لا تلم غيرك على سر أفشته نفسك.
الرئيس المدير العام لشركة " سونطراك" و ستة من أعلى إطارات الشركة متهمون بالرشوة. هل يجب أن نصدق ؟ أنا لا أصدق... و سأعود إلى هذا الموضوع.
منذ أيام قليلة توفي مصطفى بلوصيف. بلوصيف، لم يكن عسكريا يحمل رتبة " لواء" فحسب، بل كان أيضا في فترة من الثمانينات، الرجل القوي الثاني (أو الثاني بالموازاة مع رجل ثان آخر) بعد الرئيس الشادلي بن جديد على اعتبار أن بلوصيف كان الرقم الأول في وزارة الدفاع الوطني. الرجل أُوقف عن مهامه فجأة، ثم أُقتيد إلى محكمة عسكرية حكمت عليه بالسجن بعد إدانته في قضية تتعلق بالفساد و اختلاس أموال عمومية.. و بالفعل زُجُ به في السجن.
هل كان يجب أن نصدق المسؤولين الجزائريين عندما قالوا أن مصطفى بلوصيف كان لصّا ، و أن اللصوصية و اللصوصية وحدها هي سبب إنهاء مهامه و محاكمته و سجنه أم أنه كانت هناك أسباب أخرى، لم يكن من الممكن لهذا الشعب الكريم أن يعرفها ؟ الذين لم يصدقوا رواية نظام الحكم آنذاك كانوا مقتنعين بأن القضية و ما فيها أن الززاير آنذاك كان لديها مشروع كبير لتغطية كل شبر من أرض الوطن بأجهزة "رادار". المشروع يُقالُ أن البلد الذي كان يجب أن يستفيد من صفقته، لم يكن سوى فرنسا. الجنرال مصطفى بلوصيف الذي كان في ذلك الوقت أمينا عاما لوزارة الدفاع الوطني رفض المشروع، و يُقالُ أن ضباطا سامين كثيرين في المؤسسة العسكرية كانوا يشاطرونه الرأي نظرا لتكلفة المشروع الكبيرة جدا ، حيث يُقالُ أن قيمة المشروع كانت في ذلك الوقت تتعدى الأربعة مليارات فرنك فرنسي ، و أن المشروع، لو أُنجز كان كفيلا بأن يهدد سيادة نظام الدفاع الجوي الجزائري بأكمله، لأنه كان سيبسط سيطرة فرنسا على الجزائر من خلال تلك الرادارات.. أو هكذا قيل. و لهذا السبب رفض بلوصيف باستماتة المصادقة على المشروع . و يُقالُ أن قائد قوات الجيش محمد العماري هو الذي أرادت له الأقدار أن يمضي على مشروع مماثل عام 1995 .... و سبحان الله، أمضى الصفقة لحساب فرنسا !.. و سبحان الله مرة ثانية، أمضاه بتكلفة أكبر من التكلفة الأولى ! .. لا علينا.. لنعود إلى قصتنا..
بلوصيف إذن، و لأنه رفض ذلك المشروع، كان عليه أن يدفع ثمن " الخطيئة" فأعد له الرئيس الشاذلي بن جديد - حسب ما قيل و يُقال- ملفا يتضمن تهم فساد يُقالُ أن " الأصدقاء الفرنسيين" هم الذين وفروا الدلائل على صحتها... و من ذلك تفاصيل حساب مفتوح بأحد بنوك باريس باسم بلوصيف و أشرطة سمعية بصرية يظهر فيها السيد بلوصيف جنيا إلى جنب (...) مع عميلات لبنانيات الأصل كن يعملن لصالح المخابرات الفرنسية و كذا أشياء أخرى على صلة بعيادة خاصة معروفة كائنة بمدينة نويي الفرنسية، قيل أن بلوصيف كان يتلقى منها أموالا كبيرة.. و باختصار أشياء عديدة تم جمعها من هنا و هناك، لتأكيد صفة الفساد على الرجل.
الذين لم يصدقوا في ذلك الوقت أن اللصوصية هي السبب الوحيد الذي جعل نظام الشادلي بن جديد يتخلص من بلوصيف، بتلك الطريقة ( المحاكمة و السجن)، كانوا متيقنين من أن رحيل بلوصيف من منصبه كان لا يخدم إلا طرف واحد.. فرنسا و مخابرات فرنسا. و لمن يجهل، فليعلم أن الحرب بين رجال السلطة في الجزائر منذ الاستقلال كانت و لا تزال قائمة بين من هم " أصدقاء" (حتى لا أقول أتباع) فرنسا و بين " أصدقاء" الولايات المتحدة الأمريكية.
و يشهد العالمون بخبايا السلطة أنه من بين الأخطاء الفادحة (و إن لم تكن أخطاء في الحقيقة) التي ارتكبها الراحل محمد بوضياف عندما قاد البلاد أو حاول أن يقودها لبضعة أشهر،خطأ القرار الذي اتخذه بإعادة محاكمة مصطفى بلوصيف. إعادة المحاكمة تلك، جعلت الأوزان الثقيلة في نظام حكم الشادلي بن جديد تخشى جرّها أمام المحاكم و جعلها تدفع لثمن أبهظ من الثمن الذي دفعه بلوصيف ربما. و لكم أن تتساءلوا: محمد بوضياف - عن حسن نية- هل كان سيتخذ قرار إعادة محاكمة بلوصيف لو لم يحصل على ملف يكشف النوايا الحقيقية للذين قرروا التضحية ببلوصيف بتلك الطريقة المهينة؟ علما أن المغتال محمد بوضياف كانت تربطه علاقة صداقة وطيدة بأشهر قائد للمخابرات الجزائرية المغتال قاصدي مرباح.
الآن أعود إلى قصة سونطراك..
لقد اعتدنا في الجزائر، أن نصف رئيس مجلس الأمة بالرجل الثاني في الدولة، على اعتبار أنه في حالة وفاة رئيس الجمهورية أو في حالة وقوع أي طارئ يمنع الرئيس من الاستمرار في ممارسة مهامه فان رئيس مجلس الأمة هو الذي يضطلع بمهمة تسيير شؤون الأمة إلى غاية إجراء انتخابات رئاسية أخرى... هذا ما يريده العرف الدستوري في بلادنا إذن، لكني شخصيا، لا أفهم لماذا كنت دائما أعتبر الرئيس المدير العام لشركة "سونطراك" هو الرجل الثاني في الدولة ! أكيد لأنني كعدد كبير من الجزائريين، أعرف بأن "سونطراك" هي " الزّيزة" التي نرضع منها جميعا منذ 5 جويلية 1962، و إن كنا لا نرضع كلنا بنفس الجرعات، و هذا أيضا أمر لا يجهله حتى غير الجزائريين، فالقطرة السوداء التي تضخّها "سونطراك" هي التي تضمن لنا الدولارات التي بها نشتري القمح ، الفرينة اللوبيا و العدس و الدواء... و بفضل تلك الدولارات أيضا نتكرّم على لاعبي المنتخب الوطني لكرة القدم... الخ.
أنا إذن، كنت دائما - كما قلت- و لا أزال أعتبر الرئيس المدير العام لشركة "سونطراك" هو الرجل الثاني في الدولة بعد رئيس الجمهورية.
آخر الأخبار تقول أن الرجل الثاني في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، بمنظور المواطن جمال الدين حريز، قد تم وضعه تحت المراقبة القضائية بعدما استمع إليه واحد من قضاة التحقيق في قضية رشوة !
الرجل الثاني في الززاير، بعد الرئيس، متهم بالرشوة !!
الرجل الثاني الذي انتقته الدولة للسهر على " القطرة"، و ستة ( 6 و ليس 2 أو 3 )... بل ستة من أكبر الإطارات المسيرة لشركة "سونطراك"، متابعون بتهم الرشوة و أخواتها و بنات عماتها و خالاتها.
