من حقوق الانسان الاساسية :
حق الملاحق قضائيا بمحكمة منصفة Tribunal impartial .2
اشرنا في المقال السابق, في مقدمة اردناها مطولة , الى وجود مفاهيم وتطبيقات عديدة لحقوق الانسان, حسب موقعه الجغرافي وعرقه ولونه, وهو ما يتنافى كليا مع مفهوم تلك الحقوق المعترف له بها لمجرد كونه انسان اينما كان وكيفما كان. وهذا ما تقرره الاعلانات والمواثيق الدولية .. والى وجود معايير عديدة ومكاييل متنوعة, وكانّ العمل جرى على ان تقتصر هذه الحقوق على الانسان الغربي دون غيره. والى ان السياسات الرسمية الغربية في بحثها عن مصالحها الصرفة تتنكر لحقوق الانسان في الجنوب, أو ما يسمى بالعالم الثالث, بدعمها الانظمة الدكتاتورية والشمولية القمعية التي تنتهك حقوق الانسان في دولها بشكل مبرمج ودائم وبشع. فتستعمل مسألة تلك الحقوق, ورقة ضغط سياسي متبادل بين الدكتاتوريات والديمقراطيات على حساب الانسان ومعاناته.
الواقع ان الانتهاك "المباح" لحقوق الانسان اليوم في دول الجنوب هو القاعدة. وهو الاستثناء في الدول الغربية الديمقراطية.
الإنسان الغربي بنضاله لإنجاز الديموقراطية ودولة القانون كان ينجز معها "قوننة" حقوقه وماسستها وترسيخها. فلا يمكن تصور وجود هذه الاخيرة خارج الديمقراطية ودولة القانون, ولا يمكن تصور امكانية تطبيقها دون وجود اليات فعالة ضرورية لذلك. كما لا يمكن الادعاء بوجودها في انظمة غير ديمقراطية. او في ظل تواطء فاضح: دكتاتوري/ ديمقراطي انتهازي.
في الكتابة في حقوق الانسان ليس لدينا اية أوهام, ككل مواطن عربي في مناطقتنا , بانها كتابات يمكن الالتفات اليها بجدية في واقعنا الحالي (حتى ان نشرها في مواقع قانونية مهنية يخيف الناشر ويرعبه ويدخله في حالة "تخلي"), أو ينظر اليها على انها ليست من مواضيع الساعة ولا من اولويات المواطن. كما لا يمكنها ان تغير في شيء من الممارسات المتبعة من الانظمة العربية الموغلة في اضطهاد الانسان. او من قناعات الملاحقين له بالتخويف وبالويل مما يخبئه الله للإنسان العلماني المنادي بمثل تلك الحقوق الدنيوية الزائلة, وبالثبور ان خرج عن تعاليم وطقوس رسمها جهابذة متخصصون في شؤون وتفاصيل ودقائق الحياتين: الدنيا, والاخرة.
التوجه في الكتابة هو فقط الى الاجيال القادمة , والى الاذهان المتفتحة التي استطاعت الافلات من الترويض, بأشكاله, لإعادة صياغتها بأنماط معينة تقوم على التعصب والعدوانية او الرضوخ والانقياد, وهو ما لا يتفق مع طبيعة الانسان . الاجيال المعقود الامل عليها, والعقول المتنورة هي القادرة وحدها, كما قدر غيرها, على فرض هذه الحقوق ووضعها موضع الاحترام والتطبيق. خاصة وان عالمنا غير مغلق , ووسائل الاغلاق تفلت من اعتى الانظمة. ويُعّلم التاريخ ان الإنسان لا يعيش طويلا, مهما كانت الظروف, خارج انسانيته , ولا يمكن خروجه او اخراجه منها الى الأبد.
لغياب التجارب المتعلقة بحقوق الانسان في منطقتنا, ولغياب المحاكم المستقلة المنصفة الحامية لتلك الحقوق, لا بد من التوجه الى القراءة في تجارب الاخرين الذين استطاعوا ان يفرضوها ويراكموها كتجارب مضيئة في نضال الانسان عبر التاريخ في مجال الحقوق واليات الوصول اليها وحمايتها. اخرون ارادوا فكان لهم ما ارادوا, تعلموا ان لا يتوقفوا عن النضال لفرض ما يريدون. اخرون من جنس البشر يحملون كل الصفات الفيزيولوجية التي نحملها, وان اختلف اللون احيانا. (وهل تلزمنا عودة ابو القاسم الشابي, الذي هو منا وليس من اولئك الاخرين, ليذكرنا بان : اذا الشعب يوما اراد الحياة فلا بد ان يستجيب القدر ).
لابد من الاشارة لهذه التجارب رغم صراخ اعداء الانسان وحقوقه, وخلط , بديماغوجية لا تخفى على احد, الانساني بما هو غير انساني. ورغم عدم مقدرتهم على تقديم مثال واحد لتجربة واحدة على احترام حقوق الانسان في منطقتنا لتقديمه للإنسان العربي او من جاوره, يصرون على الرسالة الخالدة, يحملها وينادي بها من لا يتقن كتابة الرسائل, ولا صيانتها, ولا حتى قراءة محتوى المكتوب منها قراءة صحيحة.
التجارب المتراكمة والامثلة المبتكرة في منطقتنا غير قابلة للتصدير لأية منطقة اخرى في عالمنا هذا, او العوالم الاخرى ان وجدت , فهي تجارب وخبرات خلاقة في فنون القمع وتجريد الانسان من كرامته ومن ابسط حقوقه. تجارب من هذا النوع تعمم للاستعمال المحلي والمقايضة والتداول بطريق الاستيراد والتصدير البيني (بين الدول العربية). وهي موضوع التعاون العربي المشترك التعاون الوحيد المتفق عليه وغير المنازع فيه حتى في اشد درجات النزاع العربي العربي شدة وخطورة. (وهذا استثناء ناجح من مقولة اتفق العرب على ان لا يتفقوا),
ومع ذلك, يبقى في أدبيات هؤلاء ان من هو من غير طينتنا, حتى ولو احترم حقوق الانسان واعلى كرامة الانسان على كل شيء, واقام ديمقراطية ودولة قانون, يبقى عضو منحل اخلاقيا في مجتمع قيمه زائفة, ورصيده في الاخرة دون الصفر. ولا يعتد بتجاربه الخادعة و بضاعته المضللة التي لا تصلح في شيء لنا ــ باستثناء, تلك التي نستوردها لمآكلنا ومشاربا , ولباسنا , وعلاجنا, وتنقلنا الداخلي والخارجي, ووسائل اتصالاتنا ... وكل وسائل الرفاهية بما فيها ما نستنكره علنا ونمارسه دون حدود تخفيا, فهذه وان كانت من غير صنعنا فهي في خدمتنا وتحت تصرف امكانياتنا!! ّــ.
ويبقى الموغل, من ابناء جلدتنا, في احتقار الانسان, انساننا, وانتهاك كرامته وحقوقه, وحتى حقه في البقاء على قيد الحياة, هو الاخلاقي وحامل القيم ووريثها دون منازع, وان اشتط احيانا, فهو من ابناء خير امة اخرجت للعالمين, حتى ولو لم يكن خير خلف.
دخلت حقوق الانسان في الغرب الدائرة القانونية بعد ان بقيت لفترات طويلة مجرد مواعظ دينية وتبشير, تعتمد معايير الخير والشر, والاباحة والتحريم. دعوات اخلاقية , واعلانات حقوق غير ملزمة, ومطالب تتبناها احزاب سياسية ومنظمات غير حكومية. وقد ساهمت اعمال المثقفين ورجال الفكر القانوني والسياسي والاقتصادي , والفلاسفة والادباء, في توسيع واغناء مفهومها فأعطته ابعادا اجتماعية وأدبية وفلسفية واقتصادية وانسانية متطورة بتطور الحياة وشروطها.
عرفت هذه الحقوق في الدولة الديمقراطية مراحل في تطورها. اذ كان ينظر اليها في المراحل الاولى على انها وسيلة تحرير وانعتاق للإنسان , تحرره وتعتقه من الاوضاع والقيم السائدة التي كانت تحجّمه وتحد من انسانيته , ومن حركة وفاعلية فكره, وتفرض عليه انماطا اخلاقية ومعيشية وثقافية.
وفي مرحلة لاحقة اصبح مفهوم هذه الحقوق يفرض على الدولة رعاية حقوق اجتماعية لمصلحة المواطن. واعُتبرت حقوق تضامن solidarité.
ليتكرس وجودها اليوم في واجبات ملزمة مفروضة على الدولة, الى جانب الواجبات التقليدية, مثل واجبات احترام الحقوق, واجبات المساواة, وواجبات الحماية الفعلية للحقوق ووضعها موضع التطبيق, وصولا, ليس فقط لمعاقبة منتهكيها, وانما كذلك الى تجريم غياب هذه الحماية. ومنه دخلت القانون الجنائي جرائم جديدة وعقوبات جديدة تتعلق بانتهاك حقوق الانسان.
مفهوم الالزام هذا فرض و يفرض على الدولة تعديل تشريعاتها ,او على الاقل البرهنة على بذل الجهود المتواصلة والصادقة في هذا الاتجاه. والاخذ بعين الاعتبار في كل أعمالها قوانين حقوق الانسان التي تتضمنها الاتفاقات الدولية الثنائية والقارية والدولية.
فالدولة بوضعها اسس الحماية الاجتماعية والمادية للفرد جعلت هذا الاخير قادر على بناء استقلاله, انطلاقا من تلك الحقوق الضامنة لكرامته, وتوفير الشروط الاساسية لحياة كريمة. فالحماية الاجتماعية والمادية للفرد, تعتبر وسيلة اساسية لبناء المواطنية citoyenneté الاجتماعية المساندة والمعززة للمواطنية السياسية.
مع ذلك , وفي مجتمعات ديناميكية الحركة, وفي ظل علاقات تعاقدية متعددة الوجوه والاشكال, ودخول العلمنة السريع, بوسائلها ونتائجها , كل تفاصيل حياة الفرد , ادخلت معها الى نفس هذا الاخير شعورا دائما بالقلق على حقوقه وعلى استقلاله, وخوفا من ضعف أو اضعاف اليات الحماية القائمة او تخلفها عن اللحاق بالمستجدات من المعطيات المتربة على تطور الليبرالية الاقتصادية وافرازاتها.
هذا اضافة لشعوره بان الظروف المادية, التي كثيرا ما تغيرها الازمات الاقتصادية والسياسية واضطراب الديمقراطية, (الاجراءات المفتعلة والظالمة, غير الديمقراطية, والماسة عميقا بحقوق الانسان بعد 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الامريكية, مثلا) يترتب عليها تضييق متنام للحريات وحقوق الانسان في الغرب نفسه ــ لا يهتم احد هنا بمطاردة الانسان غير الغربي والشك فيه وببراءته و انسانيته ــ وتمس بشكل مباشر حماية استقلاله حماية كافية, كفرد وكمواطن. وتؤثر في فعاليات الاليات اللازمة لإعادة توازن العلاقات للمراكز في حالة فقدان توازنها. وبالتالي تضعف الثقة بما هو قضائي وبما هو سياسي.
وعليه, ولحماية حقوق الانسان وتمتين الثقة بالنظام الديمقراطي وبمصداقية دولة القانون لا بد, ضمن أمور اخرى, من وجود محكمة مستقلة منصفة. و لابد من تيسير الحق في الوصول اليها باعتباره حق اساسي من حقوق الانسان .
ولسهولة العرض نرى ضرورة الحديث أولا عما تعنيه محكمة منصفة في مقالنا هذا, وعن حق الملاحق قضائيا بالوصول الى هذه المحكمة. في مقال لاحق.
محكمة منصفة:
لا تقع بطبيعة الحال تحت هذا العنوان المحاكم الاستثنائية, ومحاكم امن الدولة, والمحاكم الميدانية التي تصدر احكامها وتنفذها فورا ودون اية اعتبارات للقانون والعدالة. ولا غيرها مما يأخذ اسم محاكم مُشكّلة لأهداف معينة تخدم الانظمة السياسية, و تقام بمقتضى حالة الطوارئ وقوانينها, والاحكام العرفية. محاكم لا يراعي في تعيين قضاتها توافر معايير الاستقلال والكفاءة, والانصاف, والعدالة , والاستقامة, وانما الولاءات الحزبية والعشائرية والقبلية والطائفية والعائلية, مما يسهل اخضاع القضاء بأكمله وبكل انواعه ودرجاته لضغط السياسة و المصالح الخاصة, وضغط رجال الامن في غياب مفهوم فصل السلطات اصلا. كل ذلك يلقي بثقله على الشرفاء من القضاة ويزيد معاناتهم ومتاعبهم. وليس من المستغرب عندها ان يدخل الفساد بأنواعه والوانه, وتنتشر الرشاوى لتصبح في اماكن عديدة علنية, وكأنها من اجراءات رفع الدعاوى وأصول المحاكمات.
مثل هذه المحاكم يذهب بعيدا في مخالفة الاستقلال والانصاف. مثلها يجتهد علنا في مخالفة النصوص القانونية والدستورية حين تجرم افعالا مباحة لا تتوافر فيها عناصر الجريمة. و تعاقب من يمارس حقوقا دستورية منصوص عليها صراحة في دساتير مترجمة بدقة وحرفية وتقنية عن دساتير الديمقراطيات الغربية.
فعلى سبيل المثال لا الحصر, معاقبة من يمارس حقه في ابداء رأي, شفهيا او كتابيا, رغم حرية التعبير والمعتقد المنصوص عليها بالدساتير الجامدة جمود ابي الهول في الصحراء المصرية. ومعاقبة من يكتب في صحيفة مرخصة قانونيا ما يتعارض مع اراء واجتهادات الرقيب الوصي, رغم حرية الصحافة في النصوص الدستورية. واخفاء من يصدق دستور بلده, محاولا طلب ترخيص حزب سياسي أو جمعية مدنية اخفاء لا ظهور له بعده. اخفاء بأحكام صادرة عن مثل تلك المحاكم "المنصفة" او بدونها .
محاكم لا يفرض عليها "الانصاف" عدم تطبيق قوانين مخالفة للدستور. ولا يفرض عليها البحث عن صحة او عيوب الإجراءات قبل المحاكمة, كأسباب وطرق القبض على المشتبه فيهم, المتهمون سلفا, المدانون سلفا. وانتهاك حقوقهم خلال الحجز والحبس الاحتياطي, والمدد التي تدوم شهورا, وحتى سنوات, قبل "جرّهم" للمحاكمة امام "محكمة منصفة" لا تهمها وسائل وطرق انتزاع الاعترافات بالاعتداءات الجسدية الوحشية, والمعنوية المهينة للكرامة الانسانية. محاكم لا تميز بين جرائم القانون العام والاتهامات السياسية غير المؤسسة. ومع ذلك تنطق أحكامها, منتحلة العدالة, " باسم الشعب أو جلالة الملك..." .
المقصود بالمحكمة المنصفة:
كان لابد من طرح نقيض المحكمة المنصفة ليسهل توضيح مفهوم المحكمة المنصفة الجديرة باسمها. مفهوم هذه المحكمة ليس حديثا فهو في جوهر العدالة نفسها. كان موجودا في Le Deutéronome (الكتاب الخامس من مجموعة Pentateuque مجموعة القوانين المدنية والدينية, ميثاق الاصلاح الديني. 622 قبل الميلاد) ومنصوص عليه اليوم بين الحقوق الاساسية في الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان المادة ـ1ـ6 . و في الميثاق الاوروبي لحماية حقوق الانسان الاساسية المادة 47 اذ تعلن كل منهما ان " لكل انسان الحق في ان تنظر في قضيته محكمة مستقلة ومنصفة".
الانصاف صفة الشخص او الهيئة, الذي او التي, يتصرف أو تتصرف, دون تدخل شخصي للتأثير باعتبارات او معطيات الدعوى لصالح طرف من اطرافها. كما يتمثل في حياد القانون والمساواة امامه وتطبيق قواعده دون محاباة او تمييز او تحيز.
مفهوم انصاف المحكمة مرتبط عضويا بمفهوم استقلالها, وان كان مفهوم الاستقلال هذا شرط سابق على وجود الانصاف. فاستقلال المحكمة يمنعها من التخلي عن سلطتها في المحاكمة لصالح هيئة اخرى. وهذا ما قررته المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان في قضية بيومارتين حين اعلنت في قراراها المشهور الصادر في 24 نوفمبر 1994 بان مجلس الدولة الفرنسي لم يحترم احكام المادة 1ـ6 من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان عندما طلب من وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية تفسير معاهدة دولية معلنا التزامه بهذا التفسير.
وفي قرار صادر من نفس المحكمة في قضية شارفول (2003/02/2003) تم التأكيد على ان المحكمة, لتكون مستقلة ومنصفة في ممارستها لسلطاتها , يجب ان يكون اعضاؤها مستقلين. وهذا يعني بشكل اساسي من قضاة مستقلين غير متأثرين بنفوذ الدولة التي توظفهم. و لا يخضعون لنفوذ اطراف الدعوى. استقلال قضاة المحكمة في مواجهة الدولة يؤمنه المبدأ الدستوري بعدم قابلية القضاة للعزل.
ومن الشروط الاساسية في المحكمة المنصفة ان تكون محايدة لا تصدر عن احكام مسبقة تحول القضاة الى الات, ان تقوم بتعليل كامل للأحكام والقرارات الصادرة عنها. وتدعيما لمبدأ الانصاف يجب اتخاذ واصدار الاحكام والقرارات, الا في عدم توافر الإمكانية, عن تشكيل قضائي جماعي collégialité مما يوسع ويرتقي بمستوى المداولات وبالمهنية, وبالتالي تامين القدر الكافي من النزاهة والانصاف.
لا يتوقف مبدأ الانصاف عند شخص القاضي فقط , وانما يمتد كذلك ليشمل المحكمة بأكملها, اي كل شخص يساهم في اتخاذ القرار او تكون مساعدته ضرورية لاتخاذه. وهكذا يدخل شمن ضرورة الالتزام بالإنصاف اعضاء هيئة المحلفين, وكذلك الخبراء القضائيين المساهمين في سير المرافعات لإبداء خبراتهم المطلوبة, الزام يعادل ما هو مطلوب من القاضي نفسه. وهكذا فان حق الملاحق قضائيا في محكمة مستقلة ومنصفة يتوسع في امتداده وفي عمقه.
وجوب توافر الانصاف في القاضي نفسه:
بما ان القاضي انسان والقضاء ادواته عناصر بشرية, والنظام القضائي في النظام الديمقراطي يضع القاضي في مركز المجتمع كانسان جدير بالقيام بمهام القضاء بإنصاف يعود في جزء كبير منه الى ضميره وقواه الداخلية وتوازنه, فان الانصاف يتطلب كذلك حمايته من نفسه: عاداته وطرق تصرفه وسلوكه , وكل ما تمليه عليه الرغبة في الترقية في السلم القضائي من تصرفات قد لا تكون متلائمة مع شخصية القاضي . اضافة لما توفره له الحماية المتمثلة في تكوينه المهني وقانون الواجبات الادبية للقاضي la déontologie من صفات تبني شخصيته وتدخل في اعماقها كالاستقامة والنزاهة والكرامة . وقد ذهب في هذا الاتجاه القانون التنظيمي الصادر في 25 فيفري 1992 وقانون 25 جوان 2001
المفهوم الكلاسيكي للإنصاف يتعلق بشخص القاضي. اي ان اعضاء المحكمة من القضاة لا يجوز لهم ابداء اي عمل, او تصرف او تصريح .. يعتبر موقف مسبق أو رأي شخصي يتنافى مع الحيادية ومفهوم الانصاف. فالمحكمة, مشكلة من قاض فرد او هيئة جماعية, لا يمكنها ان تتخذ موقفا محاب لا حد الاطراف , او تكوين حكم مسبق في القضية المعروضة أمامها وتدعي رغم ذلك الانصاف. وقد اعتبر حكم صادر عن المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان ان الانصاف الشخصي مفترض في القاضي الى ان يثبت العكس. (قضية جنائية ريمي ضد فرنسا 20 اوت 1987).
كما اعتبرت المحكمة المذكورة نفسها, في قضية Buscemi ضد ايطاليا 1999/9/16, ان رئيس المحكمة باستخدامه تعابير نشرت في الصحافة, قبل ان يتراس المحكمة للبت في القضية, فُهم منها حكما مسبقا محاب للمدعي , غير متلاءم مع مقتضيات الانصاف في أية محكمة.
لتوفر الانصاف في شخص القاضي لا بد من ضمانات منها استقلاله داخل المؤسسة القضائية نفسها, وفي مواجهة الدولة التي توظف القضاة, وكل سلطاتها الاخرى. دولة القانون تعني ان الدولة التي تصدر القوانين تُخضع نفسها لأحكام هذه القوانين . وتنص المادة 64 من الدستور الفرنسي على أن «رئيس الجمهورية ضامن لاستقلال الهيئة القضائية". كما يضاف الى هذا الاستقلال مبدا حصانة القاضي والاعمال القضائية الصادرة عنه. ومبدأ عدم مسؤولية القاضي, الذي هو اليوم موضوع مناقشات وترتيبات تختلف من ديمقراطية لأخرى.
فمبدأ الحصانة يوفر للقاضي شخصيا, وللأعمال الصادرة عنه, حماية ليس في مواجهة الدولة فقط, وانما كذلك كل ما يعزز استقلاله . الحصانة لا تجعل من القاضي سلطة سياسية , وانما سلطة مستقلة فعلية تقف في وجه كل محاولات التدخل , مهما كان مصدرها, لجعله في تبعية مؤقتة أو دائمة.
وقد احتاط المشرع كي لا يتضرر المتقاضون من مبدأ حصانة القاضي فجعل بين ايديهم وسائل حماية اذ يستطيع المتقاضي الاستفادة سلفا من وسيلة احالة الدعوى action en renvoi لسبب الاشتباه المشروع في انصاف القاضي. ووسيلة استعمال اجراءات رد القاضي récusation du juge . او اجراءات أكثر هجومية, مخاصمة القضاة prise à partie وهذا الاجراء الاخير تم الغاؤه من القانون الفرنسي.
مسؤولية القاضي:
مطلب يلح عليه الراي العام وتيارات سياسية متعددة. و مسألة تطرح في مشاريع الاصلاحات القضائية كلما طرح الاصلاح القضائي.
وحتى لا تمس المسؤولية مبدأ الانصاف المطلوب من القاضي, يجري التمييز بين الاعمال القضائية التي يقوم بها اثناء ممارسته لمهامه , والتي تبقى محمية بالحصانة القضائية, وبين الاعمال الاخرى التي يقوم بها خارج المهام القضائية, والتي هي قابلة للملاحقة.
ومن جهة أخرى يرى البعض في المسؤولية والتأديب خطورة على استقلال القاضي وبالتالي على مبدأ الانصاف, لكونها تعرضه لسلطات الاخرين. رغم ان مجلس القضاء الاعلى هو صاحب الاختصاص في المواد التأديبية, وحتى مع توسيع قانون 5 مارس 2007 لهذه المهمة, فان الثابت ان المسؤولية القضائية, الى الان, لم تؤثر كثيرا على مبدأ الانصاف.
اشترط القانون الفرنسي في الدعوى, بالمعنى الضيق, توافر مبادئ رئيسية : مبدأ الوجاهية contradictoire . وحقوق الدفاع. المادة 6 فقرة 1 من الاتفاقية الاوربية لحقوق الانسان لا تفصل بين الاجراءات والتنظيم القضائي وهو مبدأ مشترك لصالح المتقاضين. وانطلاقا من الاتفاقية الاوروبية لحقوق الانسان تبلور حق كل شخص في محكمة محايدة منصفة.
حماية المتقاضين بتوفير محكمة منصفة شاغل اساسي للمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان. فمبدأ الانصاف لا يجب ان يكون شكليا وانما واقع ملموس وواضح للجميع يصل الى مفهوم الشفافية. وهذا ما تعمل عليه في مراقبتها للأحكام المعروضة عليها الصادرة عن محاكم الديمقراطيات الاوربية.
وتؤكد بحزم على ان حق المتقاضي في محكمة منصفة حق اساسي من حقوق الانسان. وهو ما سنخصص له مقالا قادما كما اشرنا أعلاه.
د. هايل نصر
التعليقات (0)