كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الحاكم الحقيقي في روسيا، أهو الرئيس الحالي ديمتري ميدفيدف أم رئيس وزرائه فلاديمير بوتين؟
وتناقلت وسائل الإعلام الغربية والأميركية أخبارا تتحدث عن وجود شرخ بين ميدفيدف وبوتين، خاصة بعد أن أعلن ميدفيدف بأنه سيرشح نفسه للرئاسة القادمة، الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين بأنه خروج خطير عن الاتفاق غير المكتوب بين بوتين وميدفيدف، والذي يقضي بأن يهيئ مدفيدف سبيل الرئاسة لبوتين، كما مهد الأخير الطريق أمام ميدفيدف للوصول إلى السلطة، وذلك عبر رفضه ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثالثة بذريعة أنه يتنافى مع الدستور الروسي.
لكنه وافق -أي بوتين- على الترشح لمنصب رئيس الوزراء إذا رشح الناخب الروسي ميدفيدف لمنصب الرئيس. وهكذا كان الأمر، وأصبح ميدفيدف رئيسا وفلاديمير بوتين رئيسا للوزراء.
"
الغرب والولايات المتحدة المنزعجان من نهوض روسيا واسترجاعها لدورها على الصعيد الدولي أخذوا يروجون لتنامي الخلافات بين ميدفيدف وبوتين.
"
الغرب والولايات المتحدة المنزعجان من نهوض روسيا واسترجاعها لدورها على الصعيد الدولي أخذوا يروجون لتنامي الخلافات بين ميدفيدف وبوتين، بل ذهبوا أكثر من ذلك بتركيزهم على أن ميدفيدف هو الشخصية الديمقراطية والميالة إلى النموذج الغربي، وأنه يسعى إلى إرجاع روسيا إلى علاقات الود والشراكة مع الولايات المتحدة والعالم الغربي، وأنه يسير في الاتجاه المعاكس لمسار الرئيس السابق رئيس الوزراء الحالي بوتين، الذي حاول إعادة روسيا إلى النظام الشمولي بإعادة روسيا إلى العهد السوفيتي السابق، وكذلك من خلال إعادة إحياء الدولة "المخابراتية" في روسيا.
وبين هذا التحليل وذاك، خرجت الدوائر البحثية الروسية عن صمتها لتقول لنا من يحكم روسيا في حقيقة الأمر، وذلك عبر دراسة ومتابعة تحليلية لسير الأحداث في روسيا، حيث أعدت الباحثة الروسية أولغا فيكتروفنا كريشتنوفسكايا وهي رئيسة مركز دراسة الصفوة التابع لمعهد علم الاجتماع التابع للعلوم الروسية، دراسة بهذا الخصوص تقول فيها: "يتساءل الكثيرون وهم يراقبون السياسة الروسية من الذي يحكم روسيا في واقع الحل، ميدفيدف أم بوتين، ومن منهما الأهم؟".
أظهرت العديد من البحوث الاجتماعية في روسيا أن سكان البلاد لا يزالون يعتبرون فلاديمير بوتين هو الشخصية رقم واحد في البلد، أما الطبقة السياسية الحاكمة في البلاد، فتنظر إلى الأمر بدبلوماسية أكثر، فمكاتب رجال الدولة والمؤسسات الرسمية لا تزال تزين بصورتي كل من ميدفيدف وبوتين. ولكن هل هذا يعني أن هناك في روسيا مركزين للسلطة أم ماذا؟
وتضيف السيدة أولغا: "إن الحصول على إجابة شافية على السؤال المذكور ليس بالسهل، وذلك لأن السياسة الروسية في التطبيق تختلف عما هو موجود في القوانين الدستورية. فميزان القوة في الدولة لا يحدده فقط الجانب الرسمي، ولكن يحدده هو ما يملك السياسي من رأسمال سياسي شخصي وعلاقات غير تقليدية في أطواق النجاة السياسية، بما في ذلك تقسيم الصلاحيات الذي يجري خلف الكواليس".
ومن أجل إعطاء الإجابة على السؤال المطروح: من يحكم روسيا: ميدفيدف أم بوتين، دعونا نحسب الصلاحيات التي يمتلكها كل من فلادمير بوتين وديمتري ميدفيدف في الدولة الروسية الحالية.
