تعرض المسيحيين الاوائل للتعذيب :
لم يكن الرومان أتباع دين سماوي . كان لهم الهة متعددة وكل أله يرمز لرمزية معينة . ولم يكن التعذيب والسادية أمر غريب عليهم فكانوا يتمتعون بمظاهر التعذيب شعبا وحكومتا . حيث كان المجتمع مجتمع طبقي ليس فيه للعبيد حقوق تذكر . ويحق للسادة تعذيب عبيدهم وسجنهم في سجون خاصة وفق القانون . وكانت مظاهر التعذيب العلني أمر روتيني جدا . كان الرومان يفرضون على اليهود والمسيحيين تقديم القرابين للالهة الرومانية . لكن اليهود كان لهم وضع خاص ويعتبرون شعب مستقل له عاداته وتقاليده لذلك حين يرفضون تقديم القرابين يتفهم الجميع ذلك . لكن حين رفض المسيحيين تقديم القرابين تعرضوا لضغط أجتماعي و رسمي لأنهم يعتبرون منشقين عن اليهود لكنهم لم يفرضوا نفسهم كدين جديد وشعب جديد له خصوصيته لذلك كانوا عرضة للقمع الاجتماعي والرسمي أكثر من اليهود . وأليكم بعض نماذج التعذيب التي مارسها الرومان ضد المسيحيين وغيرهم .
السوط الروماني
يستخدم الرومان نوعين من السياط الاول مصنوع من جلد الثور ومثقل بمعدن الرصاص وهو الأكثر رعبا . حيث كان يؤدي الى تشقق اللحم بشكل عميق . وكان القضاة يأمرون الجلاد بضرب المذنب الى أن يتعب الجلاد ولا يقوى على رفع يده . وكان يستخدم كثيرا مع العبيد ويؤدي غالبا الى الموت . أما النوع الثاني من السياط فهو أقل رعبا لانه كان مصنوعا من رقائق جلدية ويستخدم مع العقوبات الثانوية . ومن الوضعيات التي يتم فيها جلد العبيد هو تعليقهم من ايديهم وربط أثقال بأرجلهم . وكان من يقوم بجلدهم نوع خاص من الجلادين يلقبون باللاتينية carnifices.
ميدان المجالدة
وهي ظاهرة من الظواهر الشعبية في الأمبراطورية الرومانية حيث يعدم في الميدان مجموعة من المتهمين أمام الجمهور من خلال أطلاق حيوانات متوحشة عليهم . فضلا عن الجلادين الذين يستخدمون السيوف والسياط . ومن الامور الغريبة أن السلطات المشرفة على تنفيذ هذه العملية كانت تحرص على عدم أنتحار المتهم قبل التنفيذ . وفي احدى المرات أكتشف المنفذين حين ذهبوا لجلب المتهمين لادخالهم لميدان المجالدة أن المتهمين أنتحروا جميعا من خلال خنق بعضهم البعض الاخر للتخلص من العذاب .
الصليب
وهو أداة من ادوات التعذيب في عصر الرومان كانت تستخدم مع الخارجين على القانون بصورة عامة وهي عبارة عن خشبة عمودية مثبت بها خشبة عرضية يربط بها الشخص المراد صلبه بالحبال ثم تدق في أطرافه المسامير لتثبيته ويترك الى أن يموت وأبرز شخص تعرض للصلب هو السيد المسيح بتحريض وألحاح من جمهور اليهود . وكان يستخدم الصليب أيضا بطريقة أخرى حيث يساق العبيد مشيا لمسافة طويلة مطوقين بطوق حول أعناقهم يصل الى الأكتاف مع ربط اليدين والفخذين بالسلاسل و بعدها يعلق عليه العبيد المحكوم عليهم بالأعدام ويتم ضربهم بالسياط حتى الموت .
الحصان الفتي
وهي أداة تستخدم لايلام المتهم بقوة وتكون على شكل حصان يتمدد عليها المتهم ويثقل بالأثقال .
حرق المتهم حيا
وهي من الاساليب التي أستخدمها الامبراطور الروماني ماكسيمينوس . وأستخدمت ضد المسيحيين وكان الغاية منها هي أن يعاني المتهم أطول وقت ممكن وفي نفس الوقت يشاهده أكبر عدد من الناس ليكون عبرة . ولم تكن العملية حرق مجرد فقط . بل كانت أكثر من ذلك حيث كان يعلق المتهم على ارتفاع عالي ويقوم الجلاد بتقطيع جسده بحيث يتحول الى جسد مشوه وبعد ذلك يشعل النار تحت قدميه الى أن يذوب لحمه مثل الشمع وبعدها تظهر عظام قدميه بشكل يثير الرعب .
