لا أعرفُ لكلمةِ "الهَلْس" مصدراً سوى ما أسمعُه من بعض إخوتنا العرب في ألسنتهم الدارجة حينَ يعبّرونَ عن كثيرٍ من التصرّفات أو الكلام الجميل ظاهراً والمليء بالمُحسّنات اللفظية والمبالغة الصّاعدة دونَ أن يكون وراء ذلك شيءٌ يُعتمدُ عليه من صدقٍ أو موضوعيّة،وفي بعض الظروف يكون هذا "الهَلْس" من ضروريات المُجاملة أو رفْعِ أفرادٍ فوقَ رءوس مُنقادينَ لهم ووضعِ آخرين تحتَ أقدام غاضبينَ منهم ..
ووجدتُ زُمراً من الناس تصفُ نشرات الأخبار "بالهِلْس" وتضيفُ إليها أخبارَ المشاهير وبرامج تعرضُ مُنجزات آحادٍ من الخلقَ علَوْ في الأرض علوّاً كبيراً،وأخبرني رجلٌ متقدّمٌ في العمُر يجلسُ أمامَ شاشةِ التلفزيون جُلّ نهاره وبعض ليلِه منذُ أن انطلقت القنوات المتخصّصة في الأخبار بأنّ ما يسمعهُ يوميّاً من تصريحاتٍ واجتماعات ولِجان بل ونتائج انتخابات ومفاوضات إنما هي "التّهليس" بعينه،ويقولُ أيضاً بأنّ ما يدعوه لمتابعة هذا "الهَلس" رغم معرفته بكذبه عائدٌ لقدرة إبليس على تلبيس التّهليس ..
والحقيقةُ بأنّ جَعْلَ الحقّ باطلاً والباطلَ صِدقاً حرفةٌ أصيلةٌ قديمة لمن يعرفُ من أينَ تؤكلُ الأذن،وكلّ الدّيانات حذّرَتْ من هؤلاء الذين يستخدمون جميعَ أسلحة البلاغة الجمال والتعبير وكلَّ أعيرةِ الذوق اللفظي لحسْرِ المفاهيم فيما يريدونَ من مصابّ مهما كلّفهم الثّمن،ولعلّ وضوحَ الصورة في ممارسات هؤلاء السلف الفاسدِ من الأوّلين عفا الله عنهم رسّخَ في العقول مهارة الحذر من حلاوة اللسان وطعمِ الكلمات الرّطبة ولون الحروف النّضرِة،وصرَفَ أجيالاً من الخلق عن اللغة والاهتمام بتجويد الإنشاء ..
إنّ "التّهليسَ" هوَ ذاتُه لهوَ الحديث الذي نهانا الشارعُ الحكيم عن الاتّجار به وبيعه وشرائه والإصغاء إليه أو الانشغال به،والتعبير بالّلهو في الّذكر الكريم يعودُ إلى مصدره وهو "الإلهاء" عن الأمور العظيمة والرئيسة والهامّة في حياة الإنسان الواحدِ من المجتمع،وليس من المنطق أن ينحصر اللهو فيما شاعَ عند الواعظين من شعرٍ غزليّ أو غناءٍ طربي أو إسفافٍ لا يُحسبُ أساساً في عالم اللغة والتواصل بين الناس،وحينَ يتضّحُ بأنّ الهدفَ من لهوِ الحديث الذي صارَ اليومَ "تهليساً" هو الإضلالُ بعدَ الإلهاء فلا أظنّ بأنّ عيناً تملكُ أقلّ قدراتِ الرؤية لا يمكنها أن تشاهدَ ما سطّرَه القرآن الكريمَ قبل أربعة عشر قرناً ..
والمُداومةُ على هذا المنهج من إفراغِ المضامين الكبيرة والقيمِ العامّة الموجودة أصلاً في العبارات والمصطلحات والحروف والكلمات بمبدأ "التهليس" الضروري لمن ينوي حيازة ميزاتٍ ليست له تجعلُ من الحياة مع هؤلاء صعبةً للغاية وتكادُ تكون مستحيلة إلا إذا بِعْتَ الأذُن وأَسْلمتَ اللسان ونَهرْتَ العينَ وخَدّرتَ القلب،وبعدها ستنتقلُ تدريجيّاً إلى مرحلة من الزّقّوم أكثرُ مرارةً من سابقتها وهي "التّدليس" ليصدُقَ التوقّع القائلُ بأنّ زماننا هذا زمنُ الغرائب والعجائب يجعلُ الباطلَ حقّاً والولدانَ شيباً ..
وعلماءُ مُصْطَلحِ الحديث وأصولِه يعتبرونَ "التدليس" أخطرَ من "الوَضْع" الذي هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله،لأنّ الأخير بيّنٌ للعيان لا ينطلي على متعهّد للسنّة يعرفُ غريبها وشواردها ودأبها ولكنّ "التدليسَ" أمرٌ في غاية الدقّة يُستعملُ فيه الإيهامُ بأمرٍ ليُفهَمَ منه المطلوبُ عندَ القائل على غيرِ مقصود السامع،وهو قريبٌ من مصطلح "التّورية" المستخدم في علوم البلاغة ..
ويكفي أن نعرفَ بأنّ إشغالَ الرأي العام والشارع بأمورٍ معيّنة لصرفِ الأنظارِ عن مشكلةٍ أخرى والعملِ على حثّ المتكلّمين لملأ الفراغِ دونَ وعيٍ أو احترامٍ للنفوس البشريّة هو عينُ "التّهليس" الذي قادَ كلّ المجتمعات إلا من رحمَ ربّي للبقاء تحتَ طائلة "التّدليس" ..
إفهامُ العامّة بأنّ الوضعَ طبيعيّ تدليس وإقناعُ الخاصّة بأنّ التزوير ضرورةٌ اجتماعيّة تهليس،والإصغاءُ لوجهاتِ نظرٍ محمولةٍ من الأعلى إلى الأدنى تهليسٌ أيضاً كما أنّ صرفَ الانتباه والاعتبار عن مشكلاتِ الكادحين والفقراء والبؤساء في الأرض تدليس،والتوجّه نحوَ حلّ المشكلاتِ القديمة التي نُسيَتْ ردحاً من الزّمن بعصا سحريّةٍ تهليس والقولُ بأنَّ المجتمعات لا بدّ أن يكونَ فيها ظالمٌ ومظلومٌ تدليس،أمّا إشاعة الشّفافيّة بفضحِ عدد لا متناهي من مُمارسات أطفالِ الرّجال الخاطئة لتغطيةِ فظائعِ وكبائرِ ما ارتكبَهُ فئةٌ قليلة غيرُ مستضعفةٍ في الأرض فهو تدليسٌ وتهليسٌ وتلبيسُ ..
التعليقات (0)