عبدالجبار العتابي
في جلسات مهرجان الجواهري الشعري.. كان هنالك اصغاء تام لبعض القراءات الشعرية التي يؤديها بعض الشعراء، فيما كان هنالك همس متعال ٍ مع بعضها يصل الى حد الصخب، كان جمهور الحاضرين يتناوبون في الاستماع بتأمل وهدوء لهذا الشاعر،وبين عدم انتباه تتضح على سيمائه احاديث جانبية لشاعر اخر، وهو ما كان يدعو الى التساؤل الذي كانت اغلب اجاباته ان الالقاء هو السبب في تركيز او شرود الجمهور وان كان جله من اهل الشعر والادب، لذلك حفزني الامر الى ان اتصدى للموضوع لأعرف خفايا موضوع الالقاء وكيف يمكن ان يتفنن به الشعراء لجذب الانتباه والاسماع، وهل يمكن ان يكون سببا في انجاح قصيدة او فشلها طرديا او عكسيا، وهو ما جعلني اركز على طريقة الالقاء اثناء القراءات واسلوب الاداء للشعراء الذين يرتقون المنصة، كنت اغمض عينيّ واستمع اليهم لكي ابصر الصور الشعرية والنبرات وهو تتهادى من افواه الشعراء، ومن ثم حاولت استطلاع اراء عدد من الشعراء حول الموضوع، وقد تباينت الآراء،لكنها اتفقت في كون الالقاء مهم لاسيما لتأكيد حضور الشاعر بين جمهوره. يقول الشاعر كاظم الحجاج : انا اعتقد ان اغلب شعراء العالم وليس شعراء العرب والعراقيين هم يواجهون الجمهور،كل الشعراء الكبار في العالم واجهوا الجمهور، ومسألة الالقاء اعتقد ان القصيد تكتب لتقرأ بالاعين ولتسمع في الوقت نفسه، وحضور الشاعر امام جمهوره هو نوع من المحبة، انا اعتقد انه تواصل انساني اكثر مما هو تواصل ادبي، يعني الجمهور عندما يقرأ لشاعر يتمنى ان يلتقي به، هذا هو المفهوم، لكن مسألة المهرجانات عندما تكون دائمية وعدد كبير من الشعراء هذا يفسد الامر كثيرا يعني المنصة تستهلك الشاعر احيانا وقد تسيء اليه، لكنني اعتقد ان تواصل الشاعر مع جمهوره عندما يدعى لوحده مع جمهور محدد، هذا الجمهور يحبه من خلال دواوينه، هذا شيء اجمل من المهرجانات التي يأتي بها الشاعر.
واضاف : كثير من الشعراء الكبار لا يحسنون الالقاء كالبياتي مثلا رحمه الله، سعدي يوسف ايضا لا يحسن الالقاء ولكنه مقروء، الشاعر بدواوينه، اما المنصة فأنا اعتبرها نوعا من التواصل الجسدي الانساني امام القاريء، يعني القاريء عندما يقرأ لشاعر ويعجب به من خلال دواوينه يتمنى ان يراه، هذا هو الهدف.
وتابع : كثير من الشعراء لا يحسن الالقاء والبعض منهم لا يحسن اللغة اصلا، وهذا هو العيب، انا اعتقد ان الشاعر عندما يخطيء بلغته ولو خطأ واحدا سينزل من عين الاخرين السامعين بشكل عام، فالالقاء مسألة محرجة،اما ان تنجح او تخفق وهذا هو الخطر في موضوعة الالقاء.
اما الشاعر محمد علي الخفاجي فقال : عموما.. انا آخذ على الشعر العربي بمجمله ان ليس هنالك شاعر يتقن الالقاء بحذافيره، ومعنى قصدي، صحيح هناك شعراء يجيدون الالقاء امثال يوسف الصائغ وعبد الرزاق عبد الواحد ولكني رأيت هؤلاء مع اجادة القائهم الا انهم يستخدمون ذات الالقاء في كل القصائد، وهذا خطأ، اذ ان كل قصيدة لها فضاءها ولها تجربتها ولها سخونتها، المهم ان نتعلم كيف نوصل الكلام بألقائنا، كما انني اعتب على الجمهور الذي ينتظر المعنى من الشاعر اكثر مما يهتم بالعُرب الصوتية، واكثر مما يهتم بهيمنة الصوت في مكانه، كما انني اؤاخذ المرأة، فأكثر الشواعر حينما يقرأن اشعارهن يقلدن الرجل بالحماس، انا اريد انوثة في الالقاء لان هناك رجولة عند الرجل في الالقاء، نسمع في بعض المرات.. يتصور الاخرون ان الالقاء صراخ، وهذا خاطيء ايضا، الالقاء تربية الصوت، الالقاء تنوين، كالكلام العادي، في الكلام العادي في بعض المرات تضطر الى ان ترفع صوتك، مرة اخرى تخفضه ومرة اخرى تمشي وسطا، وقد قسمت الاصوات الى سبرانو واتو والى باص وهذا له دلالة في الاستخدام، مثلا حينما تستخدم في المسرح صوتك لا يشترط عليك تقديم الصوت بالشرط الذي تقدمه في الاوبرا حيث يقدم السبرانو بعد ان كانت الاوبرا تقدم على طبقة التينور، اي هناك اهتمام خاص بالصوت البشري اكثر من اي جنس اخر بالنسبة للاوبرا، والالقاء كما قلت توزع بين هذه، لم اسمع القاء جيدا يهتم بوقع ايقاع المفردة، ولذلك انا حتى هذا الجانب اقول ان عزوف الممثلين عن تمثيل مسرحية شعرية عائد الى عدم توفر الاحساس في ذات الممثل اضافة الى فصاحة نطقه ان كانت فعلا صحيحة او غير صحيحة. واضاف : ذات مرة حكمت في مجموعة قصائد واعطيت شاعرا الدرجة الاولى عن قصيدته، فجاء شخص خوله ذلك الشاعر ان يقرأ قصيدته فأساء لها بحيث خجلت من الدرجة التي اعطيتها لان المخول بقراءة قصيدة هذا الشاعر اساء لها كثيرا فلم يوصلها، لذلك كثير من المسرحيات حين تقرأها لا تحس بقيمة المفردة ولكن حين تمثل تصلك المفردة جميلة وساخنة. فيما قال الشاعر والناقد جمال جاسم امين : قضية الالقاء في الشعر تحتاج الى بحث مستقل ولكن ببساطة واختصار اقول ان الشاعر عندما يلقي قصيدته يمنح المعنى صوتا، لان المعاني والدلالات التي كتبها في النص يمنحها بعدا صوتيا اثناء القائه، على ان لا يفرط في هذه المسألة وتتحول القصيدة الى خطابة، هناك فارق بين القاء الشعر والخطابة، الخطابة تحتاج الى دفع صوتي اعلى من القاء الشعر، ما يحصل لدينا ان هناك جهلا عاما بقضية الايقاع، القاء الشعر يعني انك تمنح المعنى صوتا ويعني انك توصل ايقاع الجملة الى المستمع وهو وظيفة من وظائف الانشاد المعروفة على مستوى النقد العربي وتاريخ الشعر العربي، اذا كان الشاعر غير ملم بقضية الانشاد او النبر التي هي موازية للوزن ربما يخفق في توصيل نصه، انا لا ادعو الى الايقاع الصاخب ولا ألقاء الهمس انما ادعو الى الالقاء الذي يناسب هذه القصيدة وقد يختلف عن قصيدة اخرى، هذه المسألة يقدرها الشاعر نفسه، كاتب النص هو الذي يعرف كيف يلقي نصه، فاذا نجح في معرفة ايقاع نصه وحاجة دلالاته ومعانيه الى نبرة الصوت التي تؤدى من خلاله يكون قد نجح في الالقاء. واضاف : ارى من حيث المبدأ ان هناك شكلا واحدا من الالقاء، هناك نمطية وكأننا تعلمنا في المدارس ايام كنا تلاميذ كيف نلقي القصيدة بصوت عال دون ان نراعي التمايزات الدلالية بين مقطع واخر، الشعراء يلقون في طريقة متشابهة الا القليلون الذين يعرفون ما تحتاجه قصائدهم. وقال الشاعر حسين القاصد : لقصيدة النثر مناخها وطقسها وهي تغضل مقروءة اكثر مما تكون منبرية، اما قصيدة العمود فهي منبرية، لكن الشعر الحالي بكل اشكاله اصبح يتجه نحو القراءة، المنبر مطلوب وما تزال القصيدة في المهرجانات منبرية والا لما اقيمت المهرجانات ولتم الاكتفاء بتوزيع قصائدهم اهداءات وينتهي الموضوع، لذلك المنبر مطلوب، وهناك من يسيء للالقاء وهناك من يسيء للغة، وفي المنصة يفضح الشاعر بغيره لانه حين يقرأ شيئا ولا يجيد اللغة حتى يتضح ان هذا النص له او لغيره، كتبه احدهم له او سرقه من اخر، هنا تكمن الفضيحة والابداع ان كان الشاعر هو من كتب قصيدته ومتكمنا من القائها، فالالقاء اداء ثاني وله شرح ثاني، الالقاء هو شكل القصيدة الثاني.
التعليقات (0)