صلاحيات الرئيسين
المكتب السياسي الإستراتيجي
الاقتصاد ومراكز القوة
بوتين وحزب روسيا الموحدة
صلاحيات الرئيسين
يعتبر ديمتري ميدفيدف رئيس الدولة المنتخب من قبل الشعب، الأمر الذي يعني أنه يمتلك صلاحيات واسعة وكبيرة. فهو الضامن للدستور والقائد العام للقوات المسلحة والدبلوماسي الأول في البلاد باعتباره الشخص الذي يحدد الاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية والداخلية، وهو الذي يعين رئيس الحكومة ونواب رئيس الحكومة، وكذلك يعين الوزراء والقادة العسكريين والادعاء العام، ومحافظ البنك المركزي والمحافظين ورئيس ديوان الرئاسة وموظفيها.
ويعطي الدستور الروسي للرئيس صلاحيات: إقالة كبار المسؤولين في الدولة وتحديد موعد الانتخابات البرلمانية وحل البرلمان، بالإضافة إلى صلاحيات أخرى لا مجال لذكرها.
ولكن كل ما ذكر هو على الورق، فما هي حقيقة الأمور في الواقع؟
فمثلا هل يستطيع ميدفيدف وهو الرئيس أن يوقع أمرا بإقالة رئيس الوزراء بوتين وحل حكومته؟ وهل يستطيع ميدفيدف أن يغير النهج السياسي في روسيا وبشكل جذري؟
نظريا يمكن للرئيس ميدفيدف أن يقوم بذلك، أما عمليا فلا يستطيع القيام به، لأن تحقيقه غير ممكن لمن هو في السلطة ولكنه يمتلك صلاحيات شكلية وحق شكلي، إنما يجب أن يمتلك الأذرع والأدوات والاحتياط الكافي، بالإضافة إلى الأنصار والمجموعات التابعة.
وتذهب السيدة أولغا في تحليلها لتقول: هل يوجد فريق لميدفيدف في السلطة؟
"
في الوقت الذي قلل فيه الرئيس ميدفيدف من دوره في إدارة اقتصاد البلاد فإن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين زاد وكثف من دوره في السيطرة على الاقتصاد.
"
وتجيب على هذا السؤال بالقول: إن رئيس الاتحاد السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف فشل فشلا ذريعا لأنه كان مخلصا لإدارته التي لم تسامحه على الإهانات التي وجهها لها، وكذلك لقيامه بخيانة المصلحة الجماعية، أما الرئيس بوريس يلتسين الذي كان يحتقر الكوادر لم يؤسس فريقا خاصا به في السلطة، وكان الكثير من أوامره الشفهية التي كان يصدرها، لم تكن تنفذ ولم تدخل حيز التطبيق.
فالمعروف أنه في أحداث عام 1993 (عندما قامت القوات الروسية بضرب مبنى البرلمان الروسي واقتحامه) لم تنفذ أمر الرئيس يلتسين باقتحام البرلمان إلا مجموعة صغيرة من الجيش الروسي، بينما رفضت وحدات كبيرة من الجيش تنفيذ الأمر لأنه شفهي، وطالبت الرئيس بأن يصدر أمرا مكتوبا لأنها -أي القطعات العسكرية- لا تنفذ أمرا صدر عبر الهاتف حتى ولو كان من الرئيس نفسه.
ولهذا يمكن القول إن أي سياسي قبل أن يتخذ قرارا بإجراء تغيرات حاسمة، عليه أن يحصل على دعم الطبقة الحاكمة في البلاد.
فالصلاحيات الممنوحة، أو إعطاء الأوامر تحتاج إلى من ينفذها على أرض الواقع. ولهذا فإنه على كل من يصل إلى المركز الأول في السلطة أن يقوم بتشكيل فريقه الخاص به، ويحتاج الشخص الأول في السلطة عادة لتشكيل مثل هذا الفريق الخاص خلال فترة العامين، وهي الفترة التي احتاجها كل من الرؤساء بريجنيف وغورباتشوف ويلتسين لتشكيل فرقهم الخاصة بهم.
وأعضاء هذه الفرق عادة ما يكونون من المخلصين لرؤسائهم وينتقلون معهم لأي مكان أو منصب ينتقل إليه هؤلاء الرؤساء. أما الرئيس بوتين فقد أمضى أكثر من سنتين لتشكيل فريقه، وقد استطاع في بداية عام 2003 أن يحيط نفسه بأنصار مخلصين له.
