لامبالغة في القول أن الإنسانية المعاصرة قلقة أكثر من أي وقت مضى، ويتبدى هذا القلق فيما يعتري الإنسان الحالي من الأضطراب في نظرته الى نفسه، والشك في قدرته،والتساؤل الحاد حول مصيره، اي في كونه يعاني من أزمة هوية حقيقية تتمثل في غياب المعنى ذاته.
لأن من تاه عن المعنى ضاعت منه الهوية ومن افتقد الدلالة لم يستقم عنده التصور، ولعل ما يكمن في اساس هذه الحالة الوجدانية الآفاق المسدودة التي وصلت إليها الحضارة الحديثة في أكثر من مجال، وعلى غيرما صعيد ، والمأزق الذي أسلمنا إليه التطور ذاته والتقدم عينه. فالإنسان يوما بعد يوم بالرغم من التقدم العلمي الهائل وبالرغم من امتلاكه تقنيات جبارة، يشعر بفقدان السيادة، اي بأنه ليس سيد مصيره ولا مالك زمام أمره، تفلت الأشياء من سيطرته، وتأبى الخضوع لطوعه ، فما صنعه الإنسان يكاد يطغى عليه، وكأنه اصبح أسير المنظومات التي شادها، والأنساق التي خلقها، كأن ثمة قوى غفلا، لا قدرة له على التحكم بها، وكأن ثمة منطقا خفيا يتجاوزه ويتعالى عليه، فهل نحن إزاء ضرب جديد من ضروب الجبر ؟ هل نحن إزاء قدرية من نوع آخر؟ لاشك أن الأزمة الحضارية التي يعانها الإنسان منها في كل جانب من جوانب حياته، ومع كل نشاط يبذله إنما تعيد الى مسائلة مفهوم الإنسان ذاته
،ما دام هو صانع الحضارة وخالق الدلالة ، إنها تفترض الارتداد نحو ما فعله بنفسة إذ كل فكر في نهاية المطاف هو ارتداد نحو الذات، والعقل ليس أكثر من تأمل ما نعرفه من امر أنفسنا والعالم.
لقد عرف الإنسان منذ القدم بكونه كائنا ناطقا أو عاقلا أو صانعا ، ونظر اليه على الدوام بوصفه ذاتا متعالية، وها هي علومه تكشف أن لغته هي لعب رموزه وإشاراته، وكيف أن فكره ما هو إلا نسج خرافاته، وكيف أن اشياءه صارت تصنعه بعدما كان هو صانعها، وكيف أنه كلما توغل في البحث عن نفسه اكتشف العناصر التي يستبعدها من تعريفه لها، والصفات التي ينفيها عنه، والمراحل البائدة التي تجاوزها، فذاته هي محصلة بناه التحتية واللاشعورية، أنها استعادة أنا المعرفة، التي هي سحيقة في قدمها، أنماط منسية في أقاصي الذاكرة، على قدر ما تبدو مجهولة الأصول والأسباب مستعصية على الفهم والتعليل.
إن علوم الإنسان تكشف مدى بعده عن المعرفة بنفسه، وعما يشوب وعيه بذاته من أوهام، وما ينطوي عليه تصوره من خداع وغرور، إنها تكشف ما يكمن في أساس الإنسان، جدل في أسباب المعني دون العلم بحقيقتها، إن هذه التعرية التي قام بها العلم هي التي حطت من مقامه، وهي التي فضحت صورته، هذه الصورة التي يعبر عنها بالاغتراب الذي يؤرق ذاته ويشطرها الى ذوات عديدة ،ونقصد بذلك الذات الغربية بما هي ذات تتسم بالنظرة النقدية والوعي المتصف بالتشكيك والسلب وبما هي صاحبت التجربة التاريخية الحديثة التي انبثق عنها ما يطلق عليه علوم الإنسان ، وبالفعل يمكن الحديث اليوم عن بروز وعي نقدي حاد ينتصب بين العقل الغربي وذاته ، وعي يبلغ او بلغ حد التضاد والنفي، ونحن نلمس اثر هذا الوعي لدى أكثر من مفكر وفي ميادين علمية مختلفة ، ونتبين أثره على صعيد النظر في الذات كما على صعيد النظر في الآخر، ويتجلى هذا الموقف النقدي والسلبي في محاولات التفكير بالأصول الثقافية، والذهاب فيما وراء المعارف التي تكونت في أذهان الغربيين عن أنفسهم، وعن الآخر والعالم، ونعني بذلك محاولات التنقيب عن أثريات هذه المعارف ونبش جذورها، والإبانة عما تنطوي عليه من الأوهام والاختلافات ، وهذه المحاولات ليست جديدة بالكلية ولا هي وليد اللحظة الراهنة، لقد افتتحتها أعمال مفكرين أمثال نيتشة، في اصول الأحكام الخلقية، وفرويد في منطق اللاشعور للذات، والتوسير في علم نفس اللغة، ووايتهد في النقد المنطقي وسولز في علم اللامنطق في العلم، وماركس في آلية تحليل الأنتاج، هذه الأعمال تستعيد من خلال قراءة جديدة للقول وللفكر، التصورات الماورائية والنماذج الخلقية التي أسهمت في قولبة العالم الغربي، والغاء مفهوم الذات و تغيير المفاهيم الأخلاقية وتقويض فلسفة الوعي واللاوعي، لأن الوعي هو إخفاء للعلاقات الأجتماعية ، والذات هي إعادة تشكيل للتباين والاختلاف، والمثال الخلقي هو طمس لإرادة القوة ، والعقل هو تستر على العقل الباطن. ولعل ما فعله نيتشة في البحث عن أصول الاخلاق اي في الذهاب الى ما يتعدى مفهومي الخير والشر، للتنقيب عن جذور اللغة الخلقية التي يتحدث بها الغرب عن نفسه، لمن أهم واخطر المحاولات التي بذلت لتعرية الذات الغربية، وذلك بالقدر الذي يكشف فيه ذلك التنقيب عن الهراء الذي تستخدمه اللغة الماورائية، والكينات الوهمية التي يصطنعها العقل، وعما يتسم به الوجود من الصيرورة والاختلاف والتشتت ، وما ينطوي عليه العالم من الخواء ، إن محاولات فضح الفكر الماورائي والخلقي التي مهدت السبيل لزوال ذلك المفهوم الذي يتناول عبرها الإنسان من زاوية المفارقة والتعالي، قضية هي بحاجة الى اعادة نظر من عدة زوايا مختلفة. ذلك اننا إزا ضرب من قيام تفكير منطلقه عدم تطابق الأشياء والكلمات على حد تعبير فوكو، ووجود مسافة بين الحقيقة ونفسها، وتنافر المعاني وتفاضل الدلالات ، لذا فإن القراءة التي يتكشف عنها هذا الضرب من التفكير تعتبر أن كل نص ينطوي على فراغ ما، وأن كل قول هو ضرب من التستر، إنها قراءة تقوم على فضح النص، وتتجه الى معرفة ما لا يقوله ، الى البحث في آليات وشروط وقواعد توليد المعنى من اللامعنى، والى كيفية إنتاج الذاتية من الفوارق، والى تبيان كيف ينسج الكلام من الأخطاء والهفوات وكيف يغالب السوي اللاسوي ، وكيف يتأكد الحضور من النقص والغياب.
من هنا لا ينبغي أن يفهم البحث عن الأصول بحسب ما فعله نيتشة ، التفتيش عن أصل أول صدرت عنه الأشياء، أو عن جوهر صاف ينبغي جلاؤه، فالأصل لا يعني هنا من أين صدرت الأشياء ، بل كيف صدرت، وهذا ما أوضحه هايدغر واذا كانت الأصوليات أو علم الأصول يبحث عن بداية، فكل بداية هي تركيب وكل أصل هو أشتقاق و كل ما هية هي تشكيل .
فالمعنى هو استعادة، والقراءة هي تأويل ، والحقيقة في النهاية ليست سوى ما نقوم بإعادة تشكيله.
وإذا كان عالم الأصول ينظر في تاريخ الاشكال الماورائية على إختلافها، فليس لكي يردها الى معنى واحد أو يحيلها الى أصل أول ، بل لكي يقف على كيفية انبثاقها وتكونها ، لأنها أشكال أشتقاقية أو بمعنى أدق تأويلات متلاحقة، وليس ثمة تأويل نهائي للحقيقة فالحقيقة سيل من التأويلات.
وإذا كان نيتشة قد افتتح علم الأصول فإن أثريات المعرفة التي يعتبر فوكو رائدها اليوم، إنما هي تنقيب عن الأصول التي قامت عليها العلوم الحديثة، وفي الحقيقة إن مباحث فوكو في الجنون والمرض والعقاب، هي بمثابت حفريات دقيقة ومذهلة في الأسس التي إنبنت عليها الحضارة الحديثة، وهي تمثل أثريات الأنساق المعرفية التي شكلت الوعي الغربي منذ عصر النهضة .
وإذا كانت الأفكار التي سبقت فوكو ساهمت في الكشف عن مقدار الوهم الذي كمن وراء الأنساق الماورائية، والمتمثل في الأعتقاد بوجود ماهيات ثابته، ومفاهيم خالدة وذوات متعالية ، فإن حفريات فوكو، تعدت علوم الإنسان الى الأسس التي قامت عليها القواعد التي حكمت نشوءها ، أي الى ما جعل هذه العلوم أمرا ممكنا ، إن هذه الحفريات في تاريخ الجنون والعيادة والسجن والمدرسة وتاريخ العيادة والعائلة، تكشف كيف أن علوم الانسان لم تنشأ في النهاية إلا على جثة الإنسان ، أي أنها تكشف مبلغ الوهم في التعريف الذي كونه الإنسان عن نفسه وعن العالم عن الوجود واللاوجود.
تيسير الفارس
كاتب أردني مقيم في نيوزلاندا
التعليقات (0)