ويذكر أن الامبراطور الروماني ديكوس (201-151م) كان يحاول توحيد الامبراطورية من خلال أستغلال العداء الشعبي للمسيحيين . فأصدر مرسوم رسمي يقضي بقمع المسيحيين . وما دفعه لذلك هو تأثر الكثير من الناس بأفكار المسيحية و أهمالهم للالهة الرومانية فاشعره ذلك بخطورة المسيحية على أركان الدولة فحاول أحياء الديانة التقليدية للرومان وتقويتها بعد أن بدأت تضعف بشكل تدريجي .
المسيحية أمر واقع
أنتهت عمليات القمع الاجتماعي والرسمي للمسيحية بشكل تدريجي في نهاية القرن الثالث الميلادي تقريبا . حين تحول المسيحيين الى نسبة عشرة بالمئة من السكان وحين بدأ المجتمع يتقبل تدريجيا واقع أن المسيحية دين مستقل والمسيحيين شعب مستقل . ولأن عمليات الأضطهاد التي كان يتعرض لها المسيحيين كان يقابلها عمليات بناء اداري وكهنوتي رسم معالم دين مستقل له قواعده المميزة والثابتة . فضلا عن أنشغال الامبراطورية بامور أخرى أكثر أهمية من ملاحقة المسيحيين . مما أدى الى أعطاء المسيحيين مجال للتطور والتمدد .
قسطنطين
تغير الحال كليا حين أعتنق الأمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية (272-337م) لتتحول المسيحية الى دين الدولة الرسمي وتبدأ مرحلة جديدة . أعلن قسطنطين أعتناقه المسيحية . واعاد الاملاك المصادرة من الكنيسة . واعاد للمسيحيين اعتبارهم . وهناك أكثر من راي حول سبب اعتناقه للمسيحية فهناك من يقول انه أعتنقها صادقا ومؤمنا . وهناك من يقول أنه أعتنقها لاغراض سياسية . وفي كلا الحالتين تحول قسطنطين لاحقا الى أكبر المدافعين عن المسيحية وأكبر المبشرين بها . حيث كان يقوم بقمع كل فكر الحادي . والجدير بالذكر أن اعتناق قسطنطين للمسيحية التي كانت تدعو الى التسامح . لم يحوله الى حاكم لا يريق الدماء . فيقي كما كانوا اسلافه حاكم مستبد قمعي مطلق . وكان يبرر ذلك بانه ضرورة للوقوف بوجه الفوضى السائدة .
قام قسطنطين بالمزاوجة بين الملكية وبين الكهنوت المسيحي . كانت وجهة نظره تقول ان النظام الروحي للكنيسة يتلائم مع نظام الحكم . وسيؤدي بالنهاية الى نشر دين يوحد المجتمع . لكن خطواته كانت حذرة وذكية وتدريجية لانه كان يعلم جيدا ان معظم الجمهور لا زال يقدس الالهة القديمة للرومان . وظهر ذكائه جليا في خطبه الشعبية التي كان يستخدم فيها مصطلحات عامة لا تظهر ميله للمسيحية . حتى أنه كان يقوم بدوره الرسمي ككاهن اكبر للالهة التقليدية لمعظم الجمهور .
قام قسطنطين بقمع الملاحدة كتعبير منه عن ولائه للدين المسيحي ومفردة ملاحدة . لا تعني بالضرورة عدم الايمان بوجود الله . فكان يتهم بالالحاد من يدحض النظرية المسيحية التي تقول أن المسيح والله حالة واحدة . ويتهم بالالحاد كذلك من كان يقول أن المسيح أنسان عادي مبعوث من الله . كل هذه الافكار كانت تعتبر ضرب من ضروب الالحاد . وكان من هؤلاء أساقفة وقساوسة لهم شعبية وتاثير على ارض الواقع تم نفيهم وطردهم من الكنيسة وحرقت مؤلفاتهم .
عام 330 قرر قسطنطين اعلان بيزنطة عاصمة للدولة الرومانية التي كان قد حول أسمها الى روما الجديدة عام 324 . وبدأت بذلك مرحلة جديدة أصبحت فيها المسيحية دين الدولة الرسمي وأصبح لرجال الدين المسيحيين نفوذ وقوة بعد أن كانوا مضطهدين ومقموعين .
التعذيب بأسم المسيحية :
في القرن التاسع الميلادي لم يكن التعذيب بأسم الدين أمر شائع بل أن البابا نيكولاس الاول ارسل رسالة الى أمير بلغاريا ينتقده فيها على أستخدام التعذيب في أستجواب المتهمين ويقول في نص رسالته :
يجب أن يكون الاعتراف بأي جرم أو جناية عفويا ولا يجب الحصول عليه بالقوة . ألن تصاب بالخجل والعار اذا لم يظهر الاثبات الجرمي بعد التعذيب ؟ وهل تدرك مدى الظلم الذي يسببه أجراء التعذيب وأذا لم يكن الضحية يملك قوة كافية لمقاومة التعذيب يعترف بذنبه دون أن يكون مذنبا حقا . من يكون المجرم الحقيقي عندها ؟ أذا لم يكن ذلك الرجل الذي أجبر على الاعتراف بالقوة بذنبه ؟
في القانون الروماني كان التعذيب مسموح به على العبيد من قبل سادتهم . وبما أن الأستعباد ممنوع ومحرم في الديانة المسيحية , لذلك لم يكن للتعذيب رواج كبير بين المسيحيين .
