مواضيع اليوم

من الظاهرة إلى الظاهرة المضادة

فارس ماجدي

2010-04-28 07:48:14

0

 


إن الظاهرة القرآنية تتميز عن الظاهرة الإسلامية بواسطة الشروط اللغوية والسيميائية والتاريخية لنشأتها .
فمن الناحية اللغوية : نجد أنه من السهل نبيان أن الخطاب القرآني يختلف عن كل خطاب آخر في اللغة العربية ، اننا لا نقصد بالاختلاف هنا التفوق الذي ركزت عليه نظرية الإعجاز ، وإنما نقصد المعطيات الشكلية والنحوية والمعنوية والبلاغية والاسلوبية والايقاعية الخاصة بالقرآن، والتي يمكن حصرها والكشف عنها عمليا ، إن المجاز يلعب دورا حاسما في تشكيل كلية الخطاب القرآني ، إنه هو الذي يتيح تغيير أو تحوير الوقائع الوجودية الأكثر يومية وابتذالا وتصعيدها وتساميها من أجل أسطرة وترميز مناخ الوعي الديني الجديد الذي يراد تأسيسه وفرضه.
من الناحية السيميائية: نجد أن الخطاب القرآني مركب كليا بواسطة مخطط معين للتوصيل ، نجد في هذا المخطط أن الوظائف المهيمنة تمارس من قبل الفاعل نفسه ـ أي الله . والله يتواصل مع مرسل إليه ينقسم الى نوعين مؤمن وكافر، وتتم عملية التوصيل عن طريق وسيط ذي مكانة متميزة وسلبية في آن معا هو محمد . إنه مجرد ناقل للوحي . ومن الناحية التاريخية ، نلاحظ أن الآيات القرآنية قد رافقت طيلة عشرين عاما الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية للنبي ، ففي الوقت الذي كان فيه النبي يعبر مباشرة وبشكل محسوس عن ممارسات وأهداف عمله ومشروعه، كان القرآن يخلع لباس التعالي على هذه الأعمال والوقائع ويجعلها متسامية وتعالية عن طريق ربطها بالمطلق الأعلى والإرادة الغيبية لله، وهكذا محيت تاريخ وأسماء الأماكن والأحداث الفردية من الآيات، لنزع الصفة التاريخية عنها وطولب الوعي المدعو بالقلب أو باللب أو العقل والشعور بالحاح بربط كل شيء في هذا العالم بالخالق الأعظم، إن القرآن يؤسس وعيا خاصا بالعالم والتاريخ والدلالة ولهذا فسوف يشرط فيما بعد وعلى مدار الزمن كله إدراك المؤمنين بالعالم وكل تعبير عنه. أما الأمر فيما يخص الظاهر الإسلامية فيختلف ، فبعد موت النبي توقف الخطاب القرآني عن ممارسة دوره كقوة منظمة ترسخ وعيا في حالة الأنبثاق ضمن الأحداث المعاشة من قبل جماعة المؤمنين، إنه يصبح بالتدريج مكانا أو فضاء ثابتا يرجع إليه للاسقاط ومرجعا يعاد إليه. أصبح يعاد إليه من أجل تبرير المعايير الاخلاقية والسياسية والشعائرية والقضائية التي ينبغي أن تتحكم منذ الآن وصاعدا بفكر كل مسلم وممارساته، ولكن راحت تسقط عليه في أزمان تالية مختلفة وفي آن واحد كل أنواع التصورات، والمفاهيم، والافكار، والتحديدات، التي تظهر الأواسط المهمة للمراكز الحضرية الجديدة ،( دمشق ، بغداد ، البصرة..... الخ ) إن المرور من الظاهرة القرآنية الى الظاهرة الإسلامية يتم على صعيدين متمايزين ومترابطين: صعيد الدولة والمؤسسات وعملية التمثل أو الدمج الايديولوجي للجماعات والمجتمعات .. دمجها داخل الأمة الإسلامية أو الامبراطورية الإسلامية. وصعيد الانجازات العاقائدية والثقافية وصعيد النفسيات الفردية والجماعية، في كلتا الحالتين نجد أن الاسلام هو عامل التغيير والتحول، ولكنه يتحول هو بدوره عن طريق عوامل وأشياء خارجية عليه ، وكلما ابتعد عن منبعه الاولي كلما ازدادت حدة الحنين للصفاء الضائع، وكلما تحولت تلك اللحظة التاريخية الأولى الى لحظة اسطورية تتمركز فيها القيم الحقيقية والوسائل الفعالة من أجل النجاة الأخروية. إن جانب الدولة والمؤسسات الرسمية معروف بشكل أكثر لأنه استرعى انتباه المؤرخين المسلمين أنفسهم بشكل مبكر جدا ، وأصبح الموضوع الأساسي للحوليات ثم للتاريخ الحديث، في هذا النوع من المؤلفات تتعدد السلالات الحاكمة المتتابعة التي حكمت باسم الاسلام، الذي استخدم في الواقع كمصدر للتبرير والتسويغ ، أي خلع لباس الشرعية على السلطة. وبهذه الطريقة شاعت فكرة الترابط والتضامن بين السلطة السياسية والدين. إن المؤرخين الذين كتبوا التاريخ أو نظروا فقط اليه انطلاقا من هاتين الذروتين قد قووا الرؤية الرسمية ورموا في دائرة النسيان القطاعات غير الخاضعة للسلطة الرسمية في كل مجتمع .
