يُؤشّر الجدل الدّائر في فرنسا حول قانون إصلاح نظام التقاعد إلى الانخراط في لعبة "لَيّ الأذرع بين اليمين الفرنسي ممثّلا في رئيس الجمهوريّة نيكولا ساركوزي،من جهة،وبين النّقابات تسندها المعارضة الاشتراكيّة واليسارية،عموما،من جهة أخرى.وتتأكّد التّعبئة المناهضة للحكومة الفرنسيّة يوما بعد آخر بحجّة رفض هذا الإصلاح المزعوم إذ استطاعت المسيرات التي احتلّت شوارع باريس وسائر أنحاء فرنسا أن تُقنع بعودة الحرارة إلى الشارع الفرنسي،وهو الشارع الذي تميّز تقليديّا بحيويّته ذات نكهة خاصة كلّما تعلّقت همّته بترجمة موقفه من القضايا التي يعتبرها حسّاسة وذات تأثير بالغ على مصالحه أو مبادئه...
والحقيقة أنّ ما يشدّ الاهتمام لدى المتابع العربيّ بالخصوص في التّظاهرات الاحتجاجيّة الحاشدة الفرنسيّة هو:
- الوقوف على مشهد من مشاهد الممارسة الديمقراطية وحرّيّة التعبير التي ينعم بها المواطن في الدّول التي تحكمها قوانين وتقاليد الرّأي والرّأي المخالف، أي تلك التي تُمارس الديمقراطيّة بعفويّة دون حاجة إلى ادّعائها.
-الوعي،لدى طرفي النّزاع على حدّ السواء،أنّ الاحتكام إلى الشارع لا يعني الفوضى والإخلال بالأمن العام والمسّ من هيبة الدّولة...وهيبة الدّولة هي مؤسساتها لا الأشخاص القائمون عليها مهما علا شأنهم في سُلّم الرّتب. أمن المواطن الفرنسي يحتلّ الصّدارة في اهتمامات الحكومة كما في اهتمامات عامّة الناس،لا يجوز التّلاعب به أو الالتفاف عليه من أيّ طرف،أكان حاكما أو محكوما...وأحسب أنّ الرّئيس ساركوزي لمّا تعمّد الإساءة للمهاجرين بتهديدهم بسحب الجنسيّة الفرنسيّة منهم اختار العزف على الوتر الحسّاس لدى الفرنسي بإعلانه أنّ الجنسيّة تُسحب في صورة قتل شرطيّ،أيْ نعم قتل شرطيّ...ذلك أنّ هذا الأخير الذي لا يعدو أن يكون مواطنا فرنسيا عاديا يتحوّل بحكم تقلّده صفة عون الأمن وارتدائه للبُدْلة الأمنيّة إلى حارس لأمن المواطن ورمز لهيبة الدولة،لا بحكم قوّة القانون فحسب،بل أساسا بحكم القناعة الحاصلة لدى المواطن الفرنسي بأنّ الشرطيّ يحمي البريء من المجرم ويبعث في نفسه الاطمئنان ويُعزّز لديه التّمتّع بحرّيّته التي كفلها له القانون.وشرط الشعور بالأمن والطّمأنينة لدى الإنسان عموما،ولدى المواطن الذي ينعم بالحرّيّة والكرامة،خصوصا،يتقدّم كأولويّة على سواه،فلا شيء أهمّ من الأمن،فهو مكسب لا يُمكن التّفريط فيه تحت أيّ ذريعة...ولذات السبب عرف ساركوزي بدهائه "من أين تُؤكل الكتف" فاختار التلويح بسحب الجنسية الفرنسية من المهاجرين في صورة قتلهم لـ"الأمن الفرنسي"...
-لا يعني أنّ الفرنسيين إذا ما احتكموا للشارع و"هاجوا وماجوا" وسكروا حتّى الثّمالة لا يقعون في المحظور ولا يرتكبون حماقات تُخلّ بالأمن العام،إذ غالبا ما يحدث هذا،وأحيانا يبلغ الحال إلى ما يُمكن أن نُسمّيَه بالعصيان المدني.لكنّه عصيانٌ لا يُستَعمل غطاءً لإعطاء الأوامر إلى أعوان الأمن والجندرمة وحتى الجيش لتصويب بنادقهم وجهة صدور المتظاهرين الهائجين وقتلهم،بندقيّة عون الأمن مُحرّم عليها أن تقتُل المواطن حتى وهو يتوعّد ساركوزي بالإطاحة به ويسُبّه ويلعنه،حتّى وهو في حالة هيجان قصوى يُزمجر ويُعربد.ومن ذات هذه التقاليد لا تنجم،غالبا،عن التظاهرات الهادرة والعنيفة أضرار بشريّة،وإنْ حدث ذلك نادرا فغالبا ما تكون الأضرار البليغة المسجّلة،في مثل هذه الأوضاع المتشنّجة،في صفوف أعوان الأمن أكثر منها في صفوف المتظاهرين "المسعورين".فالغاية في المحصّلة هي السيطرة على الإخلال بالأمن العام بلا أضرار،وفي أسوإ الحالات بأخفّها،خصوصا على مستوى الضحايا البشريّة.
-لا يجب أن نغفل أنّ المسيرات الحاشدة التي شهدتها فرنسا،وما تزال مرشّحة للتّواصل وتزايد عدد المنخرطين فيها(كما وعدتْ بذلك المنظمات النقابية)،يتزامن توقيتها تقريبا مع هاجس الخوف من احتمال وقوع عمليّات إرهابية تُهدّد الأمن الفرنسي،وهذا يعني-من وجهة واقع الحال في العديد من الدّول العربيّة أنّ الوضع يستوجب حظر التظاهر والمسيرات إن لم نقل فرض حالة طوارئ وتعطيل العمل بالقوانين التي تضمن حرّيّة المواطن،وهذا ما لم يتجرّأ على فعله ساركوزي أو مجرّد التفكير فيه،لأنّه ببساطة لا يقدر على ذلك،وهو ما يُثير دهشتنا...
يبقى تساؤل أراه وجيها في قضيّة الحال التي أدّتْ إلى تجنيد مئات الآلاف من الفرنسيين،إن لم نقل الملايين-خصوصا وأنّ استطلاعات الرّأي تفيد أنّ غالبيّة ترفض قانون الترفيع في سنّ التقاعد-هذا التّساؤل مفاده:لماذا هذا الرّفض والحال أنّ الواقع في الكثير من الدّول العربية يُدلّل على أنّ العكس هو المنشود،عموما.بل إنّ عدد المتشبّثين بالعمل مدى الحياة في تزايد لدى من علت رتبهم وجاههم ؟..
قد تكون الإجابة مقنعة بالقول أنّ الفرنسيين يتمتّعون بنظام اجتماعي متطوّر يكفل لهم حياة كريمة لدى إحالتهم على التقاعد،وهذا الأخير مدلولا لفظيّا وواقعا معاشا يعني التفرّغ لحياة جديدة مجالاتها رحبة ومُتعها كثيرة،وهو غير الحال في جلّ البلدان العربيّة...
إلاّ أنّ قضيّة أخرى أراها أكثر إلحاحا في العبرة من رفض الترفيع في سنّ التّقاعد لدى الفرنسيين بالنّظر في الأسباب التي دعت الحكومة إلى اعتماد هذا الإصلاح،إذ هي أسباب تبدو مبرّرة بالأزمة الاقتصادية وبالخطر الذي يتهدّد الصناديق التي تضمن معاش المتقاعدين وبارتفاع معدّل الأمل في الحياة وانخرام التوازن في الهرم السكاني بارتفاع نسبة المسنّين.وإذا كان الأرجح أنّ الفرنسيين يُدركون هذه الحقائق فإنّ ثمّة ما يُحيّر...
قد تذهب التحاليل إلى تفسيرات وتأويلات وتخمينات شتّى،لكني أميل إلى الظّنّ أنّ شعوب الدّول المتقدّمة،ومن أكثرها تأصّلا في الحضارة الحديثة الشعب الفرنسي،لم تعد مستعدّة للتضحية،يبدو أنّه أضحى لا يعنيها إلا ما يُعزّز رفاهيّتها،وما على حكومتها إلاّ أن تتدبّر الأمر حتى إن كان على حساب المستضعفين في العالم.
أرجو، صادقا، أن أكون مخطئا في ظنّي.
التعليقات (0)