عندما تعلمون أيها الأصدقاء بأن الرجل رقم واحد في شركة "سونطراك" و أكبر تسعة إطارات مسيرة في نفس الشركة بمن فيهم نائب الرئيس المدير العام، متهمون بالرشوة، لا أظن أنكم ستختلفون حول كون سونطراك " خلات"... كل قادتها زُجّ بهم في زنزانة على سبيل الحبس الاحتياطي، و لم يبق منهم إلا قائدهم الأعلى - الرئيس المدير العام - الذي وُضع تحت الرقابة القضائية... سونطراك " خلات" !
و عندما تعلمون أيضا، أصدقائي بأن " الشاف" الكبير لسونطراك و الجماعة التي تشاطره تسيير الشركة، متهمون بالرشوة ، قد لا تتعجبون كثيرا، و هذا ليس فقط لأننا لم ننس بعد، فضيحة مشروع الطريق السيار، و الأمين العام لوزارة الأشغال العمومية، الموضوع رهن الحبس الاحتياطي كما أنكم قد لا تتعجبون لسبب بسيط و هو أن الرشوة في بلادكم و بلادي أصبحت مجرد نشاط ثقافي، غير طبيعي هو من يحتار في أمر من يمارسه.
لكن، أيها الأصدقاء، عندما تعلمون أن من بين التهم الموجهة للرئيس المدير العام لشركة سونطراك و إطاراته الستة، تهمة يسميها القانون " تكوين جمعية أشرار"، لا أدري إن كنتم ستضحكون أم أنكم ستبكون أم أنكم ستضحكون بعين و تبكون بأخرى!
يا جماعة الخير، عندما ننام و نستيقظ لنكتشف أن الذين يشرفون على تسيير المؤسسة التي تضمن للبلد 98 % من صادراته ، متهمون بتكوين "جمعية أشرار" ، بصراحة لا أستطيع شخصيا إلا أن أخرّب ذاكرتي بحثا عن اسم ذلك المفكر العالمي الذي قال ذات مرة: " كفاكم هذيان، لا يوجد شيء اسمه الأمل" !
يا جماعة، إن " سونطراك" ليست مجرد شركة... إنها دولة داخل دولة... لا بل أقول أن " سونطراك" هي الدولة، و عندما أكتشف أن المسؤول الأول على هذه الدولة المسماة " سونطراك" رفقة أكبر وزراء حكومته ( أنا أتحدث عن حكومة سونطراك) متهمون بتكوين جمعية أشرار، لا أخفي عنكم أنني أنسى اسمي و جنسيتي... لأن بعد هذا الذي حدث و الذي كان يجب توقع حدوثه، و الذي كنا شبه متأكدين من أنه حدث و يحدث و سيبقى يحدث، لا أعرف من ذا الذي سيكون بمقدوره على أن يعيد إلينا الثقة و الأمل في أي شخص.. و في أي شيء. اسمحوا لي إن قلت لكم بأنني لا أصدق كل ما قيل عن " سونطراك" !
نعم.. لا أصدق و أرفض أن أصدق !
لا أحد ينكر أن اسم " سونطراك" يقترن دائما باسم السيد شكيب خليل. هذا الأخير ما هو إلا وزير الطاقة و المناجم. و لكن شكيب خليل ليس مجرد وزيرا وصيا على " سونطراك"، بل هو أكثر من ذلك بكثير... إن شكيب خليل هو الذي اختار محمد مزيان، رئيسا مديرا عاما لشركة " سونطراك" عقب وفاة الرئيس المدير العام السابق جمال الدين خان. و محمد مزيان الذي اختاره شكيب خليل كان مديرا مركزيا في وزارة الأول، كما لا يجب أن ننسى بأن شكيب خليل و هو دائما وزيرا للطاقة كان قد أشرف أيضا على التسيير المباشر لسونطراك، عندما اتضح أن جمال الدين خان لم يبق قادرا على الاستمرار في مهامه كرئيس مدير عام للشركة بسبب المرض.
