يعتقد بعض المسلمين من أهل السنة أنَّ النّبي الاكرم صلى الله عليه وآله قد رحل عن هذه الدنيا دون أن ينصب خليفة بعده، ويعتقدون أن هذه المهمة تقع على عاتق المسلمين أنفسهم، فهم الذين عليهم اختيار قائدهم بطريق "إجماع المسلمين" باعتباره أحد الأدلة الشرعية.
ويضيفون الى ذلك قولهم إنَّ ذلك قد حصل فعلاً واختير الخليفة الأول بإجماع الأمة.
ثمّ اختار الخليفة الاوّل الخليفة الثّاني.
وعيّن الخليفة الثاني شورى مؤلفة من ستة اشخاص ليختاروا أحدهم. وكانت هذه الشورى تتألف من علي عليه السلام، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص.
وكان الخليفة الثاني قد اشترط أنَّه إذا انقسمت الشورى كل ثلاثة في طرف، فإنَّ الطرف الذي فيهم عبد الرحمن بن عوف (صهر عثمان) هو الذي يختار الخليفة. وهذا ما حصل، إذ الاكثرية المؤلفة من سعد بى أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وطلحة اختاروا عثمان.
وفي أواخر عهد عثمان نهض الناس لأسباب مختلفة ضده، وكان أنْ قتل قبل أنْ يستطيع تعيين أحد أو شورى.
وعلى أثر ذلك أقبل الناس برمتهم متجهين إلى الإمام علي عليه السلام، وبايعوه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله، باستثناء معاوية الذي كان عامل عثمان على الشام، لأنَّه كان واثقاً أن علياً عليه السلام لن يبقيه في منصبه. فرفع راية المعارضة، فكان مصدر حوادث مشؤومة ودموية في التاريخ أدتْ الى إراقة دماء الكثيرين من الابرياء.
هنا تبرز أسئلة كثيرة لابدّ منها لالقاء الضوء على البحوث العلمية والتاريخية، سنورد بعضا منها:
1- هل للأمة أنْ تختار خليفة رسول الله؟
ليس من الصعب الجواب على هذا السّؤال، فنحن إذا اعتبرنا الإمامة بمعنى الحكم الظاهري على جماعة المسلمين، فإنَّ اختيار الحاكم بالرجوع الى آراء الناس أمر متداول.
ولكن إذا كانت الإمامة منصباً الهياً، فلاشك في أنَّه ليس لأحد الحق في تعيين خليفة النّبي سوى الله ورسوله "وبأمر من الله".
إذ أن شرط الإمامة بحسب هذا التفسير هو العلم الوافر بجميع اُصول الدين وفروعه، ذلك العلم الذي ينبع من مصدر سماوي ويستند الى علم رسول الله صلى الله عليه وآله، لكي يستطيع الحفاظ على الشريعة الاسلامية.
الشّرط الآخر هو معصومية الإمام، أي أنْ يكون مصوناً صيانة إلهية ضد كل خطأ وإثم لكي يستطيع أنْ يتحمل مسؤولية مقام الإمامة وقيادة الأمة قيادة معنوية ومادية وظاهرية وباطنية، كما يجب أنْ يكون متمتعاً بالزّهد والتّحرر والتقوى والجرأة، ممّا هو لازم لمن يتصدى للاضطلاع بمهمات هذا المنصب الجليل.
إنَّ تمييز هذه الصفات في شخص ما ليست مستطاعة إلاّ بوساطة الله ورسوله، فهو الذي يعلم في من وضع صفة العصمة، وهو الذي يعلم في من يتوفر حدّ النصاب من العلم والزهد والتحرر والشجاعة والجرأة اللازمة لمقام الإمامة.
إن َّالذين عهدوا باختيار الإمام والخليفة الى الناس قد غيروا في الحقيقة المفهوم القرآني للامامة، وقصروا هذا المفهوم على الحكم العادي وادارة شؤون الناس الدنيوية، وإلاّ فان شروط الإمامة بمعناها الجامع الكامل لا تعرف إلاّ عن طريق الله تعالى لأنَّه هو العالم بهذه الصفات.
إن هذه القضية أشبه بانتخاب النّبي، فالنّبي لا يمكن أنْ ينتخبه الناس بالتصويت، بل إنَّ الله تعالى هو الذي يختاره، ويتعرف عليه الناس عن طريق معجزاته، لأنَّ الصفات اللازم توفرها في النَّبي لا يعرفها إلاّ الله عزّ وجلّ .
2- ألم يعيّن النّبي أحداً لخلافته؟
إنَّ الدين الاسلامي ولا شك دين "عالمي" و"خالد" ولا يقتصر على زمان ومكان معينين، كما يصرح القرآن الكريم بذلك.
ولا شك أيضاً في أنَّ الدين الاسلامي لم يكن قد تجاوز شبه الجزيرة العربية عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.
ومن جهة اُخرى نجد أنَّ النّبي أمضى ثلاث عشرة سنة من عمره الشريف في مكة يحارب الشرك وعبادة الاصنام، والسنوات العشر التالية التي بدأت بالهجرة واستغرقت فترة إزدهار الاسلام، أمضاها رسول الله صلى الله عليه وآله في الغزوات والحروب التي فرضها على المسلمين أعداؤهم.
وعلى الرغم من أنَّ الرسول لم يترك لحظة من عمره الشريف دون أنْ يستغلها لنشر الدعوة والتعاليم الاسلامية، والسعي لتعريف الاسلام الفتي بجميع ابعاده. ولكن الذي لاشك فيه أن تحليل كثير من المسائل الاسلامية كان يتطلب زماناً أطول، فكان لابدّ لشخص مثل النّبي صلى الله عليه وآله أنْ يضطلع بهذه المهمة بعده.
وفضلاً عن ذلك، فإنَّ التنبؤ بمستقبل الأمة، واعداد المقدّمات للاستمرار في إدامة مدرسة الاسلام، كان من أهم الأمور التي لابدَّ أنَّ يفكر فيها كل قائد. ولا يمكن أبداً أنْ يسمح لهذه المسألة المهمّة أنْ يلفها النسيان.
وإذا تجاوزنا عن كل ذلك، نلاحظ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله احياناً يصدر تعليمات خاصة في كثير من الامور البسيطة العادية في الحياة اليومية، فكيف يمكن أنْ يهمل قضية مهمة كقضية الخلافة والزعامة والإمامة ولا يضع لها منهاجاً خاصاً؟
كل هذه النظرات الثلاث دليل واضح على أنَّ النبي الكريم صلى الله عليه وآله لا يمكن أنْ يهمل تعيين الخليفة من بعده. فضلاً عن وجود روايات إسلاميه مؤكدة تلقي مزيداً من الضوء على هذا الموضوع، وتثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يغفل طوال حياته عن هذه المسألة المصيرية، على الرغم من المساعي السياسية التي جرت بعد الرسول التي حاولت ايهام الناس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله لم يعين خليفة بعده.
أيصدق أحد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لم يترك المدينة لبضعة أيّام مثل ذهابه الى غزوة تبوك إلاّ بعد أنْ عيّن من يقوم مقامه فيها، لا يعين أحداً ليخلفه بعد مغادرة الدّنيا نهائياً، بل يترك الأمة نهب الاختلافات والاضطرابات والحيرة، دون أنْ يضمن للإسلام استمراريته على يد هاد ومرشد يعتمده؟
لا يشك أحد أنَّ عدم تعيين خليفة ينطوي على أخطار كبيرة على الاسلام اليافع، إنَّ العقل والمنطق يحكمان بأنَّ أمراً كهذا يستحيل صدوره من نبيّ الاسلام.
إنَّ الذين يقولون إنه عهد بذلك الى الأمة، عليهم أنْ يبينوا أدلتهم ويثبتوا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله قد صرح بذلك علانية، ولكن ليس ثمّة دليل من هذا القبيل.
3- الاجتماع والشورى
لنفرض أنَّ رسول الاسلام أغمض عينيه عن هذا الأمر الحيوي، وأنَّ المطلوب من المسلمين أنفسهم أنْ يختاروا خليفة رسول الله عن طريق الاجماع. ولكننا نعلم أنَّ "الاجماع" يعنيّ اتفاق المسلمين، ونعلم أيضاً أنَّ اجماعاً كهذا لم يحصل عند انتخاب الخليفة الاول، اللّهم إلاّ ما حصل عند اجتماع عدد من الصحابة الذين كانوا في المدينة، حيث أنهوا قرارهم، مع أنَّ سائر المسلمين في سائر بلاد الاسلام لم يشاركوا مطلقاً في هذا الاجتماع ولا في الإدلاء بآرائهم، بل إنَّ في المدينة نفسها لم يحضر كثيرون كالامام علي عليه السلام وبني هاشم ذلك الاجتماع، وعليه فإنَّ إجماعاً كهذا لا يمكن قبوله.
ثمّ إذا كان هذا الاسلوب هو الاسلوب الصحيح الذي يجب اتباعه، فلماذا لم يتبعه الخليفة الاول في انتخاب خليفته؟ لماذا عين بنفسه خليفته؟ فاذا كان يجوز للفرد أنْ يعيّن خليفة، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله اولى بذلك من أي فرد آخر، واذا كانت البيعة العامة التي تلي الانتخاب تحل المشكلة، فان ذلك وارد أيضاً بالنسبة للنبي، وعلى وجه أفضل.
وفضلاً عن ذلك تبرز المشكلة الثّالثة بالنّسبة للخليفة الثالث، وهي لماذا خالف الخليفة الثاني الاسلوب الذي اتبعه الخليفة الاول في انتخاب الخليفة الثاني نفسه، وكسر السنّة التي اتت به الى الخلافة، أي أنَّه لم يلتزم الاجماع ولا التعيين الفردي، بل جاء بمجلس الشورى ليقوم بذلك؟
إذا كانت "الشورى" صحيحة، فلماذا تقتصر على أشخاص ستة بعينهم، وأنْ يكتفي برأى ثلاثة من ستة؟
هذه أسئلة لابدّ أنْ تخطر ببال كل باحث ومحقق يتعامل مع التاريخ الاسلامي، وبقاؤها دون جواب يدلّ على أنَّ تلك الاساليب لم تكن هي الطريق الأمثل لنصب الامام.
4- الامام علي عليه السلام أليق الجميع
لنفرض أنَّ نبيّ الاسلام صلى الله عليه وآله لم يعين أحداً يخلفه من بعده، ولنفرض أنَّ اختيار الخليفة كان على عاتق الأمة، فهل يجوز عند الانتخاب أنْ نتجاوز الأعلم والأتقى والأكثر تميزاً عن الآخرين من جميع الوجوه، لنبحث عن الخليفة الاقل شأناً منه؟
لقد صرح كثير من علماء المسلمين، بما فيهم علماء أهل السنة، بأنَّ علياً كان أعلم الناس بالدين الاسلامي، كما أنَّ آثاره الباقية منه تؤكد هذا القول. يقول التاريخ إنَّه كان ملجأ الاُمَّة في كل مشكلة علمية، وأنَّ الخلفاء كانوا يرجعون اليه إذا ما واجهتهم معضلة دينية معقدة. وكان في الشجاعة والجرأة والتقوى والزهد والصفات البارزة الاُخرى أسمى منزلة من غيره. وعليه، إذا فرضنا أنَّ انتخاب الخليفة كان موكول الى الناس أنفسهم، فإنَّ علياً عليه السلام كان اليق الموجودين وأجدرهم بالخلاقة. (هنالك بالطبع الكثير من الأدلة والأسانيد الأخرى بهذا الشأن ممّا لا مجال لذكرها في هذا الموجز).
سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي . مؤسسة البعثة،ط2 ، ص154-161
شبكة المعارف الاسلامية
التعليقات (0)