هذا هو مصيره، فليكن ‼ و لكن لنقوده إليه بفـرح.
"…. شيء مدهش أن يصل الإنسان بخيبته وفجائعه حد الرقص! إنه تميز في الهزائم أيضا، فليست كل الهزائم في متناول الجميع….."
أحلام مستغانمي
ليس مهمّا أن نسرع، و لكن المهم أن نسير، و على هذا الأساس نكوّن ما نريد، و وقتما نشاء، و عليه يكون العامل الذي يدفع بنفسه إلى بذل الجهد عاملا لا يندم عن كل ما يقدم و لو بلا نفع شخصيّ، فالدنيــــا لا تشدّ على أيادي الخاملين، و لا تدوم للعاملين الظالمين، و بين هذا و ذاك، تظهر المبادئ بوضوح، فمن لا مبدأ له، لا حياة له، و من يتخلى عن معركة البقاء، فهو حتما يتخلى عن نفسه بشكل مباشر، فعالم المشاعر هو أوّل المحطمين لعالم القوّة، و هما ضدان لا يلتقيان على مسرح الواقـع، لكننــــا لا نعيش إلاّ ما هو حاصل، لدى دعونا من التفكير في الذي هو بعيد عن الحصول.
لكل فرد من البشر عمق يصله إن هو احتاج إلى مكان يشعر فيه بالأمان، و لكل زاوية نحددها نحن الإنسانيين لها معناها و مقصودها إضافة إلى طريقها الرائع و الجميل، فالكثير من الأمور تضيع بين حديث القلم و الورقة، و مع هذا تبقى كلمات قشرة المحارة حاضرة دائما، و تستعيد بريقها كلما زاد أنين البشر.
"…. البعض جثَّة راقدة ..... فمن منكم يريد أن يكون قبراً لها؟…."
جبران خليل جبران
هذا هو المنطق الذي يسود الآن في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيـــا منذ سقوط دولة الموحدين، و كأنّ أمير نيويورك تفطن لها منذ زمن بعيد، إنه الواقع الذي يصطدم به أوّل و آخر طفل يولد في هذه المناطق دون إرادته، و لو خيّر ما أظن أحدا سيختار أن يولد بين شعوب لا تعي أنها شعوبا حقا، و بين أفراد استقالوا بشكل غريب من الحياة كلها، فعلى الهوامش يسير الطريق التاريخي لمن وجد ذاته بين ذئاب العيش، و هشاشة العبقرية مهما بلغت، و زبالة الفكر، و سمّ التفكير. و على الزاوية أن تحمي الطيور التي هربت إلى المجهول، لا لأنها أضاعت سبيلها، و لكن لأنها تيقنت أنّ المجهول الصافي أفضل بكثير من واقع متعفن، أن تحمي براءة هذه المخلوقات الضعيفة و الجميلة.
لا يمكن أن تسوي التاريخ بالتراب، و لا يمكن أن نغلق الباب في وجوه البشر و الأحباب، فمهما فعلنا فالأيام لها حكاياتها و ظروفها، و للبشر القرار الحاسم في مواضيع الوجود، هذا ما أثبتته الأمة الأميركية للعالم، وهذا ما علينـــا أن نثبته لأنفسنا نحن أيضا.
ليس عيبا أن نقيم تصوراتنا الخاصة عبر مراحل، لنحولها بتطور البحث إلى مواقع فكرية لنا، فتميّزنا على ما هو موجود و قائم في الساحة الفلسفية و العلمية، و لكن علينا أن نجتهد أكثر، لأنّ إقامة أيّ موقع فكريّ له أصوله، و أدواته، كما أنّه يتحدث لغة سليمة التركيب و الأداء.
و عليه بإمكاني أن أشير إلى نقطة هامة، تتخذها النخبة الجزائرية، و مع الأسف في القرن الواحد و العشرين مرجعية لتفكيرها، ألا و هي "الاحتكار"، و هنا أغتنم الفرصة لأوجه كلامي إلى المحسوبين على الثقافة في جزائر الألفية الثالثة من التأريخ الميلادي: يا قوم الفلسفة و الثقافة و الحكمة كما تدعون، قد تحتكرون الأفكار ربما في اعتقادكم، لكن إن وجد مستحيل، فمستحيل أن تحتكروا آليات التفكير، حالكم اليوم كما جاء في الكتاب المقدّس: "….قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس احد يأتي إلى الأب إلا بي. " لدى أنا أنصحكم بأن تعيدوا التفكير في آليات تفكيركم، لأنّ كلّ أوراقكم أصبحت مكشوفة اليوم قبل الغد. و ما ينطبق على الجزائريين الجدد، ينطبق أيضا على العرب الجدد، فكرة بفكرة. فالألم يزول، و النساء سيختلين عنكم، لكن المجد يدوم إلى الأبد.
يا أيّها الروميّ خذني معك، لا تتركني مع بني جلدتي، لقد أقبروني في حياتي، و لقد نكلوا بفكري و أنا موجود أمامهم و بين أظهرهم، لقد كان لي معهم تعاملا، و لقد كان لي معهم شايا و ملحا، و على الرغم من هذا كله، لقد غدروا بي، و طعنوني بخنجر ذا ثمانية رؤوس، ليصيبني في صميم فكرتي، فلــن يبقى عقلي معهم، و لو بقي الجسد سجين حكاياتهم التي تقتل الشرف و الرجولة و الكرامة و الإنسانية في الإنسان، لــــن يبقى عقلي سجينهم.
لا تقلقوا عليّ! فأنـا أعلم أنّ الحياة قاسية، و مع هذا أنا أملك المفتاح في قلبي، و وجدت الراحة في أعماقي، لأنني ولدت لأكافح، ففقدان جزء من الأمل لا يعني نهاية الحياة، لأنها أكبـــر بكثير. لدى أرجوكم! ابتسموا من أجلـي.
التعليقات (0)