نظام التحقيق والاستقصاء :
وهو نظام أصدره الامبراطور شارلمان في القرن التاسع ويخص المحاكم العلمانية و يقضي بأعطاء الصلاحية للمفوضين القانونيين للملك في التجوال في ارجاء الأمبراطورية لاجراء التحقيق الميداني في القضايا المدنية والجنائية ونزاعات الملكية .
بمرور الزمن بدات تتبلور أتجاهات فكرية جديدة في الكنيسة (في أوربا حصرا) تبرر أستخدام التعذيب , منها مثلا :
- الغاية تبرر الوسيلة فمن كان غايته حماية الدين والدفاع عن فكرة وجود الله ما الذي يمنعه من أستخدام وسائل قاسية لأنه في النهاية يريد الوصول الى غايات سامية ونافعة للبشرية .
- أن الله لا يعاقب من ارتكب الخطيئة مباشرة وقد يعاقبه في العالم الاخر , لذلك قد يكون المتهم الذي يدعي البراءة مذنب لكن الله لم يحاسبه في نفس اللحظة على خطيئته وكذبه . فما المانع أذن من تعذيبه لمعرفة الحقيقة .
- لو كان من يتعرضون للتعذيب ابرياء سيحميهم الله من العذاب أما لو كانوا مذنبين فلن يحميهم . وبهذا لن يتعرض بريء للعذاب أبدا .
وغير ذلك من الافكار المشابهة التي تبرر التعذيب وتشجع عليه بوجه لا يدع مجال للشك في صحة هذا الفعل ومباركته من الرب .
المحاكمة التهويلية
بدأت المحاكم تنتهج منهج تعذيب المتهم بالحديد الساخن وأعلامه أنه لو كان بريئا سيبرد الحديد ولن يصيبه أذى . ليعترف بشكل مباشر في حال كان مذنب . في القرن الثالث عشر ظهر أسقف معارض لهذا النوع من التعذيب . اسمه بيتر شانتر يقول : ( أن شرط النجاة من محاكمة التعذيب دون اي أذى هو نوع من المعجزة التي تناقض العهد القديم الذي يقول - يجب أن لا تجرب الرب الهك - وذكر عدة نماذج لمحاكمات عذبت اشخاص وتبين لاحقا أنهم أبرياء .لكن محاولات الأسقف بيتر بائت بالفشل الذريع . وأستمر هذا النوع من التعذيب . بل أصبح أكثر اتساع . وكان يمارس على من يتهمون بالهرطقة . وكان يتهم بالهرطقة أي شخص لديه فكرة جديدة تختلف عن الأفكار المسيحية التقليدية حتى لو كان أختلاف بسيط .
نظرا لتفشي الفساد المالي والاداري تم منح القاضي الكنسي صلاحية القاضي والمدعي العام في نفس الوقت لأختصار الوقت في محاكمة المفسدين في الكنيسة . وتم منحه نفس السلطة لاحقا في محاكمة المهرطقين . وفي عام 1215 أستبدل هذا النوع من المحاكمات بمحاكم التفتيش .
محاكم التفتيش :
وهي محاكم دينية مختصة في محاربة الهرطقة والكفر والالحاد . وأتفقت هذه المحاكم مع السلطات المدنية على أن عقوبة الاعدام هي العقوبة الاكثر عدالة بحق من تثبت عليه الهرطقة .
الألبيجيين (المانوية – الثنوية)
من أهم العوامل التي أدت الى تعاظم قسوة محاكم التفتيش وأزدياد بطشها هو ظهور الألبيجيين في اواخر القرن الثاني عشر . والذين تأثروا بفلسفة الامير الفارسي ماني الذي أعتبر نفسه نبيا , و بشر بعيقدته في القرن الثالث الميلادي . وكانت عقيدته عبارة عن مزيج من الاديان ( الزرادشتية والمسيحية والبوذية ) وكتب كتاب ليكون كتابه المقدس كنبي مرسل من الله وأسماه الأنجيل . والمانوية تقوم عقيدتها على أساس وجود ألهين . واحد يمثل الخير أو النور والاخر يمثل الشر او الظلام . أما أله الخير فهو أله بعيد ليس مهتم جدا بأفعال الجنس البشري ولم يخلقهم أصلا . والأله الاخر هو الأله الذي يؤمن به اليهود والمسيحيين وهو الاله الذي خلق السموات والارض وخلق الانسان وهو مسؤول عن نتائج خلقه للحياة وكل ما فيها من شر . وبناءا على مبدأ أن الأله الذي خلق الحياة هو اله الشر , كان أتباع المانوية يجدون الحياة شيء ليس ذو قيمة وليس هناك داعي من أطالتها والحكمة تكمن في تقصيرها . من خلال عدم ممارسة الجنس الذي يؤدي الى أنقراض الجنس البشري .
كان المسيحيين المتأثرين بالعقائد المانوية يعتبرون في نظر الكاثوليك مذهب منحرف منشق عن المسيحية . ومن أبرز المتأثرين بها هو القديس أغسطين . وحتى بعد قمعهم بشكل نهائي بقي فكرهم مزدهر . كان كهنة الكنيسة الكاثوليكية يعيشون حياة مرفهة مليئة بالجاه والملذات يقابلهم أتباع المانوية الذين يعيشون حياة التقشف والفقر والعفة بأرادتهم , مما أدى الى أزدياد شعبيتهم وأزدهار فكرهم خصوصا في بلغاريا . وأتسعوا بعدها ليصلوا الى أجزاء من ايطاليا وفرنسا . تعاملت الكنيسة الكاثوليكية بتسامح مع أتباع هذا المذهب لمدة خمسين عام الى أن جاء الوقت الذي اتسعوا فيه وأصبحوا يشكلون خطر على الكنيسسة . وفي القرن الثالث عشر قام الراهب الاسباني سانت دومينيك مؤسس الطريقة الدومنيكانية . بزيارة مدينة تولوز الفرنسية معقل الثنويين ولم ينجح في أقناع الا شخص واحد منهم في العدول عن افكاره . وبعدها أرسل البابا شخصين من قبله لحاكم هذه المدينة محاولة منه في أن يتعاون معه على أعادة أتباع هذا المذهب المنشق الى الكاثوليكية لكن محاولته بائت بالفشل وتم أغتيال مبعوثيه في طريق العودة مما أدى الى غضب البابا بشدة وأعلانه حملة صليبية ضد هذه المدينة . ولم يساند البابا في هذه الحملة الأ حاكم واحد لمدينة أنكليزية كان عائدا لتوه من حملة صليبية أخرى . فقام الجيش الصليبي المكون من محاربين قدامى ومرتزقة وأنتهازيين بمحاصرة المدينة والاشتراط على أهلها تسليمهم 222 مهرطق مقابل فك الحصار فكان رد الاهالي هو الرفض فأقتحم الجيش المدينة وهدم جدرانها . فلاذ الكثير من ابناء المدينة بالكاتدرائية . ظنا منهم أن الجيش سيمتنع ويتعفف عن مهاجمة دار عبادة . لكن الجيش أشعل النيران بهذه الكاتدرائية وحين قال لهم أحد موفدي البابا أن أغلب الموجودين في الداخل من الكاثوليك أجابه أحدهم : ( ليحترقوا جميعا وسيعرف الله من هم أتباعه الحقيقيون ) وبأستثناء هذه المجزرة تم أحراق 400 من أتباع الألبيجيين . وبعد أن أشتد الحصار عليهم هربوا الى قلعة جبلية وحوصروا فيها لعدة سنوات . واعلنوا أستسلامهم مجبرين بسبب تعرض المياه داخل القلعة للتلوث . ورفض أكثر من 200 شخص منهم أنكار عقيدتهم . وتم أحراقهم بالنار ويذكر انهم كانوا يسيرون باتجاه النار وهم ينشدون أناشيدهم الدينية . ولم تستطيع الكنيسة القضاء نهائيا على المانويين ألا بعد حوالي قرن من الزمن واعدم اخرهم وأسمه بيليباست حرقا عام 1321.
من أساليب وأدوات التعذيب لمحاكم التفتيش :
1- الأسترباد :
يتبع ...
المصادر :
انظر-ي : تاريخ التعذيب – براين اينز- الدار العربية للعلوم
أنظر-ي : من تاريخ التعذيب في الاسلام – هادي العلوي - المدى
أنظر-ي : موسوعة المعرفة – دكيوس – مصدر الكتروني
أنظر-ي : موسوعة المعرفة – قسطنطين الاول – مصدر الكتروني
أنظر-ي : شبكة المعرفة الريفية – أضطهاد المسيحية وتطورها - مصدر الكتروني
أنظر-ي : موقع مجتمعي – تاريخ المسيحية – مصدر الكتروني
أنظر-ي : موسوعة تاريخ أقباط مصر – بقلم عزت أندراوس – مصدر الكتروني
التعليقات (0)