كان الفكر التيولوجي والفلسفي الكلاسيكي قد فرض في الاسلام حقلا معينا من المسموح التفكير فيه يمارس دوره بحسب التعارضات التبسيطية التالية : الخير/ الشر ، الصحيح / الخاطئ، العقلاني / اللاعقلاني، الجميل / القبيح، المؤمن / الكافر، العقيدة المستقيمة/ الهرطقة، وهكذا تشكلت مقولات جوهرية اعتقد الناس زمنا طويلا أنها تمثل انجازات نهائية للعقلانية مع انها مرتبطة بالخيال وبشدة، ونحن نعلم أن مسألة الخيال والمخيال لم تحتل مكانتها التي تستحقها في وصف ودراسة التاريخ الإسلامي ، وينبغي هنا إعادة النظر في كل العلوم الدينية الناجزة في الإسلام ضمن هذا الاتجاه لتبيان نشأتها ومكانتها. لنتأمل في المثال الغني جدا لسيرة النبي ، كانت احدى السير القديمة التي وصلتنا هي سيرة ابن اسحاق150 هـ، التي استعادها وصححها ابن هشام 218 هـ . وقد استمرت عملية تشكيل الصورة الرمزية والقدسية المثالية لمحمد على هذا النحو طيلة أكثر من قرن في الأواسط المؤمنة تحت تأثير عوامل عديدة وطبقا لمنهجيات الثقافة الشفهية ، لم يلغ الانتقال الى حالة التراث المكتوب مع ابن اسحاق، كل آثار التراث الشفوي في السيرة. ولكن هذا الانتقال يمثل مرحلة جديدة من علاقة المسلمين بالعصر الافتتاخي . نلاحظ فيما بعد أن ابن هشام قد أدخل أو مارس نوعا من الضبط التاريخي للحكايات والروايات كان سلفه يجهلها. ولكن مجموع القصص والشهادات يخضع لآليات انتاج المعنى الخاصة بالسرد الروائي أكثر مما يلتزم بقواعد كتابة التاريخ. فقد استخدمت المبالغات الخيالية الشعبية بشكل متمايز من حيث الدلالة والحقيقة عن العناصر التي نصفها بالتاريخية ضمن الرؤية الحديثة والسبب أن أناس ذلك الزمن وحتى الكثير من المعاصرين التقليديين لم يكونوا يعرفون التمييز بين الاسطورة والتاريخ.
إن القراءة التقليدية للسيرة النبوية ما زال فاعلا ومؤثرا وإن مسألة بلورة الرؤى العجيبة والتسامي لا يزال مستمرا في إلهاب الخيال الاسلامي الجماعي ، وفي الواقع إن الجزء الخرافي من السيرة هو الأكثر إضاءة وأهمية إذا ما أردنا القيام بدراسة النشأة التاريخية للوعي الإسلامي ، وبدلا من إحداث التضاد العقيم بين التاريخ الوضعي الاختزالي من جهة ، والعقائد الشعبية والتهويلات والمبالغات من جهة أخرى ، فإنه يمكننا توحيد حقل المعرفة عن طريق إعادة قراءة سيرة النبي أو علي أو الأئمة من خلال التوجهات الثلاث التالية:
ـ المنشأ التاريخي والثقافي للخيال الإسلامي الشائع ثم وظائف هذا الخيال ، وإنتاجيته ، وأقصد بإنتجيته هنا القوة المجيشة والمحركة للتصورات داخل الحركات التاريخية الكبرة كالثورة العباسية .
ـ فن القص أو اسلوب السرد كوسيلة لانتاج كل دلالة تغذي الخيال ، أقصد سيميائية القص والاخراج المسرحي للحكاية ونسج حبكة من الاحداث الواقعية من اجل تشكيل رؤيا معينة أو تقوية بعض العقائد أو إعلاء قيم معينة أو تحوير الماضي من أجل دمجه في في النظام الجديد للعقائد والممارسات التاريخية ، وهذا ما فعلته السيرة النبوية بعد القرآن بالنسبة للجاهلية .
ـ الشروط التاريخية والثقافية لتحول خيال جماعي محدد وتغييره أقصد عملية المرور من مرحلة الخرافة أو الأسطورة أو الشعائر والطقوس الى مرحلة التاريخ ومعنى هذا المرور وشرعيته، وأقصد المرور من مرحلة الخرافة المعاشة بمثابة التاريخ الحقيقي الى مرحلة التاريخ الحقيقي المعاش والمفهوم وكأنه إيديولوجيا . نستهدف بهذه النقطة الاخيرة بالطبع الاشارة الى الحالة الراهنة للمجتمعات الإسلامية والفكر الإسلامي .

 

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !