في صيف العام 1982
تناولت بيروت طرف ثيابها المحترقة بنيران البارود .. لتكفكف دموعها السخينة..
وتطوي جناحها على خرائب برج البراجنة لتمسحه وتضمه إلى صدرها ..
وتدثرت بالليل تلعق جراحها الأليمة..
بينما بقي بعيداً عن صدرها مخيمان لا يزالان يعلقان بمخالب جيش الدفاع الاسرائيلي ..
مخيمان بقيا يعانيان برودة الأسر ..ووحشة الحصار.. ورقابة جيش يمنع حتى الهواء أن يدخل أو يخرج إلا بتصريح صهيوني ممهور بالدم !!
كان وعداً أمريكياً لمنظمة التحرير بخروج الفدائيين الفلسطينيين من بيروت مع التعهد الأمريكي التام بضمان الحماية الكاملة لسكان المخيمات من اللاجئين العزل ..
وعلى هذا الوعد خرج الفدائيون .. وعلى هذا العهد اطمأن اللاجئون ..
وفي ليلة الخميس السادس عشر من أيلول ..
هل تذكرون "أيلول "؟؟؟؟؟
نعم هو ....." أيلول الأسود"
في تلك الليلة الحالكة الظلمة ..
نام اللاجئون المبعدون عن بلادهم وأبنائهم بالقهر وبالترويع وبالقتل وبالتنكيل وبالإرهاب وبالمطاردة ولاذوا بمخيمات من القماش ومن الحجارة المغموسة بمرارة التشتيت.. وفظاعة الحرمان.. وقسوة الغربة ..
في تلك الليلة نام اللاجئون متراصين .. ليكفيهم الغطاء .. وبعضهم نام مفترشا الأرض وملتحفا بالسماء !!!!..
ودون أن يشعروا...
تسللت سيارات نقل إلى داخل مخيمي " صابرا و شاتيلا" ..دخلت السيارات إلى المخيمين..
كانت سيارات نقل تقل جماعات من جنود الكتائب و جنود سعد حداد ، قادمين من خلف الخطوط الإسرائيلية إلى منطقة تجمع كانت إسرائيل قد جهزتها .
وسلكت سيارات النقل هذه خطوط سير مرسومة و محددة بعناية .
قد ظهر أن الكتائب قد جئ بهم بشكل أساسي من "لواء الدامور "، الذي كان يعمل خلف الخطوط الإسرائيلية منذ حزيران 1982 .
وتتكون هذه الوحدات من " بعض أشد العناصر تطرفاً في الميليشيا المسيحية " و " لها سجل موثق جداً من الفظاعات ضد المدنيين الفلسطينيين "، لكونها قادمة من قرى عانت ثأر منظمة التحرر القاسي للمذابح التي كان حزب الكتائب قد ارتكبها في العام 1976 .
وأما ميليشيا حداد فهي " مندمجة فعلياً بالجيش الإسرائيلي وتعمل بإمرته بشكل كامل " ...
أرسلت القوات التى عبأتها إسرائيل إلى المخيمين " الأعزلين من أجل مسحهما ( تطهيرهما ) "، وتنظيف أعشاش الإرهابيين" ( بحسب قول شارون ) .
ولم يكن يصعب على أي شخص يمتلك الحد الأدنى من المعرفة بالظروف المحيطة تخيل ما سيحدث بحق لاجئين عزل..
مدنيون... محاصرون ....لايستطيعون أن يتحركوا إلا داخل أنفسهم ..
لايستطيعون السير إلا في أحلامهم .. لايستطيعون العيش إلا في خيالاتهم ..
وعدا ذلك...
فهم لاجئون محاصرون في مخيمين يحملان اسم " صابرا وشاتيلا"
في تلك الليلة الظلماء ..
أنارت الكشافات الصهيونية القوية أرجاء المخيمين .. وكشفت ستر النائمين .. وأيقظتهم مذعورين .. استشعروا أن شيئا ما على وشك الحدوث .. أحيط بهم من كافة الاتجاهات ..
صاروا كمثل الدجاج ينتفض للخروج من الحظيرة بلا جدوى ..
باب الحظيرة مغلق ... والحظيرة مغطاة بالأسلاك ..
وهنا بدأت المذبحة ..
بدأ التقتيل بلا هوادة .. وبلا تمييز بين طفل أو شيخ أو سيدة ..
كان اللاجئون عزلاً من كل شيء إلا من الصراخ ..
يصرخون في فضاء الليل فلا يجيبهم إلا صدى صراخهم وعويلهم ..
يحاولون الاختباء في قلب الظلام .. فتطاردهم كشافات الصهاينة الجبارة لتكشفهم وتظهرهم للقتلة المجرمين ليكونوا صيدا سهلا لأسلحتهم البيضاء والسوداء فيعملون فيهم تذبيحاً وتقتيلاً بإعداد وتحريض وتسهيل ومساعدة ومعاونة ومشاركة وتحت حصار ورقابة ودعم وكشافات الصهاينة ..
وسأترككم مع من سيكمل لكم سيناريو الرواية وثائقيا ...
مع الرجل الشريف "نعوم تشوميسكي ..
استمرت المذبحة حتى السبت ،
و تحت مراقبة العسكر الإسرائيليين المتمركزين على بعد بضعة مئات الأمتار و استعملت البلدوزرات لجرف الجثث و نقلها بعيداً ، أو لدفنها تحت الحطام .
وكان أحد تلك " القبور الجماعية التى حفرت بالبلدوزرات" يقع مباشرة تحت مركز قيادة إسرائيلي ، وتمكن من على سطح هذا الموقع " القبر الجماعي و المخيم من خلفه رؤيته مباشرة ".
وأما جنود جيش الدفاع الإسرائيلي " المتمركزون على بعد أقل من مئة ياردة ، فلم يستجيبوا لأصوات إطلاق الرصاص المستمرة أو لمرأى سيارات النقل المحملة بالجثث بهدف نقلها بعيداً عن المخيمين"، وأخبروا المراسلين الصحفيين الغربيين أن " لاشئ غير عادي " يحدث ، فيما كانوا ( أي الجنود الإسرائيليون ) يختلطون مع جنود الكتائب الذين كانوا يأتون للراحة بين فترات المهمات داخل المخيمين .
يوم الجمعة عصراً ، التقى رئيس هيئة الأركان " ايتان " و الجنرال " دوري" و "يارون" بقادة الكتائب فهنأهم ايتان على صنيعهم الجيد " وقدم لهم بلدوزراً أزيلت عنه علامات جيش الدفاع الإسرائيلي ، و أجاز لهم البقاء في المخيمين اثنتي عشرة ساعة أخري .
وأستمر القتل .
وفي الساعة الخامسة من صبيحة يوم السبت بدأ القتلة بمغادرة المخيمين ، وانتهت المجزرة بعد 36 ساعة من بدئها ،
وفي صباح ذلك السبت " دخل المراسلون الصحفيون المخيمين قبل فترة طويلة من دخول أي من الجنود الإسرائيليين "، وبدأت القصة الكاملة تصل إلى العالم الخارجي..
كتب هيرش غودمان ، المراسل الصحفي العسكري في جريدة جيرو سالم بوست ( في 24 أيلول ) :
" لقد عرف القادة الكبار في جيش الدفاع الإسرائيلي منذ ليلة الخميس ..
أن مدنيين كانوا يقتلون من قبل جنود كتائبيين في مخيم شاتيلا ".
و تلقى الجنرال يارون اتصالات لاسلكياً من قائد الكتائب في شاتيلا يصرح فيه " أن 300 مدني و إرهابي قد قتلوا "؛
و بناء على ما أوردته صحيفة جيروسالم بوست ( أيلول 24 ، 1982 ) ، فإن المخابرات الأميركية قدمت " معلومات استخبارية ثابتة ..
وقالت الصحيفة إن مصدراً أميركياً حسن الاطلاع .
" ايتان" هنأ القتلة على صنيعهم الجيد " وقدم لهم بلدوزراً آخر بعد أن أزال عنه علامات الجيش الإسرائيلي
روى مستخدمون طبيون أنه ، بحلول الساعة العاشرة من مساء الخميس وصل ألفان (2000 ) من المدنيين المذعورين إلى مستشفاهم ، باحثين عن ملجأ وهم يصرخون :
" الكتائب، حداد, إسرائيل ".
وكانوا يشيرون إلى أعناقهم ، ليوضحوا أن ثمة أناساً كانت تقطع حلوقهم .
و بينما كانت الفظاعات تنفذ على قدم وساق كان في وسع لجنود في مواقع المراقبة الإسرائيلية ، وحدهم ، رؤية ما يحدث .
وأشار ( الصحفي الأميركي توماس ) فريدمان إلى أنه كان بالإمكان رؤية القبور الجماعية بالعين المجردة من " الموقع الإسرائيلي المزود بمناظر و تليسكوب" غير أنه لا "يعرف ما إذا كان الإسرائيليون قد نظروا إلى الأسفل فعلا ورأوا ما كان يحدث ".
لكن ما هو معروف هو أن جنود جيش الدفاع الإسرائيلي " كانوا جالسين باسترخاء ...
يقرأون المجلات و يستمعون إلى موسيقي سايمون وغار فنكل"(!) .
انتهى
ما رأيكم في هذه الرواية الرائعة ؟!
وهذه القصة المسلية ؟!..
بصراحة هي من أمتع وأروع ما قرأت من روائع أدب المذابح العالمي !!!
ذلك الأدب الذي ينفرد به الصها ينة منذ أكثر من ستين عاماً لا يباريهم ولا ينافسهم فيه أحد ..
وترى أن روائع هذا الأدب غزيرة وكثيرة ومنتشرة وشهيرة يتداولها العالم بالقراءة وأحياناً بالتأثر وغالباً بمصمصة الشفاة ..
إنها سلسلة أدبية روائية رائعة خلدت تاريخ أدب المذابح والمجازر في كتاب الانسانية ..
وإننا نعتقد أن لنا دوراً متواضعا في نشر هذا الأدب الرفيع عن طريق سلسلة من الروائع الخالدة من الروايات .. على سبيل المثال " لا الحصر" روايات " بحر البقر" و "دير ياسين" و" قانا "و " برج البراجنة " و " جنين " و " غزة " و " جنوب لبنان " و" أسرى سيناء" علاوة على روايا ت الجيب المثيرة التي تبدع في فن التصفية..
" ليس تصفية كاس العالم بالطبع ولكن في التصفية الجسدية ..." بدءا من العلماء ومرورا بالفدائيين وانتهاء بالقادة " ..
إنه أدب عالمي شديد الروعة .. باهر .. مبهر .. متقن .. لايخلو من السحر والفن والخيال ..
وإنني أعتقد أن رائعة " صابرا وشاتيلا " التي لمسنا فيها مهارة الحصار وإحكامة .. وفن التملص من الوعود والعهود .. وجمال تسليط الأضواء الكاشفة على اللاجئين النوم العزل ..
ودقة توجيه الكتائب التابعة لها .. وروعة التغطية على الحدث .. وذكاء تقديم البلدوزر بعد مسح العلامات الصهيونية من عليه !!
انظر الفن والدقة والجمال ..
ثم أخيراً إدعاء الطرش والصمم والخرس والعمى وعدم العلم بما يدور على بعد أرنبة أنفه..
.. يا الله على الإبداع !!!
أعتقد أن رائعة " صابرا " و" شاتيلا" كافية تماماً لحصد أرفع الجوائز العالمية ..
جائزة " الإبادة الجماعية " ..
أو جائزة " جرائم ضد الانسانية "
تهانينا ...
شالوم
سبق أن نشرنا ذات المقال العام الماضي بمناسبة مذبحة صابرا وشاتيلاً كدلالة على الإجرام الصهيوني الذي يستحيل ان تجد له نظيراً سوى الإجرام الأمريكي .. وقد دارت الأيام دورتها . وعادت ذكرى المأساة لتطل علينا من جديد .. وولكنها هذه الأيام جاءت متوافقة مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر والهجوم على برجي التجارة الأمريكيين .. طبعاً أمريكا عن طريق سعد باسم سترسل رسالة تهنئة لأرنون الإسرائيلي بمناسبة ذكرى مذبحة صابرا وشاتيلا ودور إسرائيل المبهر في ذبح خمسة آلاف من المدنيين العرب العزل الأبرياء .. .. قد سبقنا ..وذكرنا الزميل المدون إيهاب العمري بصور مروعة في مقال دامٍ مؤثر عن مذبحة صابرا وشاتيلا الدامية .. لن يطرف لأرنون الصهيوني جفن .. وسينبري سعد باسم بتاع التواصل الأمريكاني ليحلينا إلى تنظيم القاعدة والواقفة والمستحية .. ولن تأخذ حقاً ولا باطلاً مع أرباب الإجرام العالمي ..مش مهم ... المهم ألا ننسى .. حتى يأتي اليوم الذي ينتفض فيه الضمير الأمريكي الميت من رقدته ومن خنوعه المقزز ليرفع يده "ولو قليلاً" عن المجرمين ويدعهم ليد العدالة "الدولية" لتقتص منهم ثأراً لروح الشهداء المدنيين الأبرار من الأطفال والنساء والشيوخ والعزل ..ضحايا .. صابرا و شاتيلا ..
شالوم تاني
التعليقات (0)