الجزائريون الذين لا يعانون من قصر الذاكرة، لم ينسوا بعد، الكلمات التي اختارها شكيب خليل للثناء على محمد مزيان، أثناء تنصيبه في حفل رسمي كرئيس مدير عام جديد لشركة " سونطراك" في سبتمبر 2003 ... فماذا قال شكيب خليل يومها؟ لقد قال: " إن هذا التعيين يأتي في وقت مهم من تاريخ سونطراك .. لأول مرة، ستكون للمؤسسة إطارات مسيّرة من أكثر الإطارات كفاءة... إن السيد مزيان ( الرئيس المدير العام المتهم حاليا) معروفا بصفاته الإنسانية، كمسير حازم و كرجل جامع".
" الإطارات المسيّرة من أكثر الإطارات كفاءة" الذين تحدث عنهم الوزير الوصي شكيب خليل، هم اليوم متابعون بـ"تكوين جمعية أشرار"! لا أصدق ! هل تفهمونني الآن، عندما أقول أنني لا أصدق و لا يجب أن أصدق كل ما يصدر عن أي مسؤول جزائري ؟ ففي حالة " سونطراك" مثلا، هل كان عليّ أن أصدق شكيب خليل عندما كان يصف محمد مزيان و من معه من إطارات بـ " أكثر الإطارات كفاءة " أم أصدق من يتهمونهم اليوم بتكوين جمعية أشرار ؟!
شكيب خليل ليس أيضا مجرد وزير للطاقة ، بل هو واحد ممن يُسمّون في الجزائر " وزراء الرئيس".. أي أنه واحد من أكثر الوزراء الذي يتمتعون بثقة الرئيس فيهم. و عندما يعبر شكيب خليل عن " صدمته" أمام ما حدث لمحمد مزيان و من معه من إطارات، و لما يخفي اقتناعه بأن مزيان و جماعته أبرياء، و عندما يؤكد استعداده لتسخير ما يجب من محامين للدفاع عنهم و إثبات براءتهم، أنا شخصيا أتصور أن كل هذا الكلام صدر عن بوتفليقة شخصيا. لكن الرواية المستهلكة إلى حد الآن - و هي رواية تقليدية مملّة و ركيكة - تقول أن بوتفليقة هو الذي يقف وراء كل ما حدث من خلال تسخيره لمحققي المخابرات !... فهل تفهمون شيئا في هذا الفيلم ؟... إن هذا الفيلم مبني على الغموض من بدايته.. إلى نهايته التي لا يعرفها إلا الله سبحانه.
منذ أسابيع قليلة كنت قد قلت في حيزي هذا:
منذ أكثر من 30 سنة، قال نفس نظام الحكم عن عبد العزيز بوتفليقة أنه سارق،و قرر ذات النظام طرد هذا الأخير من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، واستعمل هذا النظام، جريدة " المجاهد" لنشر بيانات و أرقام و مبالغ لأجل إقناعنا بأن بوتفليقة الذراع الأيمن للرئيس الراحل هواري بومدين، اختلس أموالا من ميزانية وزارة الشؤون الخارجية التي كان سلطانها بلا منازع. لقد حدث ذلك بعيد وفاة بومدين نهاية عام 1978 من القرن الماضي.
كثيرون هم الذين آمنوا ما قاله النظام عن بوتفليقة في ذلك الوقت. بوتفليقة لصّ !... " برافو" على عباقرة النظام الذين استطاعوا أن يكشفوه في ذلك الوقت !!
20 سنة تقريبا، بعدما سوّد النظام صورة بوتفليقة، عاد نفس النظام ليبيّض ذات الصورة، و ليقول لنا: " أيها المواطنون أيتها المواطنات... ما من منقذ لهذا الوطن، عدا رجل اسمه عبد العزيز بوتفليقة " ! و بالفعل فقد اختار نفس النظام بوتفليقة، مرشح إجماع، و ها هو يقود البلد لعهدة ثالثة !!!...
ألا يحق لي الآن أن أتساءل: في كلتا الحالتين... صدّقت أم كذّبت ما قيل عن بوتفليقة، نهاية سبعينات القرن الماضي، ألا يحق لي الآن، أن أكذّب هذا النظام طالما بقيت حيّا... إلى الأبد.
لهذا لا أصدق ( واحد ما يسالني). السلام عليكم.
التعليقات (0)