من حقوق الانسان الاساسية:
حق الملاحق قضائيا بمحاكمة عادلة
ـ مدخل غير اكاديمي.
لامعنى للحديث عن حقوق الانسان , والاكثار منه, بمناسبة ودون مناسبة, من قبل انصار حقوق الانسان الفعليين أو المزيفين, ولا معنى للقواعد القانونية التي تحمل هذه الحقوق اذا لم تكن هناك فعلا اليات تساعد على اقرارها ورقابتها وتطبيقها وتعاقب منتهكيها, افرادا أكانوا ام مؤسسات ام دولا. واذا لم يجد الإنسان صاحب هذه الحقوق , اينما كان ومهما كان اصله او دينه او لونه او جنسه, طريقا سليما امنا ومضمونا في الوصول اليها. فدون الوصول الى الحقوق والى القضاء أي معنى يبقى عندها للحقوق وللقضاء؟
الاعلانات كثيرة, والمواثيق والعهود اكثر, والمنظمات الدولية و"الحكومية" وغير الحكومية لا تعداد لها. والتصريحات غير المسؤولة تغرق في غزارتها بعض المواقف المسؤولة. رغم ذلك فان الانسان وحقوقه ليس وليست في احسن حال.
لا شك ان وجود مثل هذه الحقوق ومفاهيمها, والثقة بها, تختلف نسبتها بين شمال كوكبنا وبين جنوبه, أو بين شرقه وغربه , اذا اردنا اعتماد مصطلح الجهات. أو بين العالم الاول والثاني والثالث, اذا اعتمدنا التصنيف العددي. والعالم النامي و السائر في طريق النمو, أو الغني والفقير, اذا اعتمدنا التقسيم الاقتصادي. بين العالم المتطور المتحضر والعالم المتخلف منتج الارهاب, اذا اعتمدنا التقسيم العنصري المهين والجارح . بين العالم الديمقراطي الحر والشمولي المستبد, اذا اعتمدنا تصنيف النظم السياسة. بين عالم الخير وعالم الشر, اذا اعتمدنا المصطلح البوشي (نسبة لبوش واليمين المتطرف والديني).. نسبة الثقة هذه لابأس بها في الشمال, او الغرب بكل مصطلحاته مع اختلاف درجتها بين هذه الدولة وتلك من دوله .
اما في الجنوب او الشرق, بألقابه , اي في غالبية الدول المحتلة منذ عقود طويلة من قبل حكامها احتلالا " وطنيا" فإنسانها الواقعة عليه الحقوق, والمرهق بالواجبات, هو خارج كل حساب, ولا تنطبق عليه المعايير الدولية ولا المحلية, فلا مجال للقياس والاستطلاع وتقدير النسب ان وجدت.
مما لا شك فيه ان المساعدات الصادقة الوحيدة, المبرمجة, الهادفة, السخية, التي يقدمها الشمال للجنوب, او الغرب للشرق, ويلاحق نتائج استثمارها, لا تقدم لغرض "إنتاج" حقوق انسان وقيم ديمقراطية , فهذه في غير وارده, وانما لإدامة الاحوال فيها على ما هي عليه ودعم ادواتها لترسيخ مصالحه, مع تحاشي دفعها دفعا فجا للأسوأ, خشية سوء العواقب.
وفي ذلك يعلن هذا الغرب براءة نفسه, براءة الذئب من دم يوسف ابن يعقوب, من كل مسؤولية مباشرة او غير مباشرة, فاعلة ام تقصيرية, عن تردي الجنوب أو الشرق, مقدما, كدليل, سيادة الدول ومساواتها. سيادة لا تنتقص منها الهيمنة. أو بعضها فهذه تختلف عن الاستعمار المباشر, وهي اسلم من الاحتلال, واجدى نفعا, يتقبلها الحاكم "الوطني" مع الاحتفاظ بماء الوجه, ولو باردا, ويقدمها لشعبه, تحت عنوان المصالح المشتركة, والتعاون المشترك, والدفاع المشترك, وحتى الحروب المشتركة للعدو المشترك. مقابل صيانة الحكم والسكوت عن انتهاكات حقوق الانسان. وعليه يبقى الانسان غير الشمالي أو الغربي, غير المتحضر, خارج دائرة الحقوق.
يُعتمد ويصبح ما ثورا قول ميشال روكار, أحد رؤساء وزراء فرنسا السابقين في تبرير الحد من الهجرة القادمة لفرنسا من الجنوب ــ نتيجة القمع والاضطهاد وضياع لقمة العيش مع ضياع الكرامة, علّ المهاجر يجد ملجأ في بلد "حقوق الانسان"!! ـ ان "فرنسا لا تستطيع تحمل كل مآسي العالم". ( لا أحد من ابناء الجنوب يطالب فرنسا او غيرها من دول الغرب بتحمل مآسيه. وانما يطالبها بعدم خلق الماسي في الجنوب, عين المكان, ومساندة المستبدين اعداء حقوق الانسان من الحكام لاضطهاد وتهجير شعوبهم) مقدمين ان كوكبنا ليس جمهورية فاضلة تسطيع تحقيق سعادة الانسان اينما كان.
وعليه لا بد, قدر الامكان, والسياسة فن الممكن, من تكريس انظمة ظالمة لتزيد الاغنياء غنى والفقراء فقرا. ولا بد من مستعبدين ومستعبدين من اقوياء ومستضعفين, ممن يتمتعون بحقوق غير منقوصة وممن تقع عليهم هذه الحقوق. من تقسيم للعمل يكرس هذه الاوضاع. وبكلمة لا بد من سيد ومسود. ومهيمن ومهيمن عليه. ومن شمال وجنوب. مع تحاشى الانفجارات قدر الامكان, بصمامات امان لحمتها التجارب التاريخية المتراكمة والقابلة للتغير الدائم على طريقة الحرباء.
اليس حصر حقوق الانسان, ولو ضمنيا , بالإنسان الغربي ــ مع امكانية شمل غيره, بالتبعية, ببعضها ان اقتضت مصلحة الغربي ذلك ــ عنصرية فعلية؟. والعنصرية معاقب عليها بالقوانين الغربية نفسها !!! عنصرية تنافي المفهوم نفسه؟. هل الانسان في عالمنا هذا هو فقط الانسان غربي التكوين والنشأة والهوى؟. اليس من صفات الانسان ليحمل لقب حر بالمفهوم الاخلاقي ان لا يقبل بالتمايز, واضطهاد غيره من بني جنسه, وان ابتعدوا عنه جغرافيا ولم يشبهوه فيزيولوجيا, واختلفوا عنه دينيا وثقافيا ولونا وعرقا وجنسا؟. أليست المساواة بين بني البشر هو ما تؤكده كل اعلانات ومواثيق وعهود حقوق الانسان التي كان من منشئيها الانسان الغربي نفسه؟. أم ان ما يكتب او يقال لا يُلزم, والاصل في الافعال وفيما ما لا يعلن وما لا يقال؟. اليس في هذا خزي؟
وحتى لا يكون الكلام مجردا, وحتى لا تكون لفظة الخزي ردا انفعاليا, وحتى لا ننام على شعارات الانسان وحقوق الانسان, الرائعة في طرحها المعيبة في تطبيقها, يكفي النظر بعيون مفتوحة وضمائر حية للجرائم الواقعة على الانسان وكل ما يتعلق به في منطقتنا العربية, وعلى الاخص في فلسطين الحالة الفريدة في العالم بتاريخها, الفريدة في معاناتها وغموض مصيرها, وكأن انسانها استثناء, انسان خارج كل وطن. انسان خارج المكان. لا تنطبق عليه المعايير الدولية المتعلقة بحقوق الانسان. عليه يمارس الاضطهاد, مباحا, وترتكب ضده كل انواع الجرائم.
جرائم:
ـ ليست عارضة وليست مؤقتة أو عابرة.
ـ ليست فردية او جماعية محدودة. تشمل في اتساعها شعبا بكامل مكوناته , وتطال معتقداته وممتلكاته.
ـ ليست عن غير عمد واصرار وترصد.
ـ ليست غير عنصرية.
ـ ليست مرتكبة من مبتدئين غير معتادين على الجريمة والاجرام.
ـ ليست ممن سجلاتهم العدلية نظيفة من عبارات: غير محكوم بجنايات وجنح متكررة. وجرائم حديثة واخرى غير متقادمة, جرائم ضد الانسانية.
ـ ليست بأيدي مسؤولين حكوميين فقط ,وانما كذلك بأيدي وفؤوس وخناجر مستوطنين وعنصريين.
ـ ليست غامضة مستعصية على البحث والتحقيق, وليست كلها في الظلام والسرية, أو مسجلة ضد مجهول هوية.
ـ ليست مرتكبة على كوكب اخر لا تصل اخباره الا لقلة قليلة من الفئات البشرية.
ـ ليس مرتكبوها الرئيسيون دون شركاء مباشرين, او متواطئين ,او محرضين, أو منتفعين, أو مبررين, أو صامتين. أو من اصناف النعام.
جرائم نوعية, مستمرة دون انقطاع منذ عام 1948, لا نشير الى ما قبله حتى لا يثقل تاريخ الجريمة على القارئ حي الضمير, ومع ذلك فهي جرائم ممنوع فيها على الضحية رفع أية قضية. ولا تخضع لولاية المحاكم المحلية أو الدولية. والا اتهم الجميع بالنازية والعداء للسامية.
جرائم استئصال تبرر على انها للدفاع عن النفس وعن الحضارة الغربية , وعن الديمقراطية وقيمها وعن حقوق الانسان المتحضر. موكول بها لكيان يطرح نفسه امتدادا لتلك الحضارة والديمقراطية وقيمها. (الدفاع عن النفس تبيحه القوانين وتبرره وتبنيه على شروط, يُذكر منها تناسب الرد مع فعل الاعتداء. ولكنه هنا دفاع فريد في نوعه لا يُشترط فيه الرد المتناسب مع الفعل. فمثلا التصدي لدبابة بحجر يبرر قذف الآلاف الصواريخ من كل الانواع والاحجام وفي كل الاتجاهات لرد الخطر الداهم او المحتمل. وقذف طائرة بحجر مقلاع يستدعي غارت جوية بكل ترسانة "جيش الدفاع", وصواريخ حارقة للبشر والحجر. فكيف اذا كان القذف بصاروخ محلي الصنع يصيب هدفا او لا يصيب, ويعرّض امن مستوطن وحياته للخطر؟).
المجرم هنا لا يحتاج لعناء التبرير فهو مجاز ومطلق اليد والصلاحية بالتصدي لشعوب همجية يفعل بها حكامها, بأساليب غير حضارية, ما يفعله هو بحضارة ومهنية !!!. وعليه تبقى جرائمه خارج كل مساءلة, ومحصنة ضد كل محاكمة وعقوبة, وكأنها خدمات انسانية مجانية لتحضير مناطق همجية.
يصادف اليوم احتفالات "الدولة العبرية" المدافعة عن النفس, منذ التكوين, بعيدها الثاني والستين. ويحتفل معها الغرب الرسمي الحضاري دون تأنيب ضمير ودون اي اهتمام بنكبة شعب مستمرة عمرها الرسمي اثنان وستين ــ تقويم المظلوم مختلف عن كل تقويم. اليوم فيه لا يحسب بالساعات وانما بطول أو قصر المعاناة. وتعادل فيه عقودا بعض السنوات ــ ودون التفات لاحتجاجات ابناء فلسطين في الاراضي المحتلة وفي اراضي الثماني والاربعين, الرافضة لان يكون الاغتصاب اساسا مشروعا في اكتساب الحقوق ولو بعد اثنين وستين عاما.
الاحتفالات الرسمية بعيد النشوء تقام بملابس حضارية. والرقصات التي تترنح فيها كل القوانين المحلية والقارية والدولية, والمفاوضات السرية والعلنية, والوعود والتصريحات, وقرارات المنظمات العالمية, وحق تقرير المصير, وحقوق الانسان, والمحاضرات في الحضارة والثقافة والقيم, مع ترنح الشاربين حتى الثمالة كؤوس قيام الكيان, وانتصارات الكيان. والتبشير بحقوق الانسان. قد يعاد احياؤها لسنوات قادمة سنوات قد تطول وقد تقصر , ولكن الراقصون لا يستطيعون الرقص الى ما لا نهاية. ليس هذا من منطق الرقص. وانما منطق التاريخ.
خزي في جبين كل متحدث بحقوق الانسان ان لم يشعر انه معني ومهان. خزي ان بقي صامتا صمت القبور. خزي في التسليم بان اكتساب الحقوق بالقتل والتدمير والاغتصاب والتشريد والطرد يصبح, امرا واقعا يرتب مشروعية.
والخزي اكبر ان بقيت لجان حقوق الانسان تساند الضحية بأسلوب مساندة المُعزّي في جنازة القضية. وان بقيت تحدد مجالات اختصاصها ونشاطها في متابعة الحالات الفردية. مبتعدة عن اثارة وادانة الانتهاكات الجماعية بحجة عدم التدخل في الشؤون السياسية.
ما ذا يبقى من مصداقية نضالها ان حصرته في مطالباتها بزيارات السجون والمعتقلات للوقوف على مدى انتهاك حقوق الانسان ,كفرد , ممن بقي على قيد الحياة في المجازر الجماعية , والاقبية الامنية, والملاحقات الفردية ؟(البحث في اسباب القتل عبثي ولا يعيد المقتول للحياة والادانة اكثر عبثية). وان بقيت تطالب , باستجداء, السماح لها بزيارة السجون والمعتقلات لقياس درجات التعذيب والاذلال, وانتهاك الكرامة الانسانية , ومدى مطابقة ذلك للمعايير الدولية. ومدى توافر الشروط الصحية في سجن السجين او معتقله ,( طول الزنزانة, عرضها, الاضاءة, وموقع المرحاض فيها, ودرجة تسرب غازاته وسوائله, ووصف بعض ادوات التعذيب بكل تهذيب) ونقلها في تقارير موضعية جدا, مهذبة جدا, دبلوماسية جدا تنزع وحيشة التعذيب عن التعذيب, لمن يريد ان يطلع من الرأي العام. كل ذلك دون اغضاب احد. فمن مهامها الانسانية مراعاة مشاعر الجلاد والضحية.
الواقع المأسوي الاليم لحقوق الانسان وتباين العمل وادواته ومجالاته بين لجانه ومؤيديها, لا يعني الوقوف ضد مفهوم تلك الحقوق, وضد الديمقراطية. فهذه قيم ناضل من اجلها الانسان منذ اول وجود له على كوكبنا, وان لم تأخذ دائما نفس المصطلحات ونفس الابعاد والمساحات.
انتفاضات الانسان ضد مضطهديه فردية اكانت ام جماعية, مثلت وتمثل صراعا غير منقطع منذ بدء تاريخ البشرية. صراع بين الظلم والعدالة. فالديمقراطية المعروفة لنا عمرها 25 قرنا. ولم يكن قد ولد بعد بوش او بلير او شارون أو المرت أو نتنياهو وغيرهم ... ليس من اجل هؤلاء وامثالهم علينا ان نكفر بتلك القيم وبميراث الانسانية. وانما العكس مواصلة النضال الطويل من اجل هذه القيم القادرة وحدها على وضع حد للمجرم والجريمة. وان تخاذلت في ذلك بعض منظمات حقوق الانسان, فانه يكفي المؤمنين بهذه الحقوق انسانية وصدق قدومهم من كل حدب وصوب ,وبصفاتهم الشخصية, للتصدي للعدوان, ودعوة لإعادة الحقوق وللسلام. وفك الحصار الظالم.
ما احوج شعوبنا لان تفك حصارها المرير بنفسها, فبفكه يسقط حكما حصار غزة .
من هذا المدخل غير الاكاديمي الذي راينا ضرورة الدخول منه لموضوعنا, "حق الانسان في محاكمة عادلة", ننصح كل كاتب في مجال حقوق الانسان في الغرب السعيد ــ كتابنا في شرقنا قليلا ما يكتبون ويقرأون حقوق انسان ــ ان أراد ان يكون واقعيا إن كتب سطرا, وموضوعيا إن نطق حرفا, ان يدخل لموضوعه من مدخل غير اكاديمي.
د. هايل نصر.
يتبع.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)