من أسرار القرآن (396):
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون} (النور: 27)
بقلم: د. زغلول النجار
هذا النص القرآني الكريم جاء في بدايات الربع الثاني من سورة النور, وهي سورة مدنية, وآياتها أربع وتسعون (94) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي حقيقة أن الله- تعالي- هو نور السماوات والأرض.وأنه هو الذي يهدي لنوره من يشاء من عباده, وأنه (من لم يجعل الله له نورا فما له من نور). ويدور المحور الرئيس لسورة (النور) حول عدد من التشريعات الضابطة لسلوك المسلم في حياته, والحاكمة لعلاقاته بغيره, وذلك صونا لحرمات كل من الأفراد, والأسر, والمجتمعات المسلمة.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
يقول ربنا- تبارك وتعالي- في محكم كتابه:يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون. فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتي يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكي لكم والله بما تعملون عليم (النور: 28,27)..فقوله تعاليلا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم.. أي لا تدخلوا بيوتا غير البيوت التي تسكنونها أنتم, حتي لو كانت تلك البيوت التي يسكنها غيركم ملكا لكم, وهي مؤجرة عليهم أو معارة لهم. وذلك لأن كلا من مؤجر البيوت ومعيره لغيره منهيان عن الدخول علي ساكنه بغير إذن, وإن كان كل منهما يملك البيت, مما يؤكد علي حرمة الساكن, بغض النظر عمن يملك البيت.
وفي قوله تعالي...حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها... أي: حتي تستأذنوا من أهلها, وتسلموا عليهم. و(الاستئناس) في اللغة هو طلب الأنس بالآخر, ويشمل اطمئنان القلب, وسكون النفس, وزوال الوحشة, وذلك لأن الاستئناس هو ضد الاستيحاش. وقد يكون من معاني (الاستئناس) الاستعلام, وذلك من قولهم (آنست) شيئا إذا أبصرته ظاهرا مكشوفا. وعندما يستأذن الزائر أهل البيت في الدخول عليهم فإنهم يأنسون باستئذانه كما يأنس هو إلي إذنهم له بالدخول عليهم. و(السلام) هو تحية المسلمين, وتحية أهل الجنة( السلام عليكم).
ومن آداب الإسلام تقديم السلام علي الاستئذان في الدخول إلي بيوت الغير, وذلك لقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا يؤذن له حتي يسلم (البخاري). فإن كان القادم يري أحدا من أهل البيت سلم أولا, ثم استأذن في الدخول, وإن لم يتمكن من رؤية أحد قدم الاستئذان علي السلام. ويؤكد ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله! أرأيت قول الله تعالي...حتي تستأنسوا وتسلموا علي أهلها... هذا التسليم قد عرفناه, فما الاستئناس ؟ قال- صلي الله عليه وسلم-: يتكلم الرجل بتسبيحة, وتكبيرة, وتحميدة, ويتنحنح فيؤذن له أهل البيت (رواه الطبراني).
وفي زماننا الراهن يعتبر طرق الباب أو قرع الجرس نوعا من الاستئذان, الذي يليه السلام.
وفي قوله تعالي:... ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون أي أن الاستئذان والتسليم قبل دخولكم إلي بيوت غير بيوتكم فيه الخير الكثير لكم, ومن ذلك أن يعفيكم من الوقوع في شيء من الحرج, ويجنبكم إيذاء الآخرين بالاطلاع علي عوراتهم أو علي ما لا يحبون أن يراه غريب منهم, فلعلكم إذا علمتم هذا الأدب في السلوك أن تعملوا به, وأنتم مدركون الحكمة من تشريعه. فالاستئذان في دخول بيوت لغير واجب علي كل طارق, سواء كان رجلا أو امرأة, مبصرا أو أعمي, إلا في حالات الضرورة القصوي كالاشتعال المفاجئ للحرائق, أو الهجوم المباغت للصوص, أو طلب الاستغاثة.
وأحكام الاستئذان هي خاصة بالبالغين من الرجال والنساء, أما الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فإنهم غير مكلفين بالاستئذان إلا في أوقات كل من الفجر والظهيرة, والعشاء.
ومن الآداب الإسلامية عدم الدخول علي المحارم إلا بإذن, فقد قال رجل للنبي- صلي الله عليه وسلم-:أأستأذن علي أمي ؟ قال: نعم. قال الرجل: إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل لا, قال: فاستأذن عليها (رواه مالك في الموطأ).
ومن الآداب الشرعية في الاستئذان ألا يستقبل الزائر الباب بوجهه, بل يجعله عن يمينه أو عن شماله. وهذا الأدب يجب أن يلتزم به كل مسلم في عصرنا لأن الدور ولو كانت مغلقة, فإن استقبال الطارق للباب عند فتحه بوجهه فقد يقع نظره علي ما لا يجوز اطلاعه عليه, أو علي ما يكره أهل البيت أن يراه.
وفي قوله- تعالي-: فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتي يؤذن لكم... تأكيد علي عدم جواز دخول البيوت المفتحة الأبواب بدون إذن, فربما كان في البيت أهله, ولم يشاءوا الرد علي الزائر, وربما كان البيت خاليا من أهله فلا يجوز اقتحامه بغير إذن مسبق منهم, وذلك لأن للبيوت حرماتها, فلا يحل دخولها إلا بإذن أهلها.
وفي قوله تعالي... وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكي لكم والله بما تعملون عليم أي أنه يا معشر الزوار إذا قال لكم أهل الدار إنهم غير مستعدين لاستقبالكم فإنه أطهر لنفوسهم ولنفوسكم أن تعودوا من حيث أتيتم, دون أدني حرج. وعلي ذلك فإنه إذا نهي الزائر عن الدخول إلي بيت غير بيته فلا يجوز له الإلحاح في طلب ذلك لأن الإلحاح في هذه الحالة لا يؤدي إلا للكراهة, وإحراج الطرفين, والله مطلع علي أعمالكم, وفي ذلك وعيد شديد للمخالفين لأوامره.
ويتضح وجه الإعجاز التشريعي في الآيتين الكريمتين (رقم 27 و28 من سورة النور) في أن الله تعالي يلزم عباده المؤمنين بقدر من أدب السلوك الذي يقتضي ضرورة الاستئذان والسلام قبل دخول البيوت التي يسكنها غيرهم, وبضرورة التلطف عند طلب الاستئذان بالدخول, وضرورة السلام علي أهل البيت المزار, مما يلطف العلاقات بين الناس, ويجعل الزائر مرحبا به, ومقدرا ومكرما, ويجعل المزورين سعداء بزيارته.
ومن آداب الإسلام ألا يدخل المسلم بيت غيره- وإن كانت أبوابه مفتحة- دون إذن أهل البيت, فقد لا يحبون أن يطلع غيرهم علي ما في البيت وهم غائبون عنه, وقد يكونون موجودين بداخله ولديهم من الأعذار ما لا يسمح لهم باستقبال الضيوف. وعلي هؤلاء أن يعودوا أدراجهم دون أدني حرج, لأن ذلك أزكي لهم وأطهر, خاصة وأن الله- تعالي- مطلع علي تصرفات كل مخلوق, وعليم بدقائق ذلك, فقاصد زيارة غيره إذا لم يأذن له ذلك الغير بالدخول إلي بيته فعلي الزائر الرجوع من حيث أتي دون أدني قدر من الحساسية, مقدرا أن أهل البيت قد يكونون في أمر يشغلهم عن استقباله, وهنا يتضح لنا وجه الإعجاز في هذا التشريع الإلهي الذي يؤكد أن الله- تعالي- قد جعل البيوت سكنا لبني آدم, تسكن فيها النفوس, وتطمئن القلوب, وتستر الحرمات والعورات. ومن أجل ذلك وجب أن تبقي البيوت حرما آمنا لأهلها, لا يستباح إلا بإذنهم ورضاهم وفي الوقت الذي يحددون.
المزيد من مقالات د. زغلول النجار
التعليقات (0)