في كل الأحداث التاريخية لا يكتمل المشهد إلا داخل إطار زماني و مكاني محدد. و قد تكون سنة 2011 واحدة من أكثر السنوات المثيرة في تاريخ العصر الحديث، على الأقل بالنسبة لأبناء هذه المنطقة التي تسمى مجازا " بلاد العرب". هذه المكانة الكبيرة التي قد تتخذها هذه السنة " الثورية " في التاريخ المستقبلي كتبها محمد البوعزيزي، من حيث لا يدري، عندما أحرق نفسه في سيدي بوزيد. و من سيدي بوزيد تحديدا ابتدأت سيرة لم تكتمل بعد لأماكن انطلقت منها شرارات الغضب و الثورة.
الجميل في قصة سيدي بوزيد أنها بلدة صغيرة لقيت كل أشكال التهميش و اللامبالاة من طرف مسؤولي نظام بن علي خلال سنوات طويلة. لكنها تحولت في رمشة عين إلى " أشهر من نار على علم ". هكذا حول أبناء هذه البلدة مساءاتها الحزينة و الكئيبة إلى زغاريد تنشد الفرح و تصدح بحياة الشعب. و عندما يريد الشعب الحياة فلابد أن يستجيب القدر. تحولت سيدي بوزيد إلى مركز يحتضن الثورة و يقدم أبناءه فداء للوطن. و بعد ذلك تسلمت مدن أخرى مشعل الغضب التونسي العارم الذي أثبت أن نظام بن علي أوهن من بيت العنكبوت. و بذلك قدمت الحالة التونسية نموذجا فريدا من نوعه في كل شيء: في السبق الثوري أولا و في طبيعة المد الشعبي الذي رفع سقف مطالبه بسرعة قياسية لم تكن لتذكر على بال أي أحد و لو على سبيل الدعابة حتى وقت قريب جدا. لكن أكثر ما يثير الإنتباه في ثورة تونس أنها لم تنطلق ( كما يفترض أن يكون ) من المدن الكبرى مثلما حدث في مصر و اليمن و ليبيا مثلا. هناك في بلاد قرطاج تغلب الهامش على المركز و أخذ منه مركز القرار الثوري إلى حين. فكانت مدينة سيدي بوزيد الصغيرة إعجازا حقيقيا في التاريخ الحديث لمنطقة شمال إفريقيا و الشرق الأوسط.
هذا الإعجاز التونسي يصنعه هذه الأيام أبناء " سيدي بوزيد " السورية. إنها ثورة درعا التي خطفت كل الأنظار، و استولت على كل العناوين رغم التعتيم الإعلامي الشديد الذي يفرضه النظام السوري. هذه المدينة الصغيرة قدمت حتى الآن دروسا في الفداء و الصمود و رفض الذل و الهوان. و كلما اشتدت آلة القمع و القتل الممزوجة بوعود معسولة يطلقها بشار الأسد و وزراؤه، يصر أبناء درعا الصامدة على التحدي و يقدمون مزيدا من الشهداء فداء لسوريا و رغبة في الإنعتاق و التحرر. هنا أيضا تحول الهامش إلى مركز للثورة. فلا صوت يعلو على صوت الغضب في درعا. و أصبح أكثر ما يؤرق النظام السوري هو هذا العصيان الشعبي الذي أبداه أبناء درعا البسطاء، الذين يواجهون الرصاص بصدور عارية و هتافات لا تستكين. هكذا يفعل الهامش فعله في المشهد السوري، ويتحول إلى أيقونة للثورة و الإنتفاضة التي امتدت إلى باقي المدن السورية. هكذا يعجز النظام الحاكم الذي فرض الأمر الواقع ( بالأشكال ذاتها التي يفقهها النظام السياسي العربي جيدا) عن تكميم أفواه شباب درعا المطالبين بتغيير حقيقي يحول الأقوال إلى أفعال...
إذا كانت سيدي بوزيد قد أطلقت شرارة الثورة في تونس و المنطقة بأكملها، فإن درعا قد تتحول إلى بنغازي جديدة على الطريقة السورية إذا تواصل مسلسل الأذن الطينية التي يستمع بها " البعث " الحاكم لمطالب الشعب. و في انتظار الآتي ستبقى درعا واحدة من مدن الثورة التي تصنع ربيع الشعوب في سيرة الأماكن الثورية. محمد مغوتي.25/04/2011.
التعليقات (0)