أما مع الرئيس الحالي ميدفيدف فكيف تسير الأمور؟ عن هذا السؤال تجيب أولغا بالقول: "خلال سنة ونصف من حكمه استطاع الرئيس ميدفيدف أن يعين ما تقل نسبته عن 10% من أنصاره في المراكز القيادية الرئيسية، وذلك لأن ميدفيدف ومنذ وصوله إلى السلطة في الكرملين، كان مقيدا في تصرفاته بشأن تعيين الكوادر. فمن أجل أن يعين أنصاره فعليه أن يبعد أنصار بوتين من المناصب التي يشغلونها، والحال أن الرئيس بوتين يعتبر الأب السياسي لميدفيدف كما لا يزال -أي بوتين- يمسك بدفة الأمور ولم يتقاعد بعد".
ولو قام ميدفيدف بأي حراك ضد أنصار بوتين الذين يمسكون المناصب القيادية في روسيا لاعتبر الأمر بمثابة هجوم على مواقع بوتين، إلا أن ميدفيدف لم يقم بذلك، إما لأنه لم يرغب بذلك أو لأنه لم يستطع.
أما سياسة تغيير الكوادر والتعيينات الجديدة في المناصب الحكومية والتي من المتوقع أن تجري مع مجيء مدفيدف إلى الحكم، فيمكن تقسيمها نظريا إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول أن هذه الكوادر يمكن أن يكونوا من أصدقاء أو زملاء الرئيس ميدفيدف، الصنف الثاني من أصدقاء أو زملاء رئيس الوزراء فلاديمير بوتين. أما الصنف الثالث فهم من الشخصيات المحايدة أو المهنية.
لكن الذي جرى من تعيينات منذ مايو/أيار 2008 ولحد اليوم فإنها جرت على أساس مبدأ التصنيف الثاني والثالث، وهذا يعني من الناحية التطبيقية أن أنصار ميدفيدف لم يتم تعزيزهم في الكرملين، ولهذا فإن أنصار ومريدي ميدفيدف في الدولة الروسية والمناصب الحكومية يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهذه نسبة قليلة لتشكيل فريق السلطة ولنمر ببعض التعيينات التي قام بها الرئيس ميدفيدف:
الكسندر كونوفالوف: عين بمنصب وزير العدل وهو زميل ميدفيدف في الدراسة الجامعية، ولكنه في زمن بوتين كان يشغل منصب الممثل الشخصي للرئيس بوتين في منطقة الفولغا.
قسطنطين جويجنكو: عين بمنصب مساعد الرئيس وكان في زمن بوتين يشتغل في عملاق الغاز الروسي "غاز بروم".
نيكولاي فينجنكو: عين بمنصب ممثل الرئيس في منطقة الأورال (عمل في زمن الرئيس بوتين في المحكمة الروسية العليا).
وهنا والكلام للسيدة أولغا رئيسة مركز دراسة الصفوة في روسيا، فإن أمامنا رئيس بدون فريق خاص به، بل إن الرئيس ميدفيدف هو جزء من فريق فلاديمير بوتين.
المكتب السياسي الإستراتيجي
"
خصوصية اللحظة الراهنة في روسيا أنه ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، أصبح رئيس الوزراء في روسيا قائدا حزبيا.
"
يعتبر الرئيس ديمتري ميدفيدف رسميا القائد العام للقوات المسلحة الروسية، ويترأس مجلس الأمن القومي. ولكن هل في الحقيقة يقود ميدفيدف رجال أجهزة القوة (مصطلح روسي يطلق على رجال المخابرات والأمن الروسية) وهم الذين أتى بهم الرئيس بوتين إلى السلطة؟
تقول الباحثة بخصوص هذا السؤال: يوجد عندنا في روسيا جهازان رئيسان يقومان بتنسيق عمل "رجال القوة" ومؤسساتهم، وهذان الجهازان هما: مجلس الأمن القومي وأجهزة القوة في الحكومة.
والسيد فلاديمير بوتين، ومنذ وجوده في السلطة، أسس أسلوب عمل خاص به، وذلك عندما كان يعقد اجتماعا في كل يوم سبت في مكتبه في الكرملين مع بعض رؤساء الأجهزة الأمنية. أما تشكيلة هذا الاجتماع التي أطلق عليها مجموعة السبت، فكانت تضم كل من رئيس الوزراء ورئيس ديوان رئاسة الكرملين ووزير الدفاع ووزير الداخلية ورئيس جهاز المخابرات بشقيها (المخابرات ومكافحة التجسس).
وكانت هذه المجموعة بمثابة المكتب السياسي الإستراتيجي لبوتين، لأن هذه المجموعة كانت تقوم باتخاذ القرارات والرؤى الإستراتيجية التي تخص سياسات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية للبلاد مع العلم أن اجتماعات السبت لم يكن لها علاقة باجتماعات الحكومة الدورية.
أما في زمن الرئيس ميدفيدف فإن عمل الرئيس مع أجهزة ورجال "القوة" اكتسب طابعا شكليا، وأخذ صيغة الطابع الرسمي للقاء رئيس الدولة بأعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، وهذا الاجتماع لم يعد حكرا على أجهزة القوة بل أخذ يحضره كل من رئيس مجلس الدوما (البرلمان) ورئيس مجلس الفيدرالية (مجلس الشيوخ)، وبالمناسبة كلهم من أنصار فلاديمير بوتين.
أما هذه الاجتماعات فقد أخذت تعقد بشكل أقل من الماضي، بينما كانت في زمن الرئيس بوتين تعقد وبشكل منتظم أربع مرات في الشهر، والملاحظة الأخيرة بشأن هذه الاجتماعات التي يعقدها الرئيس ميدفيدف: أن رئيس الوزراء الحالي بوتين بلغت نسبة حضوره فيها 56%، وهذا أمر كان من غير الممكن في زمنه، إذ لم يتغيب رئيس الوزراء أي مرة في الاجتماعات التي عقدها بوتين.
وهنا ينشأ تساؤل، إذا كان الرئيس ديمتري ميدفيدف شكليا هو الذي يقود أجهزة القوة، فهل قادة هذه الأجهزة ومنتسبيها يعتبرونه رئيسهم؟
الاقتصاد ومراكز القوة
ومن خلال المتابعات التي قامت بها أجهزة ومعاهد البحث السياسي في روسيا والتي قادها مركز بحوث الصفوة، فإنها أشارت إلى تغير واضح في شكل وصيغة إشراف الرئيس على المؤسسات الاقتصادية، فبوتين خلال رئاسته كان يجتمع في كل يوم إثنين في الكرملين وبشكل دوري ومنتظم بالوزراء المسؤولين عن الشأن الاقتصادي في حكومته وفي ديوان الرئاسة.
الرئيس الحالي ميدفيدف يعقد مثل هذه الاجتماعات ولكن بشكل أقل مرة واحدة في الشهر، وليس لها يوم محدد في الأسبوع، وحتى في ذروة الأزمة الاقتصادية لم يُعقد الاجتماع أكثر من مرتين في الشهر.
صحيح أن القيادة العملياتية لصياغة الإجراءات الخاصة بمكافحة الأزمة الاقتصادية في البلاد وضعت مسؤولياتها على مجلس الوزراء، ولكن هذا لا يمنع أنه يشير بوضوح إلى التغير الذي تحدثنا عنه.
ولاحظ المختصون أيضا انخفاض عدد لقاءات العمل للرئيس ميدفيدف مع رئيس وزرائه فلاديمير بوتين. ففي عام 2009 تعقد هذه اللقاءات مرة واحدة كل أسبوعين، أما في فترة هذه اللقاءات فإنها تمتد ما بين فترة الخمس دقائق إلى النصف ساعة. أما حضور رئيس الوزراء فلاديمير بوتين إلى الاجتماعات الاقتصادية التي يعقدها الرئيس ميدفيدف، فهي تبلغ نسبة 30% من هذه الاجتماعات وهي أقل من حضوره إلى اجتماعات مجلس الأمن القومي الروسي.
وبنفس الوقت فإن وتيرة اجتماعات الحكومة ومجلس رئاستها لم تتغير أبدا بالرغم من أن رئيس الوزراء بوتين يفضل اللقاء بحلقة ضيقة من مجلس رئاسة الحكومة، أما عدد اجتماعات الحكومة فبقي كما كان في زمن ميخائيل فرادكوف (رئيس الوزراء في زمن الرئيس بوتين).
وفي الوقت الذي قلل فيه الرئيس ميدفيدف من دوره في إدارة اقتصاد البلاد فإن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين زاد وكثف من دوره في السيطرة على الاقتصاد. فالسيد بوتين قام بتعيين أنصاره ومؤيديه في أكبر الشركات الروسية وبالتحديد في مجالس إدارة هذه الشركات حيث يتربع أنصاره في مجالس إدارات كل من شركة "غاز بروم" (عملاق الغاز الروسي) وشركة "أيروفلوت" (خطوط النقل الجوي الروسي) وشركة الألماس الروسية وشركة "روس تكنولوجي" وشركة السكك الحديد الروسية وغيرها, وبالإضافة إلى هذه الشركات فإن الحكومة الروسية تقود عددا من كبريات الشركات الروسية التي تعتبر تابعة للدولة، وكل هذه الشركات تشكل قوة لا حدود لها بالنسبة لرئيس الوزراء.
وتذهب السيدة أولغا كريشتنوفسكايا رئيسة مركز بحوث الصفوة التابع لأكاديمية العلوم الروسية بتحليلها لتقول: "ظهر في تاريخ روسيا المعاصر تقليد يسمي رؤساء الحكومات في روسيا "برؤساء الوزراء الفنيين"، وفي الحقيقة أن هذا الأمر صحيح لأنه طبقا لدستور البلاد، إن رئيس الوزراء هو مجرد موظف بالرغم من أهمية منصبه ويستطيع الرئيس إبعاده بجرة قلم (ولكن بعد أن يأخذ الرئيس موافقة مجلس الدوما)".
وبالرغم من أن كلا من رؤساء الوزارات في روسيا الحديثة أي روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهم كل من فكتور جيرنوميردين، وفرادكوف، وكوسيانوف، وزوبكوف كانوا سياسيين، إلا أنهم كانوا يظهرون على الدوام تبعيتهم للرئيس، وأن مهمتهم تتركز بالدرجة الأولى على الجوانب الاقتصادية. ومن هذا المنطلق أطلق على رؤساء الوزارات أنهم "فنيون" وليسوا شخصيات سياسية.
لكن الأمر بالنسبة لبوتين يختلف جذريا، وهنا لا يكمن فقط بشخصية بوتين ولكن بقانونية وشرعية بوتين نفسه أيضا، حيث إن الكثير من البحوث الاجتماعية الروسية قد أظهرت أن كلا من بوتين وميدفيدف يعتبران من أكثر الشخصيات السياسية شهرة، كما يحظيان بدعم أغلبية أبناء الشعب الروسي.
وخصوصية اللحظة الراهنة في روسيا أنه ولأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، أصبح رئيس الوزراء في روسيا قائدا حزبيا. فالمواطنون في روسيا عندما صوتوا في انتخابات ديسمبر/كانون الثاني 2007 لصالح حزب روسيا الموحدة، لم يعطوا ثقتهم لقائد الحزب فلاديمير بوتين فقط، بل جعلوا منه شخصية سياسية تتساوى في شرعيتها مع شخصية الرئيس. ولهذا فإنه في روسيا الآن قائدان صوتت عليهما الملايين من الناخبين.
وقد غير هذا وبشكل جذري موازين القوى، فقد تحول رئيس الوزراء من موظف حكومي عالي المستوى إلى سياسي على مستوى قومي ويتساوى بشرعيته مع شرعية الرئيس المنتخب شعبيا، ولهذا فإن تنظيم بوتين ميدفيدف على هذه الصورة القائمة أصبح ممكنا بعد أن حظي كل منهما على هذا الدعم الكبير من الشعب.
بوتين وحزب روسيا الموحدة
"
يبدو أن بوتين يمثل أقوى رئيس وزراء في تاريخ روسيا، فلو أثبتنا دستوريا الصلاحيات التي يمارسها فعليا لبدت روسيا وكأنها تعيش في جمهورية برلمانية.
"
منذ بداية عام 2008 أصبح واضحا أن السيد بوتين يختلف تماما عن كل رؤساء الوزراء الذين سبقوه ليس فقط بسبب وزنه السياسي وتأثيره الكبير بين رجال المخابرات والأمن وأجهزة القوة الأخرى، ولكن بسبب امتلاكه مصدرا إضافيا للقوة يتمثل في حيازته للأغلبية الدستورية في البرلمان.
وتفصيل ذلك أنه تم في فبراير/شباط 2009 تغيير طريقة تشكيل مجلس الفيدرالية الروسي (مجلس الشيوخ)، فأصبح من الواجب على المرشح للمجلس الفدرالي أن يكون من أعضاء البرلمانات المحلية في المقاطعات الروسية، والحال أن الحزب الذي فاز في انتخابات أبريل/نيسان وأصبح المهيمن على مجالس البلديات والمحافظات هو حزب روسيا الموحدة الذي يترأسه بوتين، وأصبح بإمكان الأخير من خلال حزبه أن يعين أو يستبعد المحافظين في الأقاليم الروسية.
وإذا قمنا باحتساب مصادر القوة والتأثير التي يمتلكها بوتين يتضح لنا بأنه لا يقود الحكومة فقط، بل يقود مجلس الدوما (البرلمان) حيث أعضاء حزبه يشكلون أغلبيته بنسبة تصل إلى 70%، كما يقود أيضا مجلس الشيوخ الذي يشكل أعضاء حزبه أغلبيته بنسبة 70.5%، وكذلك يقود بوتين الغالبية العظمى من المحافظين في المقاطعات والمحافظات الروسية، أضف إلى ذلك رؤساء البلديات والنواب في المجالس المحلية.
وعليه، فإن الترشيحات التي تتطلب موافقة مجلس الشيوخ أو مجلس الدوما ستكون كلمة الفصل فيها لحزب روسيا الموحدة بزعامة بوتين، ومنها مناصب مهمة مثل محافظ البنك المركزي الروسي ومنصب الادعاء العام وكذلك مناصب قضاة المحكمة العليا.
وهكذا أصبح حزب روسيا الموحدة حلقة رئيسية ومهمة في تأمين التأثير السياسي لقائد الحزب، وأصبح حزبا يمتلك التأثير على السلطة ابتداء من المركز وحتى مجالس البلديات.
يبدو أن التنظيم الجديد في روسيا بوتين – ميدفيدف، غير النظام السياسي في روسيا بدون أن يغير شيئا في الدستور (فقط تم تغيير فترة الرئاسة المقبلة من 4 سنوات إلى 7 سنوات، وهذا التغيير أجري للمستقبل ولا ينطبق على الرئيس الحالي)، إذ يوجد في روسيا اليوم مركزان للسلطة، وتقاسم كل منهما الصلاحيات الدستورية، فقد احتفظ بوتين برجال القوة (الأجهزة الأمنية والمخابرتية) والاقتصاد والبرلمان والأقاليم والحزب، وبقى لميدفيدف التنفيذ الشكلي للصلاحيات الدستورية إضافة إلى المحاكم ومحاربة الفساد وتطوير كوادر الدولة.
ويبدو أن بوتين يمثل أقوى رئيس وزراء في تاريخ روسيا، فلو أثبتنا دستوريا الصلاحيات التي يمارسها فعليا لبدت روسيا وكأنها تعيش في جمهورية برلمانية. ويمكن القول أيضا إنه لو قمنا في ظل النظام الروسي السياسي الحالي بإلغاء فقرة تعيين رئيس الدولة لرئيس الحكومة، ويصبح رئيس الحكومة وبشكل تلقائي رئيس الحزب الذي يفوز بالانتخابات ولديه أغلبية، لأصبحت روسيا تعيش على النموذج الألماني الحالي.
وفي الختام
وعلى ضوء كل هذه التحليلات، وإجابة على التكهن حول أي نموذج سياسي تسير روسيا، هناك من يقول إن ميدفيدف سيترك السلطة بعد انتهاء ولايته ليترأس حزب سلطة جديد، وسيكون في روسيا نظام سياسي بحزبين فقط، شبيه بالنظام السياسي الأميركي، حزبان فقط ديمقراطي وجمهوري يتنافسان على السلطة والى الأبد.
_______________
رئيسة معهد دراسات الصفوة التابع لأكاديمية العلوم الروسية.
() مستشار رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية السياسية الروسية في موسكو.
هامش
مصدر التقرير: صحيفة نيزافيزامايا الروسيه 26 أكتوبر/تشرين أول 2009، وللاطلاع على النص الأصلي للتقرير،
التعليقات (0)