ما أيْسَر أن نقرأ أحداث التاريخ على مهلٍ في بيتٍ دافئٍ آمن حتى إنْ كان ذلك التاريخ يستدرجنا إلى تَمثُّل هزائم ماضينا العربي،وما أكثرها...
فواجعُ تلك الهزائم ليس في كونها هزائم،فحسب،نتجت عن تسليمٍ مناّ بعجزنا عن مواجهة خصومٍ قدَّرْنا أننا لا نقوى على مواجهتهم فرفعْنا في وجوههم أعلامنا البيضاء إقرارا لهم بانتصارهم لضعفنا،إنّما فواجعها الكارثية نتجت عن عدم وعينا بفداحة ضعفنا،فاندفعنا،كالحمقى،نغرسُ النِّبال في صدورنا..ا.
تاريخنا كان كذلك في رحلته الطويلة الحالكة ليقوم شاهدا على زعمنا استرجاع أمجادنا التي أنتجها سلوك جديد قطع مع عصر الجاهلية بعد أن رُوِّضْنا عليه استسلاما للرسالة الخالدة للإسلام...تلك الرّسالة التي ما كاد الرّسول محمّدا ينتقل إلى الرّفيق الأعلى،حتى شرعنا نُعِدُّ العُدّة لتحويلها إلى رسالاتٍ نختلف حولها لا من أجل أن نتعايش بل من أجل أنْ نتقاتَل ونجيد فنونه بتدمير الذات وإعادتها إلى سجن العبوديّة للوثن "السلطان" بشرًا،وكأنّما ذات الصّنيع هو الفطرة فينا تغلب التّطبَّعَ الذي إن سادنا ليُدرّبنا على أن نسود تنكّرْنا للجوهر (الحرّيّة) لعاهة في جِينَاتِنَا التي يبدو أنها لا تسترخي إلاّ في أحضان القمع والعبودية...
مِنْ أجل أن ننقاد إلى العبوديّة والقهر نُقاتل بشراسة وتسيل دماءُ شهدائنا مِدرارةً ونُشرَّدُ ونُهجَّرُ ونحنُ ندَّعي،كذبًا على الذّات،أنّنا ننشُدُ الحرّيّة،ذلك أنّه لا مِنْ مقاومٍ مخلص لطلب الحرّيّة لا تُعانقه أشواقها ونسماتها فيُوقعها مُتَيّمَةَ بحبّه...وإلاّ كيف نُفسّرُ صراعنا الحضاري بكلّ عواصفه وأنوائه الذي يرويه تاريخنا ؟... كيف نُفسّرُ تلك "العباءة" التي لبسناها من النخوة والحماسة ونحن نُقاوم الصهيونيّة التي احتلّت بيتنا "القدس"،بتواطؤ منا،فيخذل شرفَ مقاومَتِنا عدمُ صدقنا في مناشدة الحرّية والانعتاق وتنكشف هزائمنا المتتالية على عدم جدارتنا بما زعمْنا أنّنا نُريد ؟...كيف نُفسّر ذلك التقاتل الفلسطيني الفلسطيني بادّعاء مقاومة عدوّ مشترك بخناجر نطعن بها أنفسنا نراها كفيلة باسترجاع وطنٍ يعيش على أديمه متقاتلون ؟...كيف ندّعي امتلاك أسباب بناء الذّات وتاريخ لبنان القريب يُحدّثنا عن الاغتيالات والحروب الأهليّة البشعة ليزرع ألغام حاضرٍ قابلٍ لاغتيال كرامة الإنسان ومصادرة حريته وبالتالي تحصين وكر العبودية والطائفية ؟... كيف ندّعي مناشدة الحرّيّة والدّيمقراطيّة وإخوتنا في العراق بعد أن أطاحوا بالدكتاتورية والقمع راحوا يُمارسون تلك الهواية العربيّة المألوفة في إذلال بعضهم البعض تقتيلا وتدميرا إحياءً لتاريخٍ بغيض قُتِل فيه صحابة للرّسول محمد الذي جاءهم برسالة التحرير من العبودية إلاّ لله ؟...
تلك مشاهد من تاريخنا،وما أهملناه أقبح،نتصفّحها-غالبا بدمٍ باردٍ- في الكتب وعلى الأنترنات ونشاهد ما يَعنُّ للفضائيات عرضه منها وفقا لأجنداتها،فلا تُثير فينا غير ذلك الإحساس الشبيه بإحساس طبيبِ تشريحِ الجثث الذي يستعجل عمله الرّتيب ليفرغ منه لمشغل حياتيّ...هو يُشخّص أسباب الوفاة لكنّه لا يكشف ملابسات الجريمة...
لماذا النّبش في سجلّ الهزائم بالتنغيص على الرّاهن والحال أننا،بما صنعناه،اليوم ولا نزال،ندّعي دخولنا عصر"الربيع العربي"؟..
أجل،هذا الرّبيع الذي نعيش هو الذي يفرض النّبش في ذاكرة تاريخنا حتى لا تقودنا حماستنا المفرطة ،حاضرا،إلى الانزلاق في كهوف تجاربنا الماضية المُرَّة التي تعوّدْنا على أن تكون قاعدة الوجود العربي في حين أنّ غيرها من مكارم الفعل الحضاري ليس إلاّ استثناء عربيّا لا نراه متاحا إلاّ ببعثٍ جديد...
هل نحن إزاء لحظة تاريخية استثنائية في الوجود العربي لا علاقة لنا بمثيلاتها إلاّ من خلال الكتب الصفراء التي تروي لنا أمجادا غابرة صرنا نعتقد،من جرّاء كَمِّ الهزائم والنكبات المتراكم الذي ننوء بعبئه،أنّها أقرب للأساطير من ملاحم حقيقية حفظها التاريخ لفائدة إرثنا حتى نرى فيه نورا نقوى به على تحمل علقم خيباتنا المتتالية ؟...
الثورات العربية التي نعانقها بلهفةِ مشاعرِ اليُتم والانكسار الحضاري الذي طال زمانه العربي،نخشى أن تتحوَّل إلى كابوسِ فاجعةٍ كارثيّةٍ بعد أن قدَّرْنا أنّها تمرّدٌ عن فقر الفكر وجوع البطن وعبوديّة الإنسان للإنسان...نخشى ذلك إذا عاوَدَنا الحنين إلى احتراف فنون الصّعلكة على هامش التاريخ فتسلّحنا بموهبة المقاومة المتأصّلة فينا فعلا عَدَمِيّا يُنتِج فوضى الشارع لمصادرة سيادة الشارع فعلا مبدعا للحضارة حرّيّةً وديمقراطيةً وجودةَ حياةٍ...
مِنْ ثمّة أتفهّمُ مغزى صرخة الشاعر التونسي "المشاكس" محمد الصغير أولاد أحمد التي جاءت-ويا للمفارقة-نثرًا لا شعرا... عنوانُ هذه الصرخة توحي ببيانٍ عسكريّ:
"أولاد أحمد
القيادة الشعرية للثورة التونسية
فرقة مقاومة الكذب السياسي
مقاربة هندسيّة...للكارثة التونسيّة"
نقرأ في النّص النثري للشاعر التونسي بعض المقتطفات :"..أمكن للشاعر أن يقوم بجولة استباقية في مقابر المستقبل التونسي القريب،حيث تنتظِرُ الجثث المشوَّهة والأطراف المبتورة والرؤوس المقطوفة والأقلام المكسورة والكتب المحروقة طريقها إلى الدّفن" ثمّ يُفسّر توجّسه من قدوم:" رجل يستثمر في الشأن الإلهي بمقادير جمّة..يتكلّم باسم التونسيين جميعا رغم أن أيًّا منهم لم ينتخبه، ولم يُعِرْهُ لا طوته ولا لسانه،رجلٌ يعيش في الغلاف الجوّي،قريبا من المسلك الذي ستتّخذه أرواحنا عمّا قريب باتجاه خالق السماوات والأرض..لم يكن حكّام تونس-ما بعد الاستقلال-يُعيرون أهمّية للزّمن بالرّغم من أنّ ساعاتهم سويسرية الصنع..عملوا على إنشاء مصنعٍ لفانتازيا الوقت سمّوْه (الحكم مدى الحياة)..وفاءً لهذه العادة الملعونة في استعباد التونسيين..عمل حكّام ما بعد الثورة على تنصيب أنفسهم داخل المكان أولا،وداخل الزّمان أوّلا،فصار كلّ سؤال عن مدّة بقائهم في السلطة نوعا من التشكيك فيما يعتبرونه (شرعية انتخابية)..شرعيّة انتهت صلاحيّتها مثل عُلب الياغرْطْ بسبب تلاعبها بزمن الصلاحيّة ذاتها..."
ثمّ يضيف وهو يتطرّق للدستور المنتظر صياغته باسم الثورة فيرى أنّ :"الدستور سيكتبه أناسٌ يعملون على أنْ تكون حياة الشعب التونسي مجرّد سنّة وعادة،بدل أن تكون مغامرة تقتحم حصون المستحيل،كيْ تضع نقاطا على ما تبقّى من نقاطٍ على إنسانيّة الإنسان..." ليختم نصّه النّثري متشائما مستشرفا مأساة شعب:"يشرع في تقصّي حقائق الخديعة،مُعوِّلا على دموعه وآلامه من أجل استرداد ثورته المهدورة..."
لسنا بصدد تفكيك نصّ أدبيّ للوقوف على مواطن الإبداع الفنّي في بنائه بقدر ما نروم استشفاف نفس عربية ملتاعة لشاعر مرهف الإحساس "سليط" اللسان حلّق في أجواء الثورة التونسية فهالته مشاهد صدمت أحلامه فعرض هواجسه عارية دون قناع أو حجاب أو نقاب...ربما من منطلق قناعته أنّ :"الشعر فضيلة العرب"،كما قرّر الجاحظ وإيمانه بأنه :"جزء من الوجع العام،وسمكة من الأسماك التي تعوم في بحر من الأسئلة،والزلازل السياسية والاجتماعية،والقلق العربي العام..." على حدّ تعبير نزار قباني...
على أنّه لا أحد يتمنّى،في تونس، أن تكون تنبّؤات "أولاد أحمد" يُزكّيها مستقبل"ثورة الياسمين"،بل لا نخال الشعوب العربية،خصوصا منها،تلك التي تقطع شعاب العذاب والألم في ثوراتها أن يؤول مآل الثورة التونسية لِمَا استشرفه شاعرٌ مشاكسٌ،وإلاّ لكان حمّام الدّم الذي أنتجته ثورة ليبيا وتُنتِجُه اليوم ثورة سوريا،وما تزال،تكرارا لتلك اللعنة التي أباحت أن يعمد جزء من الأمة "إلى ذبحِ جزئه المتبقّي" أو هو مغامرة لشعوب عربية بقيت قاصرة على الاعتبار من تاريخها وعاجزة عن فكّ شفرة المؤامرة التي تستهدفها في حاضرها والحال أنها تنشد الحرية والكرامة والقطع مع الاستبداد...
ولئن شاءت أقدار موجة الثورات العربيّة الجديدة أن يرعاها الإسلام السياسي الذي يعيش مخاض إبداعه،فإنّه ليس مسموحا إجهاض الرّبيع العربي بعباءةٍ ندّعي أنها إسلامية والحال أنها من موروث اجتهادات بشرية قد نغفر لها ما برّرته من سفك دماء في فتنٍ داخلية الإسلامُ منها براءٌ،ذلك الدين الذي يقوم على عقيدة جوهرها الحرية والانعتاق والتسامح والحث على تعلّق الهمّة بالإبداع والتفوّق والفكر المستنير وتحريم سفك الدّماء...لِيَحْذر "الإسلاميّون" الذين طلبوا السلطة وتحمّلوا أمانة الرّبيع العربي من فخاخ أطروحات "السّلف" التي جاءت لتُعالج ضغوطات زمانها لا إيقاع حياة عصرنا المتسارعةِ وتيرة أحداثه وتحدّياته،وليستنيروا برسالة الإسلام باعتبارها قيَما كونيّة خالدة تنحاز لكلّ ما من شأنه أن يعتق الإنسان من العبوديّة ويوقظ ضميره ويُحرّره من الشعوذة والإيديولوجيات المحنَّطة...لْيُدْركوا جيّدا أنّهم هرعوا إلى قيادة السفينة وهي تُبْحِرُ على أمواج ثورات شعوب غاضبة،أهواء أفرادها شتّى ولا سبيل لاحتوائها إلاّ بتشريك الجميع وتطمين المُتَوجّس منهم...
وما تزال التحديات المطروحة على الثورات العربية جدّيّة ومحفوفة بالمخاطر،لكنّ الأمل قائم في حالة اليقظة الدائمة للشعوب العربية وإجادة استفادتها من إرثها ورفضها الدخول في غيبوبة من جديد حتى تكون جزءا من إيقاع العصر وانخراطا في حركة التاريخ...
التعليقات (0)