ما من شك أنّ العالم العربي يعيش اليوم تلك الفرصة التاريخية النادرة التي تؤشّر لتحوّل عميق لا يتكرر في حياة الأمم إلا بعد صراع شرس مع زمن مديد يُقاس بالقرون.ذلك هو التاريخ في شموخه وكبريائه يأبى أن يُنجِز صرح منعرجاته الكبرى دون اختبار عسير ومرير لإرادة الشعوب وتَأكُّدٍ من أنّ ذاتَ الإرادة لا تزيدها المحن والويلات والخيبات وطول الانتظار إلا صلابة وإصرارا على بلوغ الغايات النبيلة والأهداف السامية التي تُكرّم الإنسان حرّيّةً وكرامةً وإبداعا حضاريا...
ما يحدث اليوم في العالم العربي هو من قبيل الدخول في عصر النهضة العربية الحقيقية التي ما كانت فيما سبق من مشاريعها غير تمهيد لذات اللحظة التاريخية الفارقة التي نحياها اكتشافا لمخزون هائل تفجّر في الإنسان العربي عطاء غزيرا سينهمر ويستمرّ...لئن كانت الزلازل العنيفة التي تدكّ اليابان اليوم تختبر لدى شعب هذا البلد مدى نجاعة تفوقها العلمي والحضاري في مواجهة الكوارث الطبيعية،فإنّه-تزامنا مع ذات الحدث المروّع- ثمة زلزال تصنعه إرادة الشعوب ويتسارع انتشاره ليشمل كل الوطن العربي...إنّ الثورة/الزلزال صنيعة الإنسان العربي شبيه في وقعه وأثره بالزلزال الطبيعي،إذ كلاهما رجّة ونسف واختبار وإعادة تَمَوْقُع في المكان والزمان...على أنّ زلزال الثورة العربية-لئن لا يختلف في عنفه عن زلزال الأرض اليابانية- هو لا يستهدف الأرض إنما كيان الإنسان العربي يُعيد بناءه ليكون صانع حضارة...
طيلة قرون خلت كان الفعل العربي في حركة التاريخ معطّلا،مشلولا،لا يقوى على غير التذمّر من قصوره والاحتجاج على الآخر الذي أمعن في إذلاله وطمس هويته وإرثه...مع ذلك ظلّ الوجود العربيّ حاضرا بقوّة في المشهد الحضاري وإن بدا متسكّعا على هامشه ومتسوّلا لِفُتَاتِه...كان وجودا مهيْمَنا عليه لكنّه متمرّدا على هذه الهيمنة التي تُخمِد تمرُّده،غالبا،لكنها لا تقدر على الإجهاز عليها نهائيا...أثبت العرب أنهم يحذقون فنون مقاومة الاستبداد فاستطاعوا طرد المستعمِر الأجنبيّ المتفوّق حضاريا من أوطانهم...لكنّهم ما لبثوا أن اكتشفوا أنّ استقلال الشعوب لا يتوقّف على تحريرها من استعمار أجنبي رغم كلّ التضحيات التي استوجبها ذات التحرير،بل إنّ الاستقلال،في حدّ ذاته،قد لا يعني سوى تعويض استعمار أجنبي باستعمار داخلي "وطني"...اكتشفوا أنّ الاستبداد هو الاستبداد أكان مستوردا أو محليا...بل لعلّه من المفيد القول:"وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند"...
إذا كان للاستعمار نظريتُه الاستبدادية التي أقام عليها سيطرته على مستعمراته وتحكّمه في أقدار شعوبها،فإنّ حكام العهد الأول من الاستقلال كانت لهم بديهة التقليد ومهارة النسخ عن النموذج الاستبدادي الاستعماري،استفادوا من هذا النموذج الذي –غالبا-ما كانوا الأكثر اكتواء بجحيمه وتضررا من قسوة زبانيته...بل إنهم طوروه نظرية حكم لشعوبهم تقوم على القمع للفكر الحر والحيلولة دون الاحتجاج عل سوء التدبير والتسيير ومصادرة النزعة الاجتهادية وإخماد روح المبادرة ولجم الإرادة الحرة.
لقد حسم حكام الاستقلال أمر شرعية الحكم لفائدتهم بعد أن ادّعوا شرعية ملكية مسجّلة بأسمائهم الشخصية لأوطانهم الأرض والشعب والجيش والتشريع والقضاء وكل ما يمكّنهم من النفوذ المطلق.وبما أنهم ورثوا عن الاحتلال الأجنبي نظريته في الهيمنة والاستبداد فلقد تفتقت مواهبهم العدوانية الفطرية والمكتسبة على فنون رهيبة من هذا الميراث الاستعماري البغيض...وبأسلوب التضليل والخداع نفسه،تقريبا، الذي برر به المستعمر احتلاله وإذلاله للشعوب التي استعمرها وجد حكام الاستقلال في هذا التبرير ما يصلح لاعتماده في قيادة شعوبهم بل أضافوا عليه ،ما حُرم منه الاستعمار،ألا وهو التباهي بأنهم سلطة "وطنية" قادت حركة التحرر بنجاح وانتزعت الاستقلال بفضل "شجاعتها البطولية وصمودها الأسطوري وعبقريتها الفذة..."،وعليه فإن الاستقلال مكسبهم والمحافظة عليه مسؤوليتهم لا يجوز تركها لعبث العابثين من رعاع الشعب ودهمائه،والحال أنهم من رحم هذا الشعب ولدوا ومن أوجاعه بلغوا مراتب الزعامة،ومن صموده استمدّوا بطولاتهم المزعومة...
كان زعماء العهد الاستقلال يخشون رصيد المقاومة الذي حذقته شعوبهم في مقاومة المستعمر فيمنعون كل تنظيم أهلي قد يتحوّل إلى سلطة مضادة وكل احتجاج عليهم بتعلة المحافظة على الوحدة الوطنية والحيلولة دون الفوضى،وكانوا ينزعجون إلى حد الخوف من كل فكر حر تحسُّبا من إخصاب زعامات شعبية..إن الفكر الحر،في عقيدتهم،مُحرِّض على العلاقة المحرّمة غير الشرعية التي ينجرّ عنها تناسل الزعامات،وهو تناسل،كما علّمتهم تجاربهم،بغيض لأنه قابل لمنازعتهم على السلطة...والحقيقة أن "الفكر الحر" ذَكَرٌ لِقاحُه لا يُخْصب إلا إذا استجاب له رحِمٌ قابل لإنجاب الزّعامات، وما من رحم قابل لهذا اللقاح غير البيئة الشعبية إن وَجَدت- بعد إهمالٍ-من يحذق مغازلتها ويرعاها رعاية القول والفعل...
لقد أسس زعماء الاستقلال لفلسفة حكم تقوم على شعارات تصاغ في قوالب بلاغية رنّانة ومضامين جوفاء، ضبابية تُلقّن إلى الشعوب لترديدها بمخارج حروف حماسية ولا يهم إن كانت مجرّد ترصيف للكلمات وتزويق لها دون أي وظيفة تُعهد بعهدتها غير إلهاب المشاعر الجماهيرية ولا وقع يُراد لها بلوغه غير الوقع الذي تحدثه الطبول الجوفاء إذ تُقرع...إنه الخطاب السياسي يعوّل على بديع اللغة وبلاغة البيان ليغازل أحلام الجماهير ويمنحها الأمل الكاذب في غد أفضل وفي كل شيء جميل ولذيذ ونبيل،والحقيقة أنه لا يمنحها إلا كل ما أبدعته اللغة العربية من قدرة على التخدير والتبرير،وهي قدرة لغوية تنصاع مطواعة،بفصيحها وعاميتها، لإرادة الحكام محدثة ما يرومونه من ضجيج وتأثير...إنها:"قصة العمر بين اللغة والسياسة..أسلمت اللغة نفسها بكل ما في جوارحها من طيبة وبكل ما في جذورها من براءة،ولكن الخاطب مستبدّ،فلقد أوقعها ثم جرّها إلى الأسر،فأمست سبية،فحوّلها إلى مطيّة يركبها لإنجاز أعظم المشاريع في تاريخ اللغة البشرية:الإلهاء وقضاء الأوطار-الرفيعة والوضيعة-باللغة،ثم الدخول بها إلى محتشد الإغراء والإغواء،ثم على جسر الإيحاء تُحمل اللغة إلى الجزر القريبة من التضمين والتداعي والالتفاف ،فإلى الجزر النائية من التخيّل والمجاز والإيهام بالتماهي،ثم إلى الهضبة القصية حيث المخاتلة والمكر والخداع والمناورة..وفجأة-وعلى غير ميعاد-تنبري للغة وظيفة أخرى توشك أن تتسع مناخاتها لترسم كل ضفاف التداول،إنها وظيفة الإلهاء،وإذا الناس يتبيّنون أن كثيرا من أقاليم السياسة منشؤها الإلهاء بالدلالات.."( د.المسدي عبدالسلام-من كتاب السياسة وسلطة اللغة،ص:166،167.)
واللغة حين تعاشر السياسة معاشرة الجارية للسيد تفقد طهارتها وكل سحرها وكبريائها إلى أن تتحرّر من القيود فيكون ثأرها مغازلة للثورة والثوار،ولعل اللغة العربية تتفوّق في الإغواء بديعا وأناقة وإيقاعا وتورية،ولذلك هي تؤذي الشعوب حين يطوّعها المستبد لأهوائه،وهي إذ تنقلب على هذا الأخير تجلده بسياط هجائها المقذع...
حين تتململ الشعوب العربية-مجرد تململ وتثاؤب- من الإعياء الخطابي، ينزعج حكامها ويقررون،في لحظة غضب وحنق،أنّ الكلام المعسول لم يعد نافعا،فيتوعّدونها بالويل والثبور وبئس المصير وبؤسه،إن هي انصرفت عن عبادتهم وعصت تعاليمهم...أما وعيدهم فلا تُؤمِّنه سلاطة لسانهم السلطوية فحسب،بل تحسمه حجّة قوّتهم الغنيّة بمواهب البطش والتنكيل...إنهم ،أيضا،بنفس الحزم السلطوي واعتمادا على القوانين الوضعية والشرائع السماوية،ينذرون(ومن أنذر فقد أعذر) من ُتسوّل له نفسه الأمّارة بالسّوء الإتيان بسلوك طائش غير مسؤول كالقضم،مثلا،من ثمار "الشجرة المحرّمة"،تلك الشجرة التي أخرجت آدم وزوجته من الجنة...ذات شجرة "مستوردة لعينة" تُسمّى الديمقراطية وحرية التعبير والتفكير وحقوق الإنسان مكّنت أصحاب الفخامة والجلالة من أن يتّحدوا مجمعين على نبذها،محذّرين شعوبها من تعاطي أفيونها،إذ يدّعون أنها دخيلة استعمارية آثمة يتسلل منها الشيطان لتضليل الإنسان العربي المسلم وتحريضه على الإفك والفجور وإثارة البلابل والفتن وإشاعة الفوضى والتباغض والعصيان والتواطؤ مع العدو والاستقواء بالأجنبي وخدمة أغراض الكفر والمجون...كل هذه الجرائم رذائل تغضب "الخليفة الأوحد لله الأحد،مالك البلاد والعباد والزعيم العبقري الفذ الذي وهبته الأقدار لوطنه عطاء إلهيا لن يتكرر"، وبالتالي وجبت أن تحلّ لعنة السماء بالخونة المارقين وببدع الكفر المستوردة من أعداء الوطن والله.ا..
أصحاب الفخامة والجلالة ورثة زعماء حركات التحرير وفجر الاستقلال وانقلابات "الإنقاذ" العسكرية،أثبتوا أنهم ليسوا،فقط،أشدّ استبدادا من آبائهم وأسلافهم،بل إنّهم أضافوا التفوّق في الفساد والوضاعة وخيانة أمانة المسؤولية...إنّ الأوطان التي يحكمون ليست،في شريعتهم، إلا ضيعات يمتلكونها،ديدنهم،نهب خيراتها وإذلال شعوبها وإباحة النيل من شرفها لمرتزقة الداخل والخارج مقابل استمرارهم في الحكم...هكذا أصبحت السلطة تعني أن يكون القائمون عليه عصابة "مافيا"،مصاصو دماء ولصوص و"حرامية"...
يقول خالد القشنطيني في كتابه:السخرية السياسية العربية
"هناك نادرة سمعتها في عديد البلدان العربية خلاصتها أن رجلا كان يصيح بأعلى صوته:حكومة حرامية؟ا.فاعتُقل وجيء به إلى القاضي فسأله:
-هل صحيح أنك قلت عن الحكومة أنها حكومة حرامية؟
-نعم،لكني ما قلت حكومتنا.
فسأل القاضي الشرطي الذي اعتقله:-هل ما يقوله الرجل صحيح؟
-نعم ما قاليش حكومتنا.
-وما الذي جعلك تعتقد أنه يقصد حكومتنا؟
-مفيش حكومة حرامية في الدنيا غير حكومتنا."
وفي الوقت الذي يزداد فيه بطش الحكام عربدة ويرتاحون لما ابتدعوه وبطانتهم من بهتان وبطلان ويصدّقون تخيلاتهم في إحكام قبضتهم الحديدية على شعوبهم تكون هذه الأخيرة قد صدّقت قصص خيالها الشعبي التي يلتقطها مثقفوها بلهفة واهتمام متزايد ليحوّلوها إلى نظريات في المقاومة الشعبية وثورتها على الدكتاتورية والشمولية وفساد الحكم وإلى ملاحم بطولية في فنون التصدّي للظلم تلهب الحماس وتوقد جذوة الأمل في الخلاص والإنقاذ من هول كارثة "الاستعباد الوطني"...ذلك هو الزلزال العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن وبقية بلدان الوطن الكبير الجريح...
وفي غفلة من الحكام،في التوقيت الذي هرمت فيه رموز السلطة العربية وصارت في غيبوبة،تحينت شعوبها اللحظة التاريخية الفارقة فانتفضت معلنة ثورتها على الاستعباد الوطني من أجل استكمال الاستقلال...الاستقلال حرية وانعتاق،وللحرية ثمن لا تقدر على دفعه إلا الشعوب الأبية المتجذّرة في الأرض والتاريخ.
التعليقات (0)