مواضيع اليوم

من الخيمة الى العاصمة

بوشعيب دواح

2010-01-13 23:44:25

0

من الخيمة إلى العاصمة


بقلم : الأستاذ بوشعيب دواح
إلى الصديق شكيب أريج                                                                             

تصفحت الجريدة. الجريدة قريبة من عيني . العينان مركزتان على المقال. المقال يحمل صورتي بالحجم الكبير . رأسي يكاد يغيب بين رؤوس العصي و الهراوات....

مذ كنت صغيرا و أنا أحلم أن أكون يوما ناجحا. والداي يقيمان لي حفلة النجاح، أمتطي فيها صهوة حصان عربي أصيل بلباس تقليدي، أتخيله جلبابا بيضاء كبياض الثلج و بلغة صفراء فاقع لونها تتناسب مع لون السرج و عمامة رقيقة فوق رأسي .أقراني و قريناتي من حولي يباركون و يباركن لي النجاح و أنا أزهو راكبا على فرسي.آخذ صورا تذكارية مع أبناء و بنات الدوار و أسمع رجال البلدة يتجاذبون الحديث حول صبري و اجتهادي حول ملامسة شفاه النجاح ...
أسمع داخل منزلنا "الفقهة"حفظة القرآن يمرون على الآيات بأصوات مختلفة و مقدمهم يتفنن في قراءتها...
حينما كنت صغيرا، كل أقراني كان لهم حلم واحد، وهناك من لم يكن له حلم ، أما أنا فكنت أحلم أن أصبح كاتبا مشهورا . كنت أحب أن أرى كتاباتي تطفو على صفحات الجرائد. جرائد الوطن .أرى اسمي مضافا الى لائحة الكتاب المشهورين كمحمد زفزاف، محمد شكري أو ادريس الخوري... أحرص أن ألتقي بهم قبل مماتهم. أقرأ. أحتفظ بقصصهم الورقية والإلكترونية. ترعرعت بين أحضان الطبيعة. طبيعة خلابة، جذابة. كم عدوت بين الأشجار ورافقت الطيور. كم رعيت من حيوانات ونمت بين الزهور. كم سمعت طنين النحل وشممت النسيم العليل...
ربما كنت أريد أن أصبح طبيبا مداويا، أسعف أمي التي عانت من المرض لمدة ثلاث وثلاثين سنة، ابتدأها المرض اللعين سنة قبل أن تلدني، وها أنذا أمامها، تتمنى أن أكون طبيبا لتفتخر بي أمام نساء الدوار. النساء غالبا ما يفتخرن بأبنائهن أمام بعضهن البعض في الأعراس و في المواسم...لكنها غالبا ما كانت تبادرني بجملة مسموعة، غير مفهومة"يا وليدي ، من يدرس يسقط، و من يجد عملا يتركه".
حينما كنت صغيرا أمر أمام مستوصف بلدتي أبذل مجهودا، أقف على أصابع رجلاي لقصر قامتي، أسترق النظر من زجاج نافذة المستوصف المنكسرة لأرى المستوصف خاويا إلا من كرسي حديدي بارد بدون طبيب، وبدون ممرض، بدون مضادات لسموم العقارب التي قتلت العشرات من الأطفال أمام عيني. و حينما أعود الى السوق أرى أسواره القديمة التي بنيت في أيام فرنسا تتهاوى كأضراس رجل مسن فقير، عاما بعد آخر بدون ترميم . و حينما أصبح ذي نفوذ ، أنافس تلك القطط السمينة ذات الأيدي الناقصة التي تكره العلم والثقافة. حينما أصبح صحفيا سأصلب مندوب الصحة و رئيس المجلس في بعض أعمدتي بمقالات تتطاير حمما كلامية بركانية . سأترك رئيس المجلس حين يراني يصاب بسبق البول، أو بسلسه وربما يشتكي للباشا،...الباشا يستدعيني يوما و يهددني بالقتل إن لم أدخل "سوق راسي"...
حينما كنت صغيرا. السماء تمطر. أتمشى تحت الأمطار. وراء بناية المدرسة كنت أعرض رأسي للقطرات المنسابة من حاشية السقف. المدرسة بدون كهرباء . غالبا ما كنا نطلب الماء من الدوار حين نعطش. و لا شجرة تجود علينا بالظلال. و لا حائط يقينا الحر والقر. أعود الى مدرستي الصغيرة الحلوة بعد أعوام ، و أتكلم للتلاميذ و أقول لهم أني مررت من هنا ، و أأسس جمعية و أساهم من راتبي لتتبع التلاميذ الذين يأتون على رأس اللائحة، أقيم لهم حفلة نهاية كل سنة دراسية، مع أن صورة معلمنا لن تزول من ذاكرتي و هو وراءنا يمرر يده بين فخدي تلميذة و يقضي مآرب أخرى، ونحن ندير وجوهنا البريئة إلى السبورة...
حينما كنت صغيرا أتمشى في الأسواق، و أتسلل بين الكائنات الآدمية لأدخل "الحلقة" يقال أن فن الحلقة هو أم المسرح. وأرى ذاك الساحر يحضر أوراقا نقدية من أمازيغي بخيل يقول لنا أنه لا يصدق ولا يزكي أو أراه يحضر حماما أبيض... أنتقل الى حلقة أخرى لأرى "حلايقي" مستقطبا الناس بأكذوبة الأفعى التي أكلت كل أرانب و دجاج الدوار وما قبض عليها لا رجال الدوار و لا رجال الدرك. صاحب الأكذوبة وحده يفعل، و حينما تتجمع الحلقة يخرج عوده ، يطرب شيئا من الوقت بعض القصائد ليخرج بعض الأسطوانات قصد بيعها.
و أخال نفسي أكبر وأصبح فنانا ، نجمي يلمع في سماء الشهرة ، تطاردني آلات التصوير و كاميرات الهواتف النقالة ، يسائلونني عن مشاكلي مع زوجتي و معي عشرات المعجبات يناقشن معي إشاعة اصابتي بداء السرطان أو إشاعة الاتجار في الممنوعات ...في حين أتجول في شوارع المدن الكبرى و النظارات السوداء لا تفارق عيني لأتفادى بريق الكاميرات الفوتوغرافية وأهرب من مصافحة الأيدي والقبلات...
في العاصمة، المارة و السكارى المفلسون يتبولون على الأسوار التاريخية....عاهرات أمام مجلس الشعب. راكبات "صطافيطات" مهترئة مقبوضات من طرف رجال بوليس بطونهم متدلية...
في العاصمة ، صحافيون يصلون الى مسرح الحدث عبر حافلات مهترئة...
في العاصمة تدخل وزارات فتجدها خاوية على عروشها بدون مؤطرين، فقط تجد حراسا بأجور زهيدة يغازلون الوقت والحيطان الصماء...
في العاصمة المسرح لا يلجه من هب و دب. ممثلون يبكون حظهم العاثر في المقاهي المجاورة للمسرح. ممثلون لا يصعدون الخشبة الا بعد أن يخشبوا أدمغتهم بكل أنواع المخدرات الصلبة...
في العاصمة أطباء مرضى، يعانون البطالة و كساد الصنعة. أطباء لا يدخلون غرف العمليات الا بعد أن يجرون عمليات ارتشاء يخدرون بها جيوبهم...
في العاصمة طلبة متسكعون لا يعيشون سوى على فتات المنحة ووجبات غذاء بالصودا .طلبة يأخذون حماما تحت صنابير صدئة ...
من الخيمة الى العاصمة ركبت قطار العلم ، من مدرسة الى مدرسة، و من مدينة الى مدينة ،من شهادة الى شهادة ، ومن فضاء الجامعة الى فضاء النضال ، اقتربت من تحقيق كل أحلامي، لم يتبقى لي الا النزر القليل.
بالأمس حملت جريدة فيها صورا لما خلفته تدخلات رجال الأمن من كسور و كدمات، أسراب من المعطلين على العمل متجمعة و أنا منهم، أحدهم يمسك بي إلى الفاركونيط و قائدهم يدعوه الى اطلاق سراحي...
و اليوم أتصفح جريدة جديدة ، أرى فيها صورتي كبيرة في الصفحة الأولى رأسي يكاد يغيب بين رؤوس العصي
و الهراوات و حينما أتجول في شارع من شوارع العاصمة يبادرني طفل صغير :" لقد رأيتك ، لقد رأيتك في الصفحة الأولى من الجريدة...".




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !