مواضيع اليوم

من رسائل ونستون تشرشل

Young Winston’s Wars: Original Dispatches 1897 -1900
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
جمع فريدريك وودز الرسائل التي كان يبعث بها المراسل الصحفي الشاب ونستون تشيرشل الى الصحف البريطانية من السودان وجنوب أفريقيا في أخريات القرن التاسع عشر فى كتاب عنونه "حروب الشاب ونستون: الرسائل الاصلية للمراسل الحربي ونستون تشيرشل 1897 – 1900) و نشر الكتاب فى عام 1972 من دار فيكنق للنشر فى نيويورك. السطور المترجمة هنا هي لإحدى رسائله القصيرة عقب انتهاء موقعة كرري.
معسكر أمدرمان . 10/9/ 1898
سأفترض أنه سيثير اهتمامك – كما أثار اهتمامى – أن أصف لك ساحة القتال بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وأثق أنا تمام الثقة من أن أي وصف للمناظر الفظيعة التي أراها أمامي تختلف عن الحقيقة , تماما كما يختلف ظل الشئ عن أصله. و مهما أوتيت من براعة الوصف ودقة النقل فلن أستطيع أن أصور لك ما أراه تصويرا يشابه الحقيقة, بيد أني أحمد الله في الوقت ذاته أنني لا أستطيع أن أنقل لك عبر هذه الرسالة ما أشمه من روائح تزكم أنفي بعفونة لا تطاق, و لكنك على أية حال لا شك ستجدتها فى ما سأقصه عليك من خبر هذه المعركة وما تلى أهوالها من مشاهد بالغة الفظاعة. لا أجد في نفسي رغبة في معاودة زيارة هذا المكان لذا لابد من أن تتحمل معي يا عزيزي القارئ وصفي لزيارتى الأولى (و الأخيرة) هذه.
دعني في البدء أصف لك شكل ساحة الحرب. يجري نهر النيل من الجنوب الى الشمال, و توجد على ضفته الشمالية "زريبة" الجيش البريطاني ( وهي تتجه غربا), و على بعد ميل منها يقع جبل كرري بزاوية قائمة على النيل, وعلى بعد ميل اخر إلى الشمال توجد جبل اخر أسميه
Heliograph Hill و أسمي فيما بعد جبل لانسر Lancer Hill. يمثل الجبلان والنهر ثلاثة أضلاع (أبعاد) للصورة, ويمثل الضلع الرابع سهل واسع يبدو كسراب في فضاء عريض تلوح منه تلال بعيدة لا تعنينا الان. يوجد في هذا الفضاء الواسع المترامي نحو أحد عشر ألفا من الجثث، و قريبا منها تبعثرت مئات أخري لجثث ضحايا هجوم الخيالة أو الطلقات الطائشة أو من الفارين من المطاردة.
في يوم الخامس من سبتمبر امتطيت صهوة جوادي برفقة لورد توليباردين Tullibadrdine وهو أحد فرسان الجيش المصري, وذهبنا سويا لتفقد ساحة الحرب. و كنا نسير بمحازة الخور والذي كان يسقي الجيش المنتصر عصر الثاني من سبتمبر، و منه سرنا عبر السهل الرملي إلى المنحدرات الواقعة جنوب Heliograph Hill و منه وصلنا للمكان الذي بدأت منه الفرقة الحادية والعشرين هجومها, وهنا لاح لنا فجأة فى وسط السهل المنبسط خور عميق (يسميه الهنود نولا Nulla) و كان بمثابة مصيدة عرضها عشرون قدما و يمتد عمقها لخمس أقدام. وفي هذا وجدنا أكثر من إثنتي عشرة جثة لجنود الدراويش و نصف درزينة من الحمير النافقة وبعض قرب الماء المصنوعة من جلد الماعز و كمية من السروج والأسلحة المهشمة. وعلى مقربة من ذلك المكان رأينا منطقة واسعة مغطاة بالجثث. كانت هناك بعض القبور التي أقامها على عجل فيما يبدو أصدقاء للقتلي نثرت عليها بعض الرمال البيضاء لتمييزها. وكانت تحوم حول المنطقة خيول تحررت من سروجها و لجامها. ورأينا في وسط المكان علما ذا لونين: الأبيض و الأحمر وكان مربوطا إلي خشبة طويلة و هو يرفرف فوق قبور جنود فرقة المشاة. كان ذلك هو كل ما هناك... بيد أن المكان إكتسب أهمية خاصة نسبة لتوافد كبار الضباط عليه من كل الفرق.
وغذذنا السير وصعدنا لقمة الجبل تماما كما فعل بعض جنودنا قبل أيام ثلاثة, و بدا لنا أن ذلك الموقع هو ذات المكان الذي إصطلت فيه صفوف الدراويش بنيران مدافعنا, وتناثرت في المكان جثث الدراويش المخلصين وهم بلباسهم الأبيض المرقع, وفعلت أشعة الشمس الحارقة على مدى الأيام الثلاثة فعلتها في الجثث، فإنتفخت وغدت أحجامها كبيرة مرعبة تفوق ضعفي حجم الإنسان العادي. لم يعد شكل الجثة يشبه في شئ شكل الآدمي بل صار إلى القربة المتضخمة أقرب. بدت على جثة كل درويش من الدراويش الذين لقوا حتفهم آثار ندوب فظيعة و غطت جبة الواحد منهم بقع سوداء من الدم المتيبس الذي صلته الشمس الحارقة. ضاعفت الروائح الكربهة من كآبة المنظر.
غذذنا السير مرة أخرى، و لفحتنا من جهة الغرب ريح قوية حارة بالغة العفونة عبرت السهل العظيم في إتجاه النهر. ومع مسيرنا كانت الصورة الفظيعة لما حدث تتضح أكثر فأكثر. هاهنا الموقع الذي منه بدأت المدفعية في حصد جموع الدراويش المتقدمة. كانت كل قذيقة تقتل خمسة أو ستة رجال, و بقرب الزريبة (نحو 800 ياردة) بدأت فعالية الآلة الحربية Musketry
في الظهور. وجدنا جثة واحدة تقريبا في كل عشر ياردات. و تجلت كثافة النيران و قوتها كأوضح ما تكون حيث حصدت بالبنادق و المكسيم الآلاف. وضح أيضا أن المخلصين من الدراويش الشجعان لم يهابوا جحيم نيران العدو فتقدموا بالعشرات ليحصدهم الموت المحقق في دقائق. و تراكمت جثث هؤلاء بعضها فوق بعض. وكونت الجثث فى بعض الأحايين طبقات ثلاث من الأشلاء الممزقة. لقد رأيت بأم عيني فى مساحة لا تكاد تتعدي المئة ياردة ما يفوق الأربعمائة جثة. هل بمقدورك أن تتصور الأوضاع التي كانت عليها تلك الجثث، و التي كانت – و إلى وقت قريب- في صورتها التي خلقها ربها في أحسن تقويم؟ لا تحاول أبدا إذ أنك إن أفلحت في ذلك فستداوم علي سؤال نفسك دوما – مثلي تماما- "هل لي أن أنسى أبدا؟"
لقد حاولت أن أمجد الحرب أو أن أزينها و أن أعزي نفسي في أصدقاء شجعان أعزهم كثيرا ...ماتوا من أجل قضية آمنوا بها – مهما يكن مصيرهم في العالم الأخر. عندما يقتل جندي من جنود قوة متحضرة فى الحرب فإن أجزاء جسمه تضم –و بإحترام بالغ- وتوضع في قبر معلوم، ويصاحب ذلك قرع للطبول و عزف لموسيقي الوداع الجنائزية الحزينة، و تقال في قداسه بضع كلمات مزهوة بالنصر. و يحيط بالجثمان رفقاء السلاح و الأصدقاء ولربما حسد الميت علي ما ناله من شرف الاستشهاد و علو المكانة. كل ذلك من شأنه تخفيف وقع مصيبة الموت و فداحته. بيد أن قتلي الدراويش لم ينالوا من مثل هذا أدني نصيب. لم ينالوا شيئا من الكرامة الانسانية التي لا ينبغي أن تهزم. و كان كل ما في الأمر فساد متعفن (FILTHY CORRUPTION) لقد كان الدراويش أشجع من مشي على الأرض. و تولد عندي إيمان راسخ بأنهم طلبوا الموت بشرف وعزة وكرامة تماما كما فعل جنودنا. قد تكون تلك فكرة تفتقر إلي الأصالة أو قد تكون فكرة مكذوبة، بيد أنه من المؤكد أنها فكرة لم تكن لتلاقي أي إستحسان عند جيشنا!
كانت الخطوط و الآثار التي خلفتها المجزرة تحكي تفاصيل الأحداث. هنا كانت فرقة ماكدونلادز و هنا ثلاث بطاريات للمدفعية و عدد من مدافع المكسيم قامت بصد هجوم لجيش الخليفة. وهنا علم الخليفة الأسود الذى تمت السيطرة عليه و سقط دونه مئات الرجال مكونين تلا كبيرا من الجثث المتراكمة. و هنا موضع قانلت فيه فرقة بريطانية علي ود حلو مع عشرات الآلاف من جنوده. وهنا إنطلق فرسان البقارة في هجومهم الرائع لملاقاة مصيرهم المحتوم. إختلطت أجساد فرسان الدراويش بملابسهم البيضاء مع أجساد الخيول البنية و السوداء لذا بدا هذا الجزء من الميدان أقل بياضا مما سواه. واجه الآلاف من الدراويش نيران المدافع الحامية, و تقدموا بأقصى ما لديهم من سرعة تجاه الجيش الغازي, وكان الواحد منهم عندما يسقط من على ظهر جواده يطير للامام مسافة بعيدة أمام الجواد. كانت الآلة الحربية تحطمهم ولكنها لا تهزمهم.
صغرت في عيني - وأنا أمام كل هذه المناظر البشعة – صورة إنتصارنا الدامي وتملكني حزن مقزز كسيف. كان هذا مما يؤذي النظر و لكن كان هنالك ما هو أسوأ. بعد الموتى رأيت الجرحى. إن الجندي أو الضابط الذي يهجر ميدان القتال بعد إصابته بجراح له على الدولة دين مستحق. ففي حالة النفر (private) مثلا فإن ذلك قد يعني معاشا تقاعديا, و يالنسبة للضابط فقد يعني الجرح مكافأة ضخمة ووسام وذكر حسن وبالتأكيد صعودا في سلم الترقيات. وتظل ندبة الجرح – و إن صغر- مصدرا للزهو و الفخار وعذرا للضابط في إعادة ترديد القصة! لالآم الجرح يستعمل الأطباء أدوية التخدير, و لتعجيل البرء يقف العلم و موارده على أهبة الاستعداد, بيد أن جروح الدراويش لم تجد من يداويها! كان هنالك مئات من الجرحى من الدراويش الذين تكدسوا وسط أكوام القتلى. لم يك الوضع العام يشجع علي الإقتراب منهم, وتناثرت أجساد الكثيريين منهم فى السهل. بدأنا في الإقتراب من بعض هؤلاء لفحص حالتهم بحذر شديد ومسدس في اليد.
كان لدى اللورد توليباردين قارورة ماء كبيرة. ترجل اللورد وطفق يسقي كل جريح بضع قطرات إلى أن نفذ ما عنده من ماء. يجب أن نتذكر أن ذلك كان بعد مرور ثلاثة أيام من إنتهاء المعركة. كانت الشمس ترسل سياط أشعتها الحارقة على تلك الأجساد البائسة دونما رحمة. كان الجرحى في حالة عطش تفوق الوصف. تمنيت لو كان لي سطل كبير من الماء البارد الصافي لأضعه أمام كل رجل مرتعش محموم مثخن بالجراح, أما ذاك أو أن يأتي رجل مجهول الهوية يحمل مسدسا كثير الطلقات يطوف على تلك الأرواح البائسة فيخلصها مما تعاني من ولايات العذاب.
كانت المناظر أمامي تبعث على التقزز. شاهدت أربع من الجرحى يزحفون ببطء قاتل نحو شجيرة صغيرة شحيحة الظل ليلفظوا أنفساهم الأخيرة تحت ظلها. علق احدهم خرقة بالية فوق الشوك ليزيد من مساحة الظل. نال ثلاثة من أولئك الرجال مبتغاهم بينما نجا رابعهم. كان قد اصيب بطلقة أصابت رجليه الأثنين و استقرت في ركبته اليمني مما شل حركة طرفه الأيمن تماما. سقينا الرجل بضع قطرات من الماء و لا أظن أن بمقدورك أن تتخيل مقدار السعادة التي جلبها ذلك الكوب الصغير من الماء. فحص اللورد ركبة الرجل و فى لحظة إستل سكينه و مضي يعملها في ركبة الرجل و ما هى إلا لحظات حتي إستل الطلقة من مكمنها. أيمكن أن تصاب بمزيد من الغثيان و القرف من أهوال تلك الساحة. لقد وجدت رجلا جريحا ظل يزحف نحوا من ميل خلال الايام الثلاثة التي أعقبت المعركة و تبقى له ميلان قبل أن يصل لشاطئ النيل وكان يزحف بساق واحدة, إذ كان قد فقد الأخرى في الميدان. لم أنقطع عن التعجب والحيرة وأنا أتساءل إن كان الرجل سيصل لمبتغاه. ورأيت اخر تهشمت رجلاه تماما ولكنه ظل في وضع الجلوس يقطع نحو 400 ياردة في اليوم زحفا. إن حيوية و قوة تحمل أولئك البوساء غير العادية تطيل من أمد عذابهم و شقائهم. نجح أحدهم في الوصول إلى النيل و لكن فاضت روحه في ذات اللحظة علي شاطئه. دعنا نؤمل أن يكون قد إرتوي قبل موته.
كان كل ذلك بعد مرور ثلاثة أيام على إنتهاء الحرب و لكن في التاسع من سبتمبر (أي بعد مرور أسبوع علي إنتهاء الحرب). كان هنالك بعض الجرحى من الذين لم يموتوا و لم يوفقوا في الزحف بعيدا وظلوا يتجرعون العذاب أفظعه. كيف بقوا علي قيد الحياة طوال تلك الفترة دون ماء أو طعام؟ لقد تلقوا بعض العون من النساء ومن الذين جردوا من سلاحهم من أهالي أم درمان. قام هؤلاء بمساعدة أهاليهم و من يعرفون من المحاربين المهزومين، بيد أن من أتي
من هؤلاء الجرحى من أماكن بعيدة و لا أقرباء لهم في أمدرمان كان مصيره الموت البطئ جوعا وعطشا. كان الواحد منهم يحصل بالكاد على جرعات قليلة من الماء مما تجود به أنفس المحسنين من أهالي أمدرمان و ينتظر يومه فى ثبات وصبر...كان هذا من أقسى المناظر التي قدر لنا أن نشاهدها.
دعنا نؤوب للمعسكر، اذ لم تك من فائدة في البقاء في ذلك المكان اللهم إلا إذا أردت أن يتحجر قلبك و أن تتجرد و إلى الابد من أي نوع من المشاعر الإنسانية. إنني أكتب لك الآن عن الانتقام و دفع الديون المستحقة. يقال أن الآلهة قد حرمت الانتقام على البشر وخصت به أنفسها وذلك لحلاوته المسكرة. هب أن ذلك صحيحا, أفينبغي أن نشرب كأس الانتقام الحلو المسكر حتى الثمالة!؟ أوليست نهايته ذات طعم مستقذر؟ أوليست خلة الإفراط مما يستهجن و يستقبح؟
و هكذا ومع مغيب الشمس و أسدال الليل لاستاره قفلنا راجعين لام درمان "موطننا" وتركنا ساحة تلك المعركة لسكانها الصامتين.... تركناهم جاثمين في الصحراء... أولئك الفرسان
المغاوير الذين إستبسلوا في الدفاع عن عقيدة فاسدة و حكم ساقط ذهب ريحه... أولئك الذين تركوا تاريخا لم يحفظه غير من هزمهم. لم تبق من اثارهم غير بقايا عظام ستغطيها الرمال في سنوات قلائل قادمات. كنا قبل أيام ثلاثة نسمع صوت هتافهم الداوي الواثق من النصر و نرى برق نصال سيوفهم و أعدادهم الكثيرة. نكاد نلمس حماسهم وشراستهم. كانوا شديدي الثقة في قوتهم و في عدالة قضيتهم وفي نصرتهم لدينهم. لم يتبق منهم الآن إلا بقايا أشلاء ممزقة و أجساد مثخنة بالجراح مبثوثة في السهل العريض.
لقد لعبت آلة الحرب الفظيعة دورها بإقتدار في الحرب العلمية الحديثة ومزقت جيش الدراويش شر ممزق, وكان هذا منتظرا و متصورا. الزمن يضحك/ يسخر من العلم والعلم يضحك من القوة و سيأتي يوم يكتسح الزمن فيه القوة و العلم معا. وسيأتي يوم تدخل فيه وسائل الري الحديثة لتغير وجه أمدرمان البائس إلي حدائق ذات بهجة وستصبح قطاطي أمدرمان الطينية القميئة يوما ما مساكن جميلة ومسارح ومدارس وسيأتي يوم يشار فيه إلى ساحة تلك الحرب بلافتة تقول :" هنا كانت في زمان مضى حرب"..... وهكذا ستخلد ذكرى تلك